المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

الأزمات الاقتصادية الخطرة ليست معزولة عن مسألة الأمن القومي. فمثل هذه الأزمات تمس بالمناعة القومية وتؤثر على قدرة الدول على تحقيق أهدافها القومية. فهي تزيد من الأعباء والضغوطات المالية على أجهزة الأمن وتحد من هامش المناورة السياسية وتهدد رفاهية الجمهور وتفاقم الإجرام وربما تخلق منفذاً لسيرورات اجتماعية خطرة. لذلك من المهم معالجتها بسرعة وبحزم ومن خلال رؤية شمولية.

يمر العالم اليوم في أوج أزمة مالية غير مسبوقة منذ العام 1929، إذ أدت الأزمة المالية وقتئذٍ إلى "الإنحطاط- الكساد- الكبير"، وهي الأزمة المالية الأعمق في التاريخ الحديث، والتي لم تنته سوى في الحرب العالمية الثانية. وقد وصلت حينئذٍ نسبة البطالة في الولايات المتحدة إلى نحو 25% من قوة العمل وإلى نحو 40% في ألمانيا. وساهمت التداعيات الاجتماعية لتلك الأزمة في صعود أنظمة فاشية إلى سدة الحكم، وفي طليعتها النظام النازي في ألمانيا، كما ساهمت في اتساع تأييد الشيوعية.

في هذه المرحلة تبدو الأزمة الحالية بعيدة عن "الكساد الكبير" لكن سببها مماثل: أزمة في ثقة الجمهور. ففي ذلك الوقت أيضاً لم تنبع الأزمة من حدث خارجي، من قبيل حرب، وإنما من أجهزة ومؤسسات فاسدة. في ذلك الوقت قدمت البنوك أيضاً اعتمادات وقروض سكن لكل من يطلب، وأدت الأموال الرخيصة إلى ارتفاع حاد في الطلب على العقارات غير المنقولة والعقارات المالية وإلى ثراء سهل. وعندما تبددت "الفقاعة" انهارت البنوك وفقد قسم كبير من الجمهور مدخراتهم ومصدر رزقهم، وحتى بيوتهم في حالات كثيرة.

الأزمات من هذا النوع لها مكونان، متلازمان في جزء منهما: الأول أزمة مالية والثاني أزمة اقتصادية واقعية تأتي في أعقاب الأولى. ولأضرار الأزمة الاقتصادية- انخفاض حاد في الناتج وفي الاستثمارات- انعكاسات بعيدة الأثر، من قبيل هبوط حاد في مدخولات الدولة وارتفاع حاد في نسبة البطالة والفقر، مما يستوجب تغييرات في سلم الأولويات القومي.

تأثيرات الأزمة تصل إلى إسرائيل بفارق زمني يقصر من يوم إلى آخر، ولذلك حَرِيٌّ بقباطنة الاقتصاد الإسرائيلي أن يستخلصوا العبر من الأزمة التي تعصف بالولايات المتحدة ومن طريقة معالجة الإدارة لها.

ما الذي حدث في الولايات المتحدة؟ أول المخفقين هم إدارات المؤسسات المالية. فالأزمة المالية بدأت في العام 2007، حيث أخذت تلك المؤسسات تكشف- بالتدريج ومن دون شفافية ملائمة- عن خسائرها التي تصل اليوم إلى أكثر من تريليون دولار. جزء منها ينبع من تسويق منتجات مالية مركبة استندت إلى قروض سكن أعطيت للمقترضين بمخاطرة عالية دون كفالات كافية. وزادت شركات التأمين الطين بلة حين أمَّنت سداد الديون. أما الأرباح الفورية فحصدتها إدارات الشركات من خلال رواتب خيالية وامتيازات. وعندما عجز المدينون عن سداد ديونهم انهارت البناية المهلهلة التي نخرها الفساد. في المرتبة الثانية يأتي إخفاق هيئات الرقابة، التي غابت عن أنظارها حقيقة أنه تجري في المنظومة المالية صفقات خطيرة غير مهنية. وفي الأخير أخفقت أيضاً الإدارة الأميركية بكونها أهملت الرقابة على سوق المال وعلى طريقة معالجة السوق للأزمة، الأمر الذي ساهم في زيادة خطورة الانهيار. فقد امتنعت الإدارة طوال سنة كاملة عن التدخل في الأزمة، وحين تدخلت تصرفت بتسرع. أحد الأمثلة يتجلى في قرار الإدارة عدم إنقاذ بنك الاسثمارات "ليمن برذرس". نتيجة لذلك رد الجمهور بسحب مدخراته من البنوك. وهكذا انهار منذ بداية الأزمة وحتى الآن ما لا يقل عن 19 بنكاً أميركياً.

خطأ آخر ارتكبته الإدارة تمثل في قرارها تخصيص جزء من ميزانية الإنقاذ، بقيمة 700 مليار دولار، لشراء سندات ديون (خطرة للغاية)، ما يعني المجازفة بأموال جيدة من أجل إنقاذ أموال رديئة. وقد تراجعت الإدارة عن هذه الخطوة لكن ثقة الجمهور اهتزت.

على الرغم من خطورة الوضع، يبدو أن الاقتصاد العالمي لا يعاني من نقص خطير في السيولة، فالفوائد المالية هبطت إلى أدنى مستوى، فيما تقوم الدول الغنية بضخ الأموال إلى المؤسسات المالية، وتراكمت في ودائع الجمهور في البنوك أرباح نتيجة عمليات البيع في البورصة والسحوبات من صناديق الائتمان والتوفير. المشكلة هي في الضخ المالي المنخفض، فكلما تأخر الأكسجين المالي تضطر المزيد من الشركات إلى إلغاء مشاريع وتسريح مستخدمين، فيما ينهار قسم منها، وبذلك تتعمق الأزمة. فلماذا لا تتدفق الأموال؟ الجواب: أزمة ثقة وهبوط في الأمن الاقتصادي لدى الجمهور، الذي يقلص الاستهلاك ويعزف عن سوق المال. من هنا فإن استعادة ثقة الجمهور تشكل تحدياً رئيسياً أمام قباطنة الاقتصاد في الدول المختلفة، وبضمنها إسرائيل أيضاً.

إستراتيجية لإسرائيل

إلى أن تحل الأزمة في السوق العالمية، يتعين على إسرائيل أن تبلور إستراتيجية تركز على تقليص الأضرار وتأخير تأثيرات الأزمة، وسط فرضية بأن موعد انتهائها (الأزمة) غير واضح. الاتجاه المهم الأول في هذه الإستراتيجية يجب أن يكون تعزيز ثقة الجمهور.

وفيما يلي أمثلة على خطوات بانية للثقة:
• تعميق الأمن الوظيفي (التشغيلي) الأمر الذي يمكن أن يحد من تراجع الاستهلاك.
•الالتزام باستقرار المؤسسات المالية ومن ضمنها جميع البنوك.
•زيادة الرقابة على سوق المال، وفرض قيود تقلص إنفاق الأموال من الشركات العامة، إضافة إلى زيادة الرقابة على الهيئات التي تدير أموال الجمهور.
•تقليص إخفاقات السوق، ودراسة إنشاء صندوق يشتري من صناديق التقاعد والتوفير سندات دين وفقاً لاعتبارات اجتماعية، وشرط أن يتلاءم ذلك مع معايير اقتصادية بحتة.
•الامتناع من التسرع والارتجال والتسريبات والمراوغة في اتخاذ القرارات، فكل ذلك يمس بثقة الجمهور.

الاتجاه المهم الثاني: مساعدة القطاع التجاري الذي يشكل مفتاح العودة إلى النمو السريع.

وفيما يلي بعض الأمثلة:
• تفحص إنشاء صناديق حكومية تقدم قروضاً للشركات بناء على اعتبارات اجتماعية واقتصادية.
•تبكير دفعات (سداد ديون) الدولة للقطاع الخاص.
•اختصار إجراءات في مجالات البيروقراطية والتنظيم.
•تحرير أراض لأغراض البناء ومساعدة الشركات في تمويل مشاريع إسكان.

إجمالاً: يمر العالم بأزمة مالية خطيرة تنحو نحو حالة من الركود العميق. مع ذلك فإن سوق المال العالمية اليوم، وما تمتلكه من وسائل وأدوات مختلفة عما كانت عليه في أزمة العام 1929، وتبدل الإدارة في الولايات المتحدة، تشكل فرصة نادرة لاستعادة ثقة الجمهور الأميركي، بكل ما يعنيه ذلك بالنسبة للاقتصاد العالمي بأسره وعليه يمكن كبح الأزمة الاقتصادية في مدى زمني أقصر بكثير. إذا لم يحصل ذلك، ستتحول "الأزمة المالية الكبرى لسنة 2008" إلى "الكساد الأكبر لسنة 2009". إن الحالة الأميركية تظهر أن قرارات ضخ الأموال فقط ليست الحل. فالمفتاح هو في استعادة ثقة الجمهور.

____________________

(*) الكاتب باحث اقتصادي في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب. ترجمة خاصــة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات