المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

● الكتاب: "من دير ياسين إلى كامب ديفيد، مقالات شخصية، سياسية وتاريخية"
● المؤلف: بيني موريس
● الناشر: دار "عام عوفيد" ـ تل أبيب، 2018
● 256 صفحة (بالعبرية ـ ترجمة من الإنكليزية: غاي هرلينغ)

يقرر أبراهام بورغ، الرئيس السابق للكنيست الإسرائيلي ثم للوكالة اليهودية ومؤلف كتاب "لننتصر على هتلر" (صدرت ترجمته العربية عن مركز "مدار")، أن الكتاب الجديد الذي أصدره المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس، بعنوان "من دير ياسين إلى كامب ديفيد ـ مقالات شخصية، سياسية وتاريخية"، باللغة الإنكليزية أصلاً، ثم صدرت ترجمته العبرية في إسرائيل في أيار 2018، "لم يكن ثمة ما يبرر إصداره"، مضيفا أن المؤلف (موريس) "يعرف هذا"، استنادا إلى ما كتبه موريس نفسه في مقدمة كتابه الجديد، حين قال: "قُلت، قبل بضع سنوات... إنني لا أعتزم تأليف كتب جديدة أخرى (عدا التسعة التي أصدرتها، حتى ذاك الوقت) عن الصراع العربي ـ الصهيوني. لقد كتبتُ ما فيه الكفاية" (ص 7)! ويزيد بورغ: "حقاً، لقد وضع موريس كتباً أخرى، بعضها ممتاز، وبرغم ذلك قرر نشر هذه المجموعة من المقالات... وخسارة أنه فعل، لأن هذا الكتاب هو أحد أسوأ ما أنتج أحد أكثر المؤرخين الموهوبين لدينا"!

لماذا أصرّ موريس، إذن، على نكث تعهده ونشر هذا الكتاب الجديد؟ يوضح، في المقدمة إياها: "خطر في بالي تجميع بعض المقالات... التي كان الكثير منها غير متاح للقارئ الإسرائيلي باللغة العبرية". لكن بورغ يدحض هذه الحجة بوصفها بأنها "غير مقنِعة"، مضيفاً أن "لموريس أهدافاً أخرى من نشر هذا الكتاب، كما أراها أنا كقارئ، تشمل: الاعتذار، تصفية حسابات شخصية ومحاولة مثيرة للشفقة لتصوير نفسه بأنه نبيّ بصورة ارتجاعية، من قبيل: ألم أقلْ لكم؟"!

في قراءته النقدية (صحيفة هآرتس، 13/7/2018)، يقسّم بورغ كتاب موريس الجديد إلى أربعة أبواب: القضايا الآنية الجارية، التاريخ، المؤرخون وقضايا شخصية. ويضيف أن الكتاب، بمجمله، عبارة عن مجموعة مختارة، بصورة انتقائية حادة، من أفكاره خلال السنوات الـ 25 الأخيرة، موجهة جميعها إلى "الأحداث الجارية في 2018". ومن بين المواضيع التي تعالجها مقالات الكتاب: الخطر النووي الإيراني، شخصيات من الماضي مثل ياسر عرفات، حاييم فايتسمان وألبرت آينشتاين، قضايا تاريخية عاصفة منذ العام 1948 (مجزرتا دير ياسين والطنطورة)، قمة كامب ديفيد وآراء المؤلف في شخصيّ إيهود باراك ودينيس روس. غير أن "الجزء المُحبب لديه، كما يبدو، هو الشجار المهني (المنخفض جدا) مع زملاء له تجرأوا على الاختلاف معه، وفي مقدمتهم إيلان بابه، ثم آفي شلايم وهليل كوهن"، كما يكتب بورغ ويضيف: "ويختتم الكتاب بفصلين شخصيين جدا وغير مهمّين عن الفترة التي قضاها في السجن العسكري جراء رفضه تأدية الخدمة العسكرية في المناطق إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى وعن ذكرياته من إصابته في قناة السويس إبان حرب الاستنزاف".

ينوّه بورغ إلى أنه "لا فائدة من مناقشة موريس" لأنه "خلق لنفسه عالما موسوماً بالكمال"، ومع ذلك، يتوقف بورغ عند تجاهل موريس التام وعدم مناقشته مقولة إيهود باراك بأن "العرب هم نتاج ثقافة لا يثير فيها الكذب أي استياء. إنهم لا يعانون من المشكلة القائمة في الثقافة اليهودية ـ المسيحية بخصوص الكذب. فالكذب يعتبر أمراً غير ذي أهمية" (ص 147). ويتساءل بورغ: هل العرب (جميعا) كذابون، حقا؟ وهل لا يجوز تصديق أي كلمة يقولونها لأن كل ما يهمهم (جميعا) هو إبادة دولة إسرائيل، بطريقة أو بأخرى، وهو ما ينتج عنه كل شيء آخر؟. الفلسطينيون هم المذنبون في كل شيء وهم المسؤولون عن كل شيء، ولذا فهو (موريس) يعلن في أحد عناوينه: "سلام؟ لا أمل" (ص 25). من جانبه، يمكننا مواصلة الاستنقاع في الرضى الذاتي الذي نسبح فيه، سوية مع كل موبقات العربدة والاحتلال التي في حوزتنا!

يشير بورغ إلى قول موريس، في أحد مقالات الكتاب: "إنني أومن، في نهاية المطاف، بأن ميزان القوة العسكرية أو الميزان الديمغرافي هو الذي سيقرر مصير الدولة: إما أن تصبح دولة يهودية، بدون أقلية عربية وازنة، وإما أن تصبح دولة عربية ذات أقلية يهودية تتضاءل باستمرار، وإما أن تصبح موقعا للنفايات النووية وتتوقف عن كونها بيتا للشعبين معاً" (ص 32).

ضحايا بأثر رجعي وعدم موثوقية

يصف موريس نفسه بأنه "يحب التفاصيل" (ص 197) ويقتبس من كلام إيهود باراك قوله إنه "عرض على عرفات 92% من مساحة الضفة الغربية" (ص 151)، لكنه يعود لاحقا ليصف عرض باراك بأنه "دولة فلسطينية على 91% من مساحة الضفة الغربية" (ص 175)! ويعلق بورغ: "هل هي نسبة الـ1% إذن، أم رُبع الخلاف؟ هل هو انحراف معياري أم خطأ كتابي جوهري ومميز لموريس؟... هو عدم الدقة الموزع في كل فصل من فصول الكتاب تقريبا. على سبيل المثال: "قُتل 29 إسرائيليا ... في فندق في نتانيا" (ص 155)، ومقابل ذلك: "في فندق بارك في نتانيا... قُتل 35 شخصا" (ص 172)! وهذا، رغم أن جميع المواقع الإخبارية والمصادر الرسمية تحدثت عن مقتل 30 شخصا في العملية التي وقعت في فندق نتانيا ليلة عيد الفصح العبري في العام 2002. فمن هم، إذن، "ضحايا موريس" الناقصون أو الإضافيون؟؟".

ثم يقرر بورغ: "في قضية الموت، إجمالا، موريس ليس مصدرا موثوقا على الإطلاق... فثمة نماذج عديدة لضحايا ناقصين أو زائدين على طول صفحات الكتاب". ومنها: "في المجتمع اليهودي في الخليل، قُتل 66 رجلا، امرأة وطفلا، جميعهم من الحريديم الذين لم يتعاطفوا مع المشروع الصهيوني" (ص 195)، لكن جميع المعطيات الرسمية تؤكد أن عدد اليهود الذين قتلوا في الخليل سنة 1929 كان 67 شخصا، أحدهم هو خال بورغ نفسه، إليعازر دان سلونيم، الذي كانت صورة هرتسل معلقة في منزله وكان والده (جدّ بورغ) ممثل الحركة الصهيونية في مدينة الخليل، ولم يكن حريديا.

في مقالة نقدية لكتاب هليل كوهن "هبة البراق 1929 ـ سنة الصدع بين اليهود والعرب" (صدرت ترجمته العربية عن مركز "مدار" في أيار من العام الجاري)، يدعي موريس بأن الكتاب "مكتوب بأسلوب شيق وأخاذ ويخوض في تفاصيل التفاصيل"، لكنه سرعان ما يتحول إلى الهجوم، في مقالته المعنونة بـ"تسلسل كاذب لعدوان يهودي" (ص 201): "في 23 آب، مع انتهاء صلاة الجمعة والخروج من المساجد، بدأت جموع العرب بمهاجمة اليهود... في حي الجورجيين وفي ميئا شعاريم قُتل العشرات". يتساءل بورغ: "عشرات؟... من أين يأتي موريس بهذا؟ ها هو يَقتل، مرة أخرى، بأثر رجعي ودون أية رحمة... ذلك أن هليل كوهن يصف، بمهارة وموثوقية، ما حدث هناك، معتمدا على مؤلف هام وموثوق ليسرائيل عميكام بعنوان "الهجوم على الييشوف اليهودي في أرض إسرائيل في 1929"، الذي كُتب ونُشر فور انتهاء الأحداث مباشرة. يقرر كوهن، على خطى عميكام، أن ثمانية يهود قُتلوا في حي الجورجيين يمكن العثور على أسمائهم، واحدا واحدا، على موقع "داعَت"، بينما في ميئا شعاريم لم يُقتل أي يهودي. القتيلان اللذان سقطا في هذا الحي كانا عربيين، أحدهما بائع متجول دخل إلى الحي صدفة والثاني أحد المهاجمين. فهل من الممكن أن موريس لم يقرأ كتاب كوهن، أصلا وإطلاقا؟ بل أسوأ من هذا، هل من الممكن أنه قرأه لكنه لم يطبق على نفسه القاعدة التي حددها هو حين قال إنه "يتولد منه (من كتاب كوهن) شعور بقصر النظر غير الأكاديمي، الاستخدام الانتقائي للوثائق، بما يدل على تحيّز..." (ص 166). وهذه ليست النماذج الوحيدة لعدم الدقة".

حين لا يجد موريس ما يقول، يجند "أسانيد" لما يدّعيه "من عالم الخيال": "أستطيع رؤية حافظ الأسد على فراش الموت وهو يقول لابنه "مهما حصل، لا تصنع السلام مع اليهود. سوف يختفون مثلما اختفى الصليبيون" (ص 26). هل هذا ما يمكن أن يكتبه شخص يقول عن نفسه وعن مهنيته: موقفي الشخصي هو أن وظيفة المؤرخين هي محاولة التوصل إلى الحقيقة بأكثر ما أمكن من الموضوعية والدقة (ص 206)"؟؟

موقف ملتوٍ تجاه الشرقيين

يرى أبراهام بورغ أن كتاب موريس هذا "الذي يفتقر إلى خيط يربط بين فصوله، باستثناء رحلة المؤلف الداخلية في سراديب أنويّته"، يجعل من الصعب على الناقد التطرق إلى فكرته المركزية! "إلا إذا كان الكاتب نفسه ومكانته في الحياة العامة والمهنية هي الثيمة المركزية في الكتاب، كما هي الحال هنا"!

ثم يضرب مثالا على ما ذهب إليه التحليل الذي يسوقه موريس، في فصل عنوانه "تاريخ"، لموقف الرئيس الأول لدولة إسرائيل، حاييم فايتسمان، من العرب. ففي الفترة الزمنية التي عاش فيها فايتسمان، "كان هذا الموقف يبدو مفهوما ضمنا، على خلفية الاستعلاء الغربي ـ الكولونيالي الذي كان يشكل جزءا بنيويا من الخطاب السياسي. فقد تبنى فايتسمان "رؤية العالم القديم تجاه الأصلانيين"، رفض كون العرب الفلسطينيين شعباً قائما بذاته... لكنه قبل، في النهاية، بفكرة التقسيم وحل الدولتين... كأوروبي ليبرالي ومتنور، وجد خللا عميقا في تصرف اليهود تجاه المواطنين العرب، خاصة وأن هذا التصرف قد ذهب إلى تطرف حاد وصل إلى حد التنكيل والمذابح.." (ص 69). ورغم أن هذه الأمور "يُفترض أن تكون محظورة تماما اليوم" ـ يضيف بورغ ـ إلا أن الفصول الشخصية في الكتاب تكشف أن "الفايتسمانية إياها لا تزال حيّة وفاعلة في شخص موريس نفسه"، الذي لا يزال يتبنى "الموقف النفسي نفسه، من القرن الـ 19... توجه عنصري حيال الشعوب والبلدان"!

وثمة أمثلة أخرى "لا تجدها إلا عند موريس الذي يصف نفسه بأنه انزاح يميناً"، كما ينوه بورغ، لكنها ـ في الحقيقة ـ جزء لا يتجزأ من الحمض النووي (دي. إن .إيه) المشترك لكثيرين من أوساط "الصهيونية الليبرالية": فجميع العرب، في نظره، هم "محمد"! وإلا، لما استبدل اسم البروفسور محمود يزبك، زميله ورئيس قسم تاريخ الشرق الأوسط في جامعة حيفا، باسم "محمد" في جميع المواقع التي ذكره فيها بين دفّتي الكتاب! وإجمالا، يُغدق موريس على القادة الفلسطينيين جميعاً أوصافاً تحقيرية: "ياسر عرفات ... سيء السمعة المعروف بنفاقه، كان كذاباً دائما"، بينما "محمود عباس يروج الأكاذيب والتلفيقات" (ص 21)، وكذلك آخرين من الشخصيات الفلسطينية الرفيعة.

في المقابل، تجد أن "قيادات موريس لا تشوبها أية شائبة"، فإيهود باراك، شمعون بيريس، دافيد بن غوريون وبنيامين نتنياهو وآخرون لم ينطقوا بأية كذبة، على الإطلاق، كما يلاحظ بورغ ساخراً!

غير أن موريس ـ حسب قراءة بورغ ـ ينسخ هذا الموقف (الذي يقول إن "العرب، عموما، شيء بينما اليهود ـ الغربيون، خصوصا ـ شيء مختلف تماما") ويستخدمه في السجال الإسرائيلي الداخلي أيضا، وخصوصا في موقفه من العرب اليهود، الشرقيين. "الرقيب شاؤول... من عائلة مغربية، يطرح ردودا عاطفية، ردودا مميزة لليهود الشرقيين" (ص 241). وفي موقع آخر: "الحقيقة أن يهودياً ـ حتى وإن كان الأمر في غمرة الجدال، وحتى لو كان شرقيا..." (ص 245). أو حين يروي عن صديقين التقاهما في السجن، أحدهما "إسرائيلي من أصل أميركي" (ص 243) والآخر "درويش، يهودي كردي" (ص 244)، أي أن الأميركي قد أصبح إسرائيليا، بكل ما تعنيه الكلمة، رغم أنه وُلد في أميركا، بينما سيبقى الكردي "درويشا" مدى الحياة، رغم أنه قد يكون من مواليد البلاد أصلاً!

أما "المثال الأفضل" الذي يراه بورغ عن "الحمض النووي (دي. إن .إيه) المشترك لكثيرين من أوساط الصهيونية الليبرالية"، كما يجسده موريس نفسه في كتابه هذا، فهو ما يسرده من ذكرياته عما أعقب إصابته البالغة في حرب الاستنزاف، حيث "تحلق الأطباء حوله، متطوعين من خارج البلاد ـ من الولايات المتحدة، بلجيكا وفرنسا ـ قدموا لتقديم المساعدات. كان الجراح الرئيسي يهوديا سمينا وقصير القامة، ذا وجه مدوّر، من بلاد فارس... كانت له يدان بنيتا اللون وأصابع ثخينة، مغطاة بشعر كثيف أسود" (ص 253). ويضيف بورغ: "لجميع الفارسيين يدان مشعرّتان، أليس كذلك؟ أما البلجيكي، فليس الأمر مهما، لأن لا شعر أسود على جسمه بالتأكيد، مثل الأشكنازيين، ومثل البروفسور موريس بالطبع"!

غياب الفهم الأساسي

يؤكد بورغ، في ختام قراءته لكتاب بيني موريس الجديد، أن المؤرخ "يمتاز هنا بالمثابرة الحازمة في عدم الاتساق المثير للحرج والارتباك". فهو "لا يحب البروفسور آفي شلايم، لكن مناقشة شلايم أو انتقاده يحتاجان إلى قدر كبير جدا من العقل والمعرفة، وليس إلى تناقضات داخلية عديدة، كهذه مثلا: في أحد المواقع، يورد موريس مقتبساً عن شلايم يقول فيه "إنني (شلايم) أقبل تماماً بشرعية دولة إسرائيل في إطار حدود ما قبل حزيران 1967" (ص 169). ولكن، بعد صفحتين اثنتين فقط، يورد ما يناقض ذلك تماما: هو (شلايم) لا يستخدم كلمة "عادلة"، في أية مرحلة، في حديثه عن التطلعات الصهيونية ما قبل العام 1948 أو بعده" (ص 171). هل تقرأ ما تكتبه بنفسك، أيها البروفسور؟"!

"بعد الانتهاء من هذه القراءة المربكة"، يقول بورغ، "بحثتُ في الشبكة العنكبوتية عن مقابلات أجراها بيني موريس مع قادة عرب وفلسطينيين، لكنني لم أجد. تساءلتُ في نفسي: هل هي حقيقية وصادقة، إذن، تلك الشائعة القوية التي تقول إن موريس، الخبير في تاريخ الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، لا يقرأ اللغة العربية؟ هل يكتفي الخبير بأن تكون كل مرجعياته غربية، كولونيالية ومفتقرة إلى الفهم الأساسي للطرف الآخر، لغته وثقافته وتطلعاته؟"! ثم يضيف: "اتضح لي في النهاية أن موريس، الذي أرّخ لنا النكبة وفظائعها، قد غدا إمّعا صهيونياً مهملاً. ومن غير الممكن وصف كتابه هذا إلا بما وصف هو نفسه أحد كتب عدوّه اللدود، إيلان بابه، حين قال عنه: "كتاب فظيع حقا، يجيّر التاريخ لأغراض إيديولوجية سياسية ويتضمن أخطاء، كمية ونوعية، لا يمكن العثور عليها في أي عمل تأريخي جديّ، على الإطلاق"!

"خسارة أننا لم نطرد جميع الفلسطينيين في 1948"!

قال بيني موريس، في مقابلة أجراها معه آري شفيط ونُشرت في صحيفة "هآرتس" (5/1/2004)، إن "التحوّل لديّ حصل بعد العام 2000. لم أكن متفائلا كثيرا قبل ذلك، رغم أنني كنت أصوّت لحركة العمل أو لحركة ميرتس، بل وتعرضتُ للسجن في العام 1988 جراء رفضي تأدية الخدمة العسكرية في المناطق، لكن شكوكا كانت تساورني دائما بالنسبة لنوايا الفلسطينيين الحقيقية. ما حصل في قمة كامب ديفيد وما تلاها من تطورات حوّلت الشكوك لديّ إلى يقين. فحين رفض الفلسطينيون العرض الذي قدمه لهم إيهود باراك في تموز 2000، ثم اقتراح كلينتون في كانون الأول 2000، أدركت أنهم غير مستعدين لقبول حل الدولتين. إنهم يريدون كل شيء ـ اللد، عكا ويافا"!

هكذا يبرر المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس تغيير ليس فقط موقعه السياسي وإنما منهجه البحثي التأريخي أيضا، وما تخلله من تطليق لظاهرة "المؤرخين الجدد" الإسرائيليين التي كان هو أحد روادها من خلال تنقيبه في تاريخ قضية اللاجئين الفلسطينيين، وخصوصا عبر كتابه الأول "ولادة مشكلة اللاجئين 1947 ـ 1949" الذي صدر للمرة الأولى في العام 1988.

والآن، في إثر صدور كتابه الجديد عن الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني ("من دير ياسين إلى كامب ديفيد")، يعود موريس إلى توضيح وتبرير ما حصل من "تغيير جوهري" لديه، وذلك في مقابلة أجرتها معه صحيفة "يديعوت أحرونوت" ونشرت في ملحقها الأسبوعي (20 تموز 2018)، مستهلاً بالتأكيد: "لا أؤيد رفض الخدمة العسكرية في المناطق (الفلسطينية المحتلة)"! ثم يضيف: "أتفق مع نتنياهو (رئيس الحكومة الإسرائيلية) في أمرين مبدئيين: الأول، أن الحركة الوطنية الفلسطينية تسعى إلى تدميرنا وإبادتنا. فهي لن تقبل بأية تسوية إقليمية وبتقسيم البلاد. إنهم يحاولون أن يخدعونا ويخدعوا العالم بأسره من أجل أن تكون فلسطين كلها بين أيديهم وتحت سلطتهم. والثاني، نتنياهو محق أيضا في قوله إن إيران محكومة من قبل قيادة تسعى إلى إبادتنا. إنهم يعتبروننا سرطانا في الشرق الأوسط ويسعون إلى امتلاك قنابل نووية ولا بد من أن يحققوا ذلك ذات يوم. وإذا ما اعتقدوا بأنهم سيخرجون سالمين، فلن يترددوا في الضغط على الزر".

وعن رأيه بأحداث "الربيع العربي"، يقول موريس: "لا يزعجني أنهم يقتلون بعضهم بعضا، بل يزعجني أنهم يريدون قتلنا نحن. إذا كان ما يحبون هو قتل بعضهم بعضا، فهنيئا لهم"!

أما عن سبب تغيير موقفه فيما يتعلق بالصراع العربي ـ الفلسطيني، فيقول موريس: "إنه الانتفاضة الثانية. فقد كانت نية عرب فلسطين من خلالها واضحة صريحة ـ تدمير دولة إسرائيل. خلافا للانتفاضة الأولى، التي كانت تمردا من أجل إنهاء الاحتلال في الضفة وغزة، جاءت الانتفاضة الثانية التي أرادوا من خلالها قتلنا جميعاً. إنهم لا يريدون أن يكون هنا كيان يهودي سياسي وقد أثبتوا ذلك في العام 2000 برفضهم التسوية التي لم تكن إسرائيل قادرة على منح شروط أفضل مما قدمته آنذاك"!

لكنّ موريس لا يتوقف عند المراجعة من العام 2000 فقط، بل يعود إلى ما قبل ذلك بكثير ـ إلى "بدايات المشروع الصهيوني" وإلى "الخطأ" الذي ارتكبته القيادات الصهيونية، ثم الإسرائيلية، بعدم طرد أعداد من الفلسطينيين تفوق بكثير ما تم طرده فعليا، بل "طرد جميع العرب" (الفلسطينيين). ويقول: "كان المشروع الصهيوني، منذ بداياته، واقعاً تحت حصار أناس أرادوا تدميره والقضاء عليه. ومن أجل مقاومة الحصار وإزالته، أو الصمود في وجهه على الأقل، يتعين عليك استخدام كل ما أوتيت من قوة. كان المشروع الصهيوني يتمثل في إنشاء دولة يهودية في بلاد كان العرب يشكلون تسعة أعشار سكانها. وقد استوجب ذلك، على ما يبدو، اقتلاع عرب كثيرين خلال العام 1948. وأنا أدّعي بأنه لو انتقل جميع عرب أرض إسرائيل إلى الأردن، لأقيمت دولة فلسطينية هناك، في الضفة الشرقية من نهر الأردن، ولكان في ذلك حل لكثير من المشكلات وتفكيك لكثير من أسباب العنف"!

ورداً على سؤال الصحيفة عما إذا كان هذا الكلام ينسجم مع دعوات راهنة في اليمين الإسرائيلي إلى "تنفيذ نكبة ثانية وإتمام ما لم يستطع بن غوريون إنجازه"، قال موريس: "كلا. في اللحظة التي أهدرت هذه الفرصة التي كانت مواتية في العام 1948، انتهى الأمر. ففي 1948، فور انتهاء الحرب العالمية الثانية وفي أعقاب الهولوكوست، كان من الممكن تنفيذ لك، لكن هذه الفرصة أهدرت، وهذه خسارة"!

الفلسطينيون في إسرائيل ـ قنبلة موقوتة وقد يواجهون الطرد!

يعتبر بيني موريس العرب الفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل "قنبلة موقوتة"! ويقول إن "نزعتهم نحو الفلسطنة التامة قد جعلتهم ذراعا للعدو بين ظهرانينا. إنهم طابور خامس، بالاحتمال. قد يزعزعون الاستقرار في الدولة، من الناحيتين الديمغرافية والأمنية. ولهذا، إذا ما وجدت دولة إسرائيل نفسها، ثانية، أمام خطر وجودي كذاك الذي واجهته في العام 1948، فمن المحتمل أن تضطر إلى التصرف بمثل ما تصرفت آنذاك"! ويضيف: "إذا ما تعرضنا لهجوم إيراني ومصري (في حال حصول ثورة إسلامية في القاهرة) وسوري وبدأت صواريخ كيميائية وبيولوجية تتساقط على مدننا، فيما يحاول الفلسطينيون الإسرائيليون المسّ بنا من الخلف، فلا أستبعد إجراء الطرد. قد يحدث هذا، حقا. إذا ما واجهت إسرائيل خطرا وجوديا وتصرف عرب إسرائيل كأعداء لا كمواطنين مخلصين، فسيكون الطرد مبررا ومحقا"!!

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات