المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

استمر حكم اليمين في إسرائيل خلال العام 2014 الفائت في تأجيج الحملة الرامية إلى مزيد من صهينة الحياة العامة في الدولة بغية إدامة سلطته وهو ما توازى مع سعي رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إلى فرض هيمنته وهيمنة اليمين على السلطة. ويشكل سعي نتنياهو هذا همّه الأول والرئيس، وهو يفرخ محاولات مكملة للتحكم بخطاب وسائل الإعلام والرأي العام.

وتمثل أبرز مظهر لهذه الحملة بتدخل ديوان رئيس الحكومة في تركيبة لجنة التحكيم لـ"جائزة إسرائيل للأدب والبحث الأدبي والسينما" وإسقاط عضوية ثلاثة من أعضائها، بعد أن كانوا باشروا عملهم في إطار هذه اللجنة.

وكان وزير التربية والتعليم الإسرائيلي السابق شاي بيرون هو الذي عيّن أعضاء هذه اللجنة كما هو متبع، لكن بيرون استقال في هذه الأثناء بعد انسحاب حزبه "يوجد مستقبل" من الحكومة وفي أعقاب استقالته تسلم نتنياهو نفسه حقيبة التربية والتعليم الوزارية. ووجهت وزارة التربية والتعليم رسائل إلى كل من أعضاء لجنة التحكيم تبلغهم فيها بقرار إقصائهم من عضوية اللجنة من دون إبداء أي أسباب لذلك.

وفي وقت لاحق، أكد نتنياهو قراره هذا، لكن ليس في بيان حكومي رسمي ولا بصورة صريحة، بل بموقف كتبه على صفحته الخاصة في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، يوم 11 شباط 2015 قال فيه: "طوال الأعوام الماضية، جرى تعيين أعضاء في لجنة التحكيم لجائزة إسرائيل من بين عناصر تحمل مواقف متطرفة، ومن بينها عناصر معادية للصهيونية أيضاً، مثل أشخاص يؤيدون رفض الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي ... وهذا الوضع ينبغي تغييره"!

وعاد نتنياهو وتطرق إلى الموضوع مرة أخرى، على صفحته الخاصة في فيسبوك أيضا في اليوم التالي، 12 شباط، فقال إن "لجان التحكيم في مجالات الثقافة تحولت إلى ملعب خاص لليسار المتطرف، المعادي للصهيونية، الداعم للفلسطينيين والداعي إلى رفض تأدية الخدمة العسكرية، ولا يجوز أن تسيطر المواقف الداعمة للفلسطينيين على جائزة إسرائيل في بعض المجالات"!

ويضيق المقام للتبحّر أكثر في العوامل الخلفية الواقفة وراء عدم كبح هذه الحملة والتي تؤثر بدورها في طبيعة النظام الناشئ في إسرائيل.

وفي واقع الأمر تشهد إسرائيل منذ العام 2010 جدلاً حول طبيعة النظام الناشئ فيها ولا سيما في ضوء الهجمة الممأسسة والممنهجة على المواطنين العرب، ومشاريع القوانين العنصرية التي تتغطى بـ"المصلحة القومية". وسبق أن توقفنا عند هذا الجدل في تقارير سابقة.
وتوالت الاجتهادات الإسرائيلية في هذا الشأن ارتباطاً بالمستجدات التي شهدها العام 2014 الفائت.

وللتمثيل عليها نشير إلى اجتهادين اثنين منها:
الأول يؤكد أن وقائع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة الصيف الماضي أثبتت أن "المعسكر ما بعد الديمقراطي" هو في الوقت الحالي أقوى معسكر سياسي في إسرائيل، ومن المتوقع أن يزداد قوة في المستقبل أيضاً. وهو معسكر مكوّن أساساً من التيار الديني الصهيوني والمتزمّت، ومن أنصار الاستبداد الذين يرون حقوق المواطن مضايقة والعنصرية قيمة مباركة.

ويمكن أن نضيف أن واقع إسرائيل قبل سيطرة هذا المعسكر على كل مناحي الحياة السياسية فيها لم يكن أكثر ديمقراطية في ظل نظامها الديمقراطي الشكلي، وعلى الرغم من ذلك فإن الواقع الحالي أمسى أقل ديمقراطية حتى مما كان قبلاً.

وهو واقع يقترن أيضاً ببروز الكثير من سمات نظام الحكم الفاشي على غرار ما يلي: نزعة قومية متطرفة؛ استهتار بقيمة حقوق الإنسان؛ تحديد أعداء داخليين وأكباش فداء؛ نزعة عسكرة طاغية؛ وسائل إعلام مجنّدة ومهيمن عليها وامتثالية؛ هوس أمن الدولة؛ علاقة رؤوس الأموال بالسلطة؛ إضعاف المنظمات العمالية؛ قمع الحريات الأكاديمية؛ فقدان الثقة بسلطات الحكم وازدياد التعلّق بالزعيم الأوحد.

ولم ينشأ هذا الواقع بين عشية وضحاها، إنما هو "ثمرة" انقلاب عمل اليمين الإسرائيلي الأيديولوجي على الدفع به قدماً منذ عودة حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو إلى سدّة الحكم العام 2009. وتم إنجاز المراحل الأخطر منه في نهاية العام 2010.

وجرى تحديد غاية هذا الانقلاب، ضمن أشياء أخرى، في منع فلول اليسار الإسرائيلي من أن تعرب عن آراء مغايرة، وهذا المنع تم بداية على المستوى العام ومن ثم انتقل إلى المستوى التشريعي.

ولعل أكثر ما سعى اليمين في إسرائيل نحوه هو كبح الجدل الديمقراطي بشأن السياسة المطلوبة إزاء حل الصراع، والتجنّد العام من حول سياسة إدارة الصراع بما يخدم المصالح الإسرائيلية الضيقة.

وتثبت وقائع كثيرة أن عملية سيطرة اليمين جرى تكريسها من الأعلى من طرف الكنيست والحكومة والمؤسسة العسكرية والاستخباراتية، وكذلك من الأسفل من طرف حركات يمينية جديدة على غرار حركة "إم ترتسو" التي تشكل تنظيماً فوقياً للحركات اليمينية، ومن طرف معاهد أبحاث ذات موارد مالية كبيرة مثل "مركز شاليم" و"معهد الإستراتيجيا الصهيونية"، ومراكز دعاية وإعلام مثل "المشروع الإسرائيلي"، وصحف في مقدمها صحيفة "يسرائيل هيوم" المجانية المقربّة من رئيس نتنياهو واليمين الإسرائيلي، وصحافيين، ومن طرف قوى دينية مرجعية مثل الحاخامين، ومن طرف المستوطنين.

الاجتهاد الثاني يشير إلى أن التغيرات الديمغرافية التي شهدتها إسرائيل في الأعوام الأخيرة وفي صلبها ازدياد قوة المجموعات الحريدية (المتشدّدة دينياً) والدينية أدت وتؤدي إلى تغيرات سياسية.

وبرأي صاحب هذا الاجتهاد فإنه في الوضع الذي تزداد قوة المجموعات الدينية ـ القوموية، من الطبيعي أن يحدث الاصطدام مع القيم الديمقراطية وحكم القانون. وبناء على ذلك ليس من العجيب أن يتصاعد الجدل حول موضوع الدولة اليهودية والدولة الديمقراطية في أوساط الجمهور الإسرائيلي العريض. وعلى هذه الخلفية تجري المحاولات لسن قوانين غير ديمقراطية في الكنيست خلال العامين الماضيين ولها غاية مشتركة واحدة هي إقصاء الآخر واضطهاد الأقليات. وتساءل: إلى أين ستصل إسرائيل مع التركيبة الديمغرافية هذه؟ من الصعب أن نعرف ومن الخطير أن نتنبأ، لكن الاتجاه هو نحو دولة دينية أكثر وديمقراطية أقل.

وتنعكس هذه التركيبة الديمغرافية على الجيش الإسرائيلي من خلال ازدياد حجم انخراط أبناء تيار الصهيونية الدينية على مدار العقدين الأخيرين ضمن القيادات التكتيكية للجيش وصفوف الجيش عامة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات