المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
حشود على مشارف غزة ضمن ما يسمى "عربات جدعون". (أ.ف.ب)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 58
  • وليد حباس

تتناول هذه المقالة العملية العسكرية الإسرائيلية المرتقبة والمسماة "عربات جدعون"، والتي قد تكون من أكثر العمليات العسكرية الإسرائيلية إثارةً للجدل والخطورة تجاه قطاع غزة. لا تُعد هذه العملية مجرد تحرّك عسكري قتالي، بل تمثل، في حال تنفيذها، تحوّلاً نوعياً في الاستراتيجية الإسرائيلية، عبر الجمع بين المناورات البرية، والتطهير المكاني للسكان، وتوظيف سرديات دينية وتاريخية تمنحها بعداً رمزياً يخدم صعود اليمين الإسرائيلي في ظل تراجع حماس الجمهور الإسرائيلي لمواصلة الحرب.

تعريف العملية وأهدافها

عملية "عربات جدعون" ليست مجرد اقتراح، بل باتت خطة عسكرية جاهزة للتنفيذ وضعها رئيس هيئة الأركان إيال زامير وأقرّها المجلس الوزاري المصغّر في 4 أيار 2025، وهي بانتظار "ساعة الصفر". تأتي هذه العملية بعد انهيار اتفاق وقف إطلاق النار الذي بدأ في كانون الثاني، حيث جرى استئناف القتال في آذار 2025 عقب انتهاء موجات تبادل الأسرى.

تهدف العملية إلى فرض سيطرة عسكرية ميدانية على الأرض، بحيث تتمكن قوات الاحتلال من إدارة حركة السكان عبر إقامة مناطق عازلة (تشبه الغيتوهات)، يتم فيها تجميع المدنيين الفلسطينيين، مما يتيح للجيش حرية العمل العسكري في بقية أنحاء القطاع. ومن أهداف العملية أيضاً: 1) تفكيك سلطة حركة حماس عبر ضرب بنيتها التحتية ونزع سلاحها. 2) استعادة الرهائن الإسرائيليين، رغم أن هذا الهدف يحتل مرتبة متأخرة بحسب تسريبات إعلامية، ما أثار انتقادات حيال أولويات القيادة. 3) إعادة رسم الخارطة الأمنية والديمغرافية للقطاع، بما يخدم مصالح إسرائيل الاستراتيجية.

تتطلب الخطة تعزيزاً عسكرياً واسعاً داخل غزة، واستخدام معدات ثقيلة لتدمير الأنفاق والمواقع العسكرية، إلى جانب تنسيق عسكري ثلاثي بين القوات البرية والجوية والبحرية. كما تتضمن الخطة تنفيذ عملية تهجير منظمة لسكان شمال القطاع نحو الجنوب، خصوصاً إلى ما بعد محور موراغ، حيث تخطط إسرائيل لإنشاء "منطقة إنسانية" مبدئية تستوعب 100,000 شخص كمرحلة أولى، على أن يتم توسيعها تدريجياً.

وسيتم توظيف أدوات دعائية بالعربية يقودها المتحدث باسم الجيش أفيحاي أدرعي لتشجيع السكان على "الإجلاء الطوعي". أما المساعدات الإنسانية فستكون تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة بالتنسيق مع شركات أميركية ومنظمات دولية مختارة، وفقاً لشروط أمنية صارمة. وسيُسمح فقط لممثل واحد من كل عائلة بالحصول على سلة غذائية أسبوعية (70 كغم) بعد اجتياز الفحص الأمني، ما يجعل الإغاثة أداة إضافية لإعادة تشكيل التوزيع السكاني في القطاع.

دلالات التسمية وأساطير الحرب

 

يحمل اسم العملية "عربات جدعون" دلالات دينية واستعمارية في آنٍ واحد. جدعون هو قائد توراتي من سبط منشي، وردت قصته في سفر القضاة، حيث قاد 300 مقاتل لهزيمة جيش المديانيين الضخم بأمر إلهي وخطة عسكرية ذكية.

سبق أن استخدمت إسرائيل هذه الرمزية في نكبة عام 1948، حين أطلقت "عملية جدعون" للاستيلاء على منطقة بيسان وتهجير سكانها الفلسطينيين. هكذا يتكرر توظيف الأساطير التوراتية لتأطير مشاريع الطرد والاستيطان، في إطار سردية استعمارية مقدّسة.

تروي القصة أن جدعون بدأ بـ 32,000 مقاتل، لكن الإله أمره بتقليص العدد. أولاً، سُمح للجبناء بالانسحاب، فغادر 22,000 رجل. ثم جرى اختبار الشرب من النهر، وتم اختيار من شربوا وهم واقفون ومتيقظون—300 فقط. هؤلاء خاضوا المعركة بإيمان ويقظة وانتصروا.

تشبه هذه الرواية الوضع الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر: تعبئة قومية شاملة بدأت بشعار "معاً ننتصر"، ثم تراجعت تدريجياً مع طول أمد الحرب والخسائر، لينقسم المجتمع بين من يريد إنهاء الحرب في مقابل استعادة الأسرى، ومن يصرّ على استكمالها حتى "النصر". في هذا السياق، يظهر من تبقى من مؤيدي الحرب كـ"جنود جدعون": أقلية متماسكة، مؤمنة، ترى نفسها في مهمة مقدسة رغم العزلة.

تتلاقى هذه السردية مع المخيلة الغربية عن "الحضارة في مواجهة الهمجية"، كما يتجلى في "فيلم 300" الهوليوودي (من إنتاج العام 2007)، الذي يصور قلة منظمة من الإسبارطيين تقاتل جحافل فارسية إيرانية "همجية". كذلك، يتم تصوير الجيش الإسرائيلي كقوة تحمل "النور" ضد "قوى الظلام"، في مشهد يُخفي العنف الواقعي ضد المدنيين، والطرد الجماعي، وتفكيك المجال السكاني الفلسطيني.

في المجمل، فإن "عربات جدعون" ليست مجرد عملية عسكرية، بل مشروع سياسي- أمني- رمزي لإعادة صياغة السيطرة الإسرائيلية على غزة، باستخدام أدوات دينية وأسطورية تمنحها غطاءً رمزياً. إن خطورتها لا تكمن فقط في تداعياتها على المدنيين، بل في كونها تعيد إنتاج مفاهيم "الشرعية" و"السيطرة" عبر مزيج من الأسطورة والتفوّق العسكري، مما يشكّل تحدياً صارخاً للقانون الدولي ولمبادئ العدالة الإنسانية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات