المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بقلم: شيري كرافس ومردخاي كريمنيتسر (*)

"خائنة"، "قاتلة"، "إرهابية"، "عدوة إسرائيل"- تلك هي بعض الأوصاف والتسميات التي نعت بها أعضاء كنيست زميلتهم النائبة حنين زعبي من حزب "التجمع الوطني الديمقراطي" قبل أكثر من شهرين. والسبب: مشاركتها في الأسطول التركي الذي حاول كسر الحصار الإسرائيلي على غزة، في أيار الماضي. ورغم تواجدها على ظهر السفينة التركية "مرمرة"، إلا أن أحداً لم يزعم أن عضوة الكنيست زعبي مارست العنف تجاه الجنود الإسرائيليين الذين اقتحموا السفينة، بدليل أن تحقيق الشرطة معها بعد الحادث تمحور حول "الدخول إلى منطقة عسكرية مغلقة".

وقد أوضحت زعبي نفسها أن مشاركتها في الأسطول (قافلة الحرية) استهدفت التعبير عن احتجاج مشروع وغير عنيف، ضد الحصار المفروض على السكان المدنيين في غزة. وفي الواقع، فإن إدعاءها بأنها لم تكن تتوقع أن تتطور الأحداث إلى حد سفك الدماء، لا يجانب الصواب، حتى أن الجيش الإسرائيلي نفسه لم يأخذ في الحسبان مثل هذه الإمكانية حين استعد للعملية. فضلا عن ذلك فإن الشرعية الأخلاقية والجدوى العملية للحصار المدني المفروض على قطاع غزة يشكلان قضية عامة من المشروع أن تكون هناك آراء مختلفة بشأنها، والدليل أن دولة إسرائيل نفسها غيرت سياستها فيما يتعلق بضرورة وجدوى الحصار في أعقاب الأحداث الأخيرة. وإذا كانت حنين زعبي لم تمارس العنف ولم تشارك في الأحداث العنيفة التي وقعت في السفينة، وإنما أرادت فقط التعبير عن احتجاج اجتماعي- سياسي، فإنه يمكن انتقاد أعمالها وطريقة تصرفها، ولكن لا يمكن وضع هذه الأمور في خانة الأعمال الممنوعة بموجب القانون الجنائي. إن المشاركة في تظاهرة تضامن ونقل مساعدات إنسانية لا تشكل في حد ذاتها مخالفة جنائية أو عملا محظورا، وإنما هي جزء من حرية التعبير والتظاهر، والتي تعتبر مبدأ مكفولا ومصانا في أي نظام ديمقراطي.

ومع ذلك، ففي النقاش الذي جرى في جلسة الكنيست في الثاني من حزيران 2010، هاجم كثيرون من أعضاء الكنيست النائبة زعبي بشكل صاخب وعنيف. إيضاحات زعبي لم تثر اهتمام هؤلاء النواب، كما أن مسألة ما إذا كانت قد ارتكبت فعلا مخالفة جنائية، لم تشغل بال أي منهم. إلى ذلك فإن إمكانية أن تكون مشاركتها في "الأسطول" تندرج في نطاق حرية التعبير السياسي المكفولة لكل إنسان في إسرائيل- وخاصة لأعضاء الكنيست- لم تطرح نهائيا للنقاش. ففي استعراض القوة المناوئ للديمقراطية رفض الكثيرون من أعضاء الكنيست السماح للنائبة زعبي التعبير عن رأيها وقول كلمتهما. "ليس من حقها أن تقول شيئًا.. لقد تكلمت بما فيه الكفاية" (قال يعقوب إدري من حزب "كاديما")؛ "لن نسمح لها بالحديث في هذا البيت" (يوئيل حسون- كاديما)؛ "في دولة أخرى كانوا سيشنقونها" (آرييه بيبي- كاديما)؛ "لتسقط! حقيرة!" (زئيف ألكين- ليكود)؛ "ياللعار! خائنة.. قاتلة" (إيلي أفلالو- كاديما). وتفوقت على الجميع عضوة الكنيست أنستاسيا ميخائيلي من حزب "إسرائيل بيتنا"، حين حاولت إنزال زعبي عن منصة الكنيست بالقوة لمنعها من التحدث. ولم يقف الأمر عند هذا الحد.. ففي 13 تموز 2010 صادقت جلسة الهيئة العامة للكنيست بأغلبية كبيرة على توصية لجنة الكنيست سحب الحقوق البرلمانية للنائبة زعبي (حق الاحتفاظ بجواز سفر دبلوماسي، والحق بالحصول على تمويل لمساعدة قانونية، وحق السفر إلى دول وأماكن في الخارج يحظر على المواطنين الإسرائيليين الدخول إليها). صحيح أن هذه ليست المرة الأولى التي تسحب فيها حقوق من أعضاء كنيست، لكن هذه الصلاحية مورست حتى الآن على نطاق محدود جداً، وذلك بهدف منع خطر مستقبلي ملموس وليس كعقوبة. في إحدى الحالات القليلة التي قررت فيها جلسة الهيئة العامة للكنيست سحب الحق بحرية الحركة والتنقل من عضو كنيست - محمد ميعاري- رفضت المحكمة الإسرائيلية العليا القرار بأغلبية أعضاء هيئتها القضائية واعتبرت أن إلغاء حصانة عضو كنيست- ومن ضمن ذلك الحقوق والامتيازات الإضافية التي يتمتع بها بحكم عضويته في البرلمان- هو إجراء وقائي/ احترازي فقط في حالات محددة تتوفر إثباتات وأدلة ملموسة بشأنها. قرار سحب حقوق عضو الكنيست ميعاري أتخذ في العام 1985 عقب مشاركته في مهرجان تأبين لأحد قادة منظمة التحرير الفلسطينية، وإلقائه خطابا عبر فيه عن تماثله مع نهج المنظمة. وفي قرار الحكم الذي ألغى قرار جلسة الهيئة العامة للكنيست، أكد رئيس المحكمة العليا في ذلك الوقت، مئير شمغار، أن هناك أهمية بالغة "لإبداء الحذر الشديد الذي ينبغي إتباعه إزاء رفع الحصانة - البرلمانية- في أعقاب تصريحات سياسية" وأن "إلغاء حرية العمل لعضو كنيست في المستقبل، نتيجة لتصريحات أو أقوال أدلى بها في الماضي، يعتبر إجراء بعيد المدى، لا يبرره سوى جوهر واضح ومتطرف لفحوى كلامه".

منذ قرار المحكمة العليا في شأن ميعاري، استخدمت جلسة الهيئة العامة للكنيست ثلاث مرات فقط صلاحيتها بسحب حقوق من أعضاء كنيست عاملين، إحداها في العام 1987 ضد عضو الكنيست مئير كهانا (زعيم حركة "كاخ" العنصرية) والثانية في العام 1993 ضد عضو الكنيست هاشم محاميد، وفي المرة الثالثة، العام 2002، ضد عضو الكنيست أحمد الطيبي.

ولكن، وبخلاف تام لقرار المحكمة العليا في قضية ميعاري فقد كان إجراء سحب حقوق عضوة الكنيست حنين زعبي إجراء عقابيا محضا، من المشكوك أن يكون الدافع وراءه هو التخوف من خطر مستقبلي قد يتجسد إذا لم تسحب هذه الحقوق. من الصعب الافتراض أن أيا من المشاركين في التصويت اعتقد أن سحب حق النائبة زعبي بحيازة جواز سفر دبلوماسي هو إجراء ضروري من أجل حماية دولة إسرائيل ومنع خطر مستقبلي جسيم، كما أن أحدا لم يتصور أن سحب حقها بتمويل مساعدة قانونية سيحمي الديمقراطية الإسرائيلية من خطر داهم. العكس هو الصحيح، فقد أكد أعضاء الكنيست الذين شاركوا في التصويت طوال الجلسة أن الحديث يدور على إجراء عقابي يتخذ ضد النائبة زعبي وذلك فقط لعدم قدرتهم على اتخاذ الإجراء المرغوب من ناحيتهم، والمتمثل في طردها وإبعادها نهائيا من الكنيست. وعلى سبيل المثال فقد قيل في أثناء النقاش في جلسة الهيئة العامة للكنيست في 13 تموز: "لقد أخرجت نفسها من النادي الشرعي لكنيست إسرائيل، ولذلك يجب أن تعاقب.." (يوئيل حسون، كاديما)؛ "ستضطر النائبة زعبي لدفع ثمن ما قامت به" (غيلا غمليئيل- ليكود)؛ "سأقول للنائبة زعبي رأيي بشكل واضح وصريح: لا مكان لك في كنيست إسرائيل، وأنت لا تستحقين الاحتفاظ ببطاقة هوية إسرائيلية" (ياريف ليفين، رئيس لجنة الكنيست- ليكود)؛ "سأعمل من أجل شطب جميع هذه القوائم (العربية)" (أوفير أكونيس- ليكود)؛ "العقوبات التي سنصوت عليها اليوم هي بمثابة نكتة بالنسبة لما أقدمت عليه زعبي. نحن من يتحمل المسؤولية لأننا لم نعرف كيف نعالج حالات كحالتك (أي النائبة زعبي) كما يجب، ولأنه لا تتوفر لدينا الوسائل والشجاعة لطردك من هذا المكان بصورة منظمة" (كرميل شاما- ليكود)..

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن تعليمات البند 7 (أ) من "قانون أساس: الكنيست" كانت قد وضعت ضوابط وقيوداً صارمة على القوائم والأشخاص الذين يمكن لهم الترشح لانتخابات الكنيست الإسرائيلي، حيث نصت بوضوح على عدم السماح لقائمة مرشحين أو شخص مرشح المشاركة في الانتخابات البرلمانية إذا كانت أهداف أو أعمال القائمة و/ أو المرشح تنطوي صراحة أو ضمنا على أحد هذه الأمور الثلاثة: (1) رفض وجود دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية؛ (2) التحريض على العنصرية؛ (3) تأييد نضال مسلح لدولة معادية أو منظمة إرهابية ضد دولة إسرائيل. ويحدد هذا البند التوازن بين الحق القانوني في الانتخاب والترشح للانتخابات وبين المحافظة على طابع الدولة وقيمها كدولة يهودية وديمقراطية. ولكن طالما لم يتم تجاوز السقف المحدد في هذا البند، فإن التهديد بـ "طرد" و"إبعاد" أعضاء أحزاب الأقلية من الكنيست يغدو خطيرا ومناوئا للديمقراطية. كذلك فإن الديمقراطية الإسرائيلية قادرة على معالجة أمر عضو كنيست يرتكب مخالفات جنائية، إذ أن المستشار القانوني للحكومة مخول بالمصادقة على توجيه لائحة اتهام في مثل هذه الحالات، وأن يحدد إذا ما كانت أقوال أو تصريحات صادرة عن عضو كنيست تنطوي على تحريض، أو إذا كان عمل ما قام به يشكل خيانة أو جنحة أخرى، وعليه فإن الهيئة العامة للكنيست ليست الهيئة المخولة بتحديد ماهية التوازن السليم بين الأقوال والأفعال التي تشكل مخالفات جنائية من نوع الخيانة والتحريض وبين أقوال وأفعال تقع في نطاق السجال العام المشروع. وفي الواقع فإن ألفاظا مثل "خيانة" و"تحريض" تستل في مناقشات الهيئة العامة للكنيست باستخفاف تام بمغزاها الجنائي الخطير، كما تستل السكاكين في مشاجرات الزعران في الشوارع والأحياء. كذلك فإن مصطلح "ديمقراطية تحمي نفسها"، الذي صكته المحكمة الإسرائيلية العليا العام 1965، يستل أيضا صباح مساء كوسيلة لتبرير شتى أنواع المس بحقوق الأقلية. وتحضرنا هنا المقولة الشهيرة للفيلسوف الفرنسي فولتير، في سياق دفاعه عن حرية الرأي: "أنا لا أوافقك القول، ولكني سأدافع حتى الموت عن حقك في قوله".

حتى الآن بدا أن هذه القيم، قيم حرية التعبير والحريات الفردية والحرية البرلمانية، كانت قيما أساسية مصانة في الديمقراطية الإسرائيلية أيضا. فقوة ومناعة الحق في حرية التعبير تُقاسان بالنظرة وبردة الفعل إزاء تعابير حادة مثيرة للغضب والاستفزاز، غير أن النائبة زعبي، التي أرادت تجسيد حقها في حرية التعبير- بغض النظر عما ينطوي عليه الأمر من مس وإثارة واستفزاز- قمعت بعنف وفظاظة مرتين ، في المرة الأولى حين هوجمت في جلسة الهيئة العامة للكنيست بسبب مشاركتها في "أسطول الحرية"، مع أن هذه المشاركة في حد ذاتها تقع في نطاق حرية التعبير. وفي المرة الثانية عندما هوجمت في جلسة الهيئة العامة للكنيست لدى محاولتها إيضاح موقفها والتعبير عن آرائها من على منبر الكنيست. هذا القمع أو الإسكات يغدو خطيرا بشكل خاص حين يتم في جلسة الهيئة العامة للكنيست، وهي المكان الذي يفترض أن تتجلى فيه حرية التعبير السياسي في أكمل صورها.

ويشار إلى أن قرار جلسة الهيئة العامة للكنيست سحب حقوق النائبة حنين زعبي أتخذ بأغلبية أصوات 34 عضو كنيست مقابل 16 صوتا، أي أن أقل من نصف عدد أعضاء البرلمان الإسرائيلي حرصوا على حضور هذا النقاش القانوني المهم، الذي تناول حدود السجال البرلماني، بوسائل وأدوات يمكن بواسطتها تقييد هذا السجال والحد من الحرية البرلمانية في التعبير عن آراء مختلفة ودفع مواقف غير مقبولة لدى الأكثرية. إن ما وضع على المحك هنا، لم يكن مناعة حقوق النائبة زعبي، وإنما مناعة الديمقراطية الإسرائيلية وقدرتها على كبح الأغلبية والدفاع عن حقوق الأقلية. نتائج هذا الاختبار كشفت عن واقع مشوه، لا يتأتى فيه الخطر الحقيقي على الديمقراطية الإسرائيلية من الأقلية العربية، أو من النائبة حنين زعبي، وإنما من الأغلبية اليهودية. وربما كان هذا الخطر يأتي بالأساس من الأكثرية الصامتة، من الـ 70 عضو كنيست، الذين تغيبوا عن جلسة الهيئة العامة للكنيست، وسمحوا لمجموعة ضئيلة من النواب المتهورين أن تعيد رسم حدود حرية التعبير والحرية البرلمانية، وأن ترسم قواعد لعبة جديدة للديمقراطية الإسرائيلية.

________________________

(*) البروفسور مردخاي كريمنيتسر هو نائب رئيس المعهد الإسرائيلي للديمقراطية؛ المحامية شيري كرافس هي مساعدة بحث في المعهد وخبيرة في شؤون القانون الدولي في الجامعة العبرية- القدس. المصدر: الموقع الإلكتروني لـ "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"- ترجمة خاصة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات