المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • منوعات
  • 2788

التقرير الذي أصدره مركز "بتسيلم" يوم الأربعاء (25 أيار) يشكل، في خلاصته الأخيرة والقرار الذي انبثق عنها، تطوراً مدوياً رغم أنه لم يحظ ـ لأسباب واضحة! ـ بما يستحقه من التغطية الإعلامية التي توازي أهميته وجوهرية الموقف الذي يحمله من حيث كونه نقطة تحوّل هامة، ليس على صعيد العمل والممارسة اليوميين فقط، وإنما على صعيد الوعي لواقع الأمور وحقيقة صيروراتها.

فبعد 25 عاماً من العمل والتعاون مع جيش الاحتلال وأذرعه (القضائية العسكرية، أساساً)، يستجمع "بتسيلم" قدرا كبيرا من الشجاعة والجرأة ليعترف بأن معالجاته وتدخلاته ـ في إطار هذا التعاون ـ لم تؤدّ ولا تؤدي إلى تحسين حقوق الفلسطينيين، وأكثر من هذا وأهمّ: إنه (المركز) "يخدم، فعليا، مواصلة شرعنة الاحتلال، بدلا من تحسين حقوق الفلسطينيين" و"يساهم في نهج العرض التحريفي الهادف إلى شرعنة الاحتلال"، ليصل في ختام تقريره المعنوَن بـ"ورقة التوت التي تغطي الاحتلال: جهاز تطبيق القانون العسكري كأداة للتمويه"، إلى إعلان قراره بالتوقف عن التعاون مع هذا الجهاز (النيابة العسكرية، تحديداً).

وبصرف النظر عن المعطيات الكثيرة التي تضمنها التقرير بشأن عدد الشكاوى التي تقدم بها إلى سلطات الجيش على خلفية انتهاكات موضعية وعينية لحقوق فلسطينيين في الضفة الغربية وكيفية تعامل سلطات الجيش معها ونتائج معالجتها، تبقى الحقيقة المركزية الأهم في توصّل "بتسيلم" إلى الاستنتاج المنطقي الوحيد المتاح، تأسيسا على هذه المعطيات وما تراكم تحتها من تجارب.

وعلى النقيض التام مما أكدته منظمة "لنكسر الصمت" في خلاصة شريط دعائي أصدرته ونشرته في اليوم نفسه، عن أنها "مستمرون ـ اليوم، غداً وحتى ينتهي الاحتلال"، عبـّر تقرير "بتسيلم" عن فهم عميق للحقيقة المركزية التالية: ليس فقط أن الاحتلال لن ينتهي بفعل عمل هذه التنظيمات ونشاطاتها، وإنما ـ وهذا هو الأخطر ـ أن هذه التنظيمات، بعملها ومنهجياته، تساهم في تكريس الاحتلال وشرعنته ـ محليا ودوليا ـ وفي التغطية على جرائمه وفي تجنيب دولة إسرائيل أية مساءلة أو مقاضاة جنائية وفق أحكام القانون الدولي ومقتضياته.

كل ذلك لأن تعاون سلطات الجيش المعنية مع "بتسيلم" وسواه من منظمات "المجتمع المدني" الناشطة تحت راية "حقوق الإنسان"، لا يتم إلا في نطاق واقع الاحتلال، مواصلته وتكريسه، بما يستدعيه ويبثـّه هذا من شرعنة أخلاقية وقانونية، محلية ودولية، تقوم على "استعانة النيابة العسكرية بمنظمة بتسيلم ومنظمات أخرى للوصول إلى المشتكين (من الفلسطينيين في الضفة الغربية) من أجل تقصي الحقائق"، وفق ما أوضحه المستشار القانوني الحالي للحكومة، أفيحاي مندلبليت، إبان إشغاله منصب "النائب العسكري العام".

أما "تقصي الحقائق" الذي ذكره مندلبليت فهو ما تحتاج إسرائيل إلى إظهاره وإثباته كحجة دفاعية تصدّ بها دعاوى جنائية مقدمة إلى محكمة الجنايات الدولية ضد جنودها، قادتها العسكريين أو ساستها بشبهتي "جرائم الحرب" و"الجرائم ضد الإنسانية"، بوجه أساس. فطبقا لأحكام القانون الدولي ودستور هذه المحكمة، تكون الدولة المعنية (المتهـَمة) في حِلّ من المثول أمام هذه المحكمة، نظراً لسقوط مقبولية الدعوى أصلاً، "إذا كانت تجري التحقيق أو المقاضاة في الدعوى دولة لها ولاية عليها، ما لم تكن الدولة حقاً غير راغبة في الاضطلاع بالتحقيق أو المقاضاة أو غير قادرة على ذلك" (المادة 17، البند 1ـ أ من "نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية").

قد نتفق، جزئيا، مع ما يدعيه البعض عن فائدة (محدودة جدا، كما يشرح ويؤكد تقرير "بتسيلم" نفسه) في عمل هذه المنظمات تتمثل أساساً، وربما حصرياً، في حل نزر ضئيل من مشكلات عينية هنا وهناك وما يمكن اعتباره، في المحصلة، تخفيفا من معاناة أفراد من أبناء الشعب الواقع تحت الاحتلال. غير أنه من الضروري هنا عدم إغفال أو تغييب حقيقة أن نشاط هذه الجمعيات والتنظيمات كلها وبالمجمل هو نشاط لاحق، لا سابق. بمعنى، أن اطلاعها على بعض الانتهاكات الموضعية ورصدها، ثم تدخلها العلاجي، يأتي بعد أن تكون هذه الانتهاكات قد وقعت. وهذا يعني أن محور نشاطها يقتصر على التوثيق، الكشف والإعلام والتدخل في محاولة للمعالجة، بينما لا يساهم في منع وقوع هذه الانتهاكات، قطعيا تقريبا.

لكن في مقابل هذه الفائدة، في ميزان الربح والخسارة / الفوائد والأضرار، ثمة ضرر جسيم على النضال الحقيقي ضد الاحتلال، المؤهل لإنهائه وتصفيته وتحرير الشعب الفلسطيني وتحقيق استقلاله على جزء من تراب وطنه التاريخي. ذلك أن نشاط "بتسيلم" و"لنكسر الصمت" وأخواتهما لم يغيّر شيئا جوهريا في واقع الاحتلال وواقع معاناة الشعب الواقع تحته. لم يُسهم سوى في تكريس الاحتلال وتجميل صورة "الديمقراطية الإسرائيلية" التي تجيز مثل هذه المنظمات وتتيح لها حرية الحركة والعمل! وهو نشاط يشكل جزءا عضويا من رؤية "معسكر اليسار/ السلام الإسرائيلي" الفكرية وتطبيقها الفعلي، سيّان كان هذا "اليسار" في سدة الحكم أو في هوامش المعارضة.

فمن المؤكد أن هذا المعسكر، الذي ابتدع أكذوبة "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، يركّز جل نشاطه السياسي والإعلامي في تجميل صورة الاحتلال وجيشه، من خلال أدائه السياسي ومن خلال ما أقامه ويرعاه من "جمعيات ومنظمات إنسانية" تنشط ضد ما تسميه "ممارسات غير أخلاقية" و"أعشاباً ضارة". لكنّ المعركة الحقيقية تستهدف إنهاء الاحتلال وتصفيته، لا التخفيف من جرائمه وجعله أكثر "أخلاقية" و"إنسانية"!! وفي هذه المعركة، الحقيقية، تسقط هذه المنظمات وكل ما خلفها من "يسار" يشغّلها ويدعمها، لأن ما يمكن أن ينهي الاحتلال، فعلا، هو عاملان اثنان بالأساس: ضغط داخلي يتراكم من تصعيد وتوسيع رفض الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال، وضغط خارجي يتمثل في حملة المقاطعة الدولية، تصعيدها وتوسيعها. وهذان العاملان، المركزيان الحاسمان، يعارضهما هذا "اليسار" ويرفضهما ويتصدى لهما ويشن هجوما كاسحا على دعاتهما ومؤيديهما!

وفي هذا المنظور، يشكل تقرير "بتسيلم" الأخير، بما فيه من نزع للأقنعة وإسقاط "أوراق التوت"، تحدياً كبيراً يتمثل في ضرورة التخلص من نمط "التفكير المعلّب" والبحث عن أساليب وطرق جديدة والسعي إلى اجتراح أدوات نضالية أخرى، بديلة ومختلفة عما تم الركون إليه حتى الآن.

وفي مواجهة هذا التحدي، يتوجب على الأحزاب والحركات السياسية الفاعلة بين المواطنين العرب في هذه البلاد اقتحام هذا الباب الذي شرّعه "بتسيلم" ووضع مقاومة الاحتلال الحقيقية في مركز خطابها السياسي وفي صلب أية علاقة تعاون مستقبلي مع أحزاب "اليسار" و"الوسط" الإسرائيليين وما ينضوي تحتها من جمعيات ومنظمات "مدنية" ـ لا معارضة حقيقية للاحتلال ولا مقاومة حقيقية له سوى بهجر منهج "تجميله" و"أنسنته" والانتقال إلى ما يمكن أن يساهم في إنهائه، مساهمة فعلية وجدية: تغيير الموقف من رفض الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال وتغيير الموقف من حملات المقاطعة الدولية!

وغير هذا، تبقى الأحزاب والحركات السياسية العربية احتياطياً على دكة "اليسار" و"الوسط" الإسرائيليين، بكل ما ينطوي عليه هذا من معان ودلالات وإسقاطات!

المصطلحات المستخدمة:

بتسيلم

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات