المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

عملياً لم يعد هناك اليوم في السياسة الإسرائيلية شيء اسمه "يسار". فالسياسة الإسرائيلية تحتوي مكوناً يمينياً مهماً، ومكوناً مركزياً- وسطياً- يفتقر في جوهره إلى أيديولوجية أو رؤية معينة، ومكوناً هزيلاً يسمي نفسه يسار، وهو في جوهره يسار سياسي لا توجد بينه وبين مصطلح "يسار" أي صلة أو علاقة.

لقد تحولت ماركة "اليسار" إلى علامة ذات دلالات سلبية، في الوقت الذي لم يعد فيه أحد يربط هذه العلامة بجذورها الفكرية، اللهم فيما يخص فقط العلاقات مع الفلسطينيين، وهو عموماً ربط ضيق ومحرج يؤدي بإسرائيل إلى وضع يبدو فيه وكأن اليمين فقط هو الذي قرر الخطوات المؤسسة للدولة، ولا سيما في عهد مناحيم بيغن وإسحق شامير.

في العام 1992 لاحت، في الظاهر، فرصة تمثلت في شخص إسحق رابين الذي نجح في تحقيق فوز حاسم في الانتخابات. ولكن اسحق رابين لم يكن رجل يسار في أي سياق، لا في السياق الاقتصادي- الاجتماعي، ولا في السياق السياسي، على الرغم من اتفاق السلام الذي صنعه في أوسلو. كذلك الحال بالنسبة لإيهود باراك.

لم يولد اليسار في إسرائيل داخل فراغ. فقد وُلِدَ في أوروبا واقتات من مهد اليسار الأوروبي في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين. هذا اليسار الأوروبي كان نتاج أفكار طُوِّرت بحلول نهاية القرن التاسع عشر على أيدي ماركس وإنجلز، ومراجعات نقدية لنظرية ماركس ومؤسسات ومدارس فكرية مهمة أخرى. كل ذلك وسواه شكل خلفية ولادة اليسار الإسرائيلي، على الأقل حتى منتصف القرن العشرين. وقد استلهم اليسار الإسرائيلي تلك الأفكار والمفاهيم ممزوجة بنزر من الصهيونية، ونزر آخر بتأثير اليسار الفرنسي الذي قاده في بداية القرن العشرين مفكرون مثل كوجف وجان بول سارتر وألبير كامي وآخرون.

في إسرائيل تأسست مجموعات فكرية مثيرة برئاسة مارتين بوبر وآرييه سيمون (تحالف السلام) اللذين كانا في قلب الجدل الفلسفي في أوروبا وإسرائيل في أواسط القرن الماضي. وكان من المفروض أن تمثل اليسار أحزاب سياسية مثل "مبام" و "مباي" و "ماكي" (الحزب الشيوعي)، لكنها- ربما باستثناء الأخير- لم تبق في هذه المواقع وتحولت عملياً إلى يسار سياسي عوضاً عن يسار اقتصادي أو اجتماعي- من هنا لم يعد هناك اليوم، من ناحية عملية، يسار في إسرائيل. لم يعد هناك أي جسم يمثل مفاهيم (يسارية) من طراز القرون السابقة، ولم تقم أي هيئة أو حزب بتحديث تلك النظرية ومواءمتها للعصر الحالي، عصر العولمة. ولعل الحزب السياسي الوحيد الذي استمر في مقاربة النظرية الماركسية أو اليسار الاجتماعي هو حزب "ماكي" ولاحقاً حزب "ركاح"، لكن هذين الحزبين لم يعتبرا صهيونيين، وقطعاً ليس اليوم.

لقد احتل اليسار السياسي مكان اليسار الاقتصادي- الاجتماعي ويمكن القول من ناحية عملية إن اليسار السياسي محا اليسار الحزبي وجعله ضحلاً ضيقاً وربما أيضاً غير ذي صلة بالنظرية المؤسِّسة. وإذا كانت القيم الإنسانية قد شكلت فيما مضى لب النظرية، فقد أُختزلت هذه النزعة الإنسانية لتقتصر على هامش محدد جداً يتعلق بالأقليات. وهكذا بقيت إسرائيل عملياً من دون يسار سياسي من جهة، ومع يمين فاعل ومؤثر جداً من جهة أخرى. وبذلك تحول اليمين واليسار إلى اتجاهين متخاصمين يحتويان مكونات جوفاء مثل المواقف تجاه الفلسطينيين والدولة الفلسطينية وما شابه ذلك. إفراغ السياسة الإسرائيلية من اليسار السياسي- الحزبي جعل الساحة السياسية منحلة وبالأساس غير متوازنة مقابل اليمين في إسرائيل. فهذا اليمين يحكم ويسيطر على إسرائيل منذ العام 1977 ما عدا فترة استراحة دامت ست سنوات (3 سنوات رابين ومثلها باراك). وإذا ما تعاطينا بجدية مع استطلاعات الرأي التي تدل على تفوق واضح لحزب الليكود على حزب العمل في هذه الأيام، فإن الليكود سيكمل بحلول العام 2011 قرابة ثلاثين سنة حكم متواصلة تقريباً، باستثناء السنوات الست المذكورة، ما يعني ضعفاً ماحقاً لليسار، وأكثر من ذلك انعدام القدرة على عودته للسلطة والاستقرار فيها. هذا الضعف يتعاظم بشكل مطرد، كما أن الماركة المسماة "حزب العمل" باتت على وشك الزوال. كذلك الحال بالنسبة لحزب "ميرتس" الذي اضمحلت قوته إلى خمسة مقاعد حالياً. هذان الحزبان التصقا بالمبدأ المؤسس، السياسي اليساري في الظاهر، إذ لا توجد أي صلة أو علاقة منطقية بين يسار سياسي ويسار ما عدا ربما العلاقة الشكلية المتصلة بحقوق الإنسان والقيم الإنسانية، ولكنها لا تتصل بوضع الإنسان المُعَّرف كمواطن إسرائيلي. وقد تغير المواطن الإسرائيلي المتوسط باستمرار بسبب موجات الهجرة الكبيرة منذ الخمسينيات وحتى التسعينيات من القرن الفائت. هذه الموجات التي كان لكل منها طابعها المميز، ومصادرها الثقافية المختلفة.

معظم جمهور السكان في إسرائيل أصبح جمهوراً لا يعرف ثورة أكتوبر (الاشتراكية) في روسيا ولم يترعرع في بيوت رضعت من إرث الثورة الفرنسية أو حتى الثورة الصناعية. فحزب "مباي" لم يفلح في إقامة نظام منفتح يتيح قيام مجتمع متعدد الثقافات ومتنوع يجد الجميع فيه مكانهم، الأمر الذي أدى بالنتيجة إلى جعل قسم لا يستهان به من السكان في إسرائيل يشعرون بالاغتراب تجاه "مباي" السلطوي. خشية زعماء "مباي" من فقدان السلطة في الخمسينيات إضافة إلى الاضمحلال القيمي في السياق الاقتصادي- الاجتماعي تضافرا معا ليطيحا بحزب العمل (من السلطة) ومجمل حركات اليسار في إسرائيل.

زعماء "مباي" و "ميرتس" تحولوا إلى نخبة من ناحية اقتصادية أيضاً، حيث أقام معظمهم في المناطق الأكثر تطوراً وكانت لغتهم بعيدة كل البعد عن لغة الشارع الإسرائيلي. في سبعينيات القرن الماضي، على الأقل، كان بالإمكان ملاحظة القطيعة شبه الكاملة بين زعماء "عماليين" مثل غولدا مائير وليفي أشكلول وبنحاس سابير وحتى شمعون بيريس وبين جمهور الناس العاديين.

هذه القطيعة بين ذاك الجمهور، المهان والمشحون بالبغض والكراهية لزعماء اليسار، بلغت ذروتها في أواخر السبعينيات في "الانقلاب" السياسي سنة 1977. فقد نجح مناحيم بيغن (زعيم الليكود المنتصر في انتخابات العام المذكور) في خلق أجواء من المودة والدفء في العلاقة مع الجماهير، ليستحوذ على قلوبهم وعلى السلطة في آن واحد، وبدت إسرائيل كدولة تأتمر بأمره وتسير خلفه كيفما شاء، من معاهدة السلام مع مصر وحتى حرب لبنان (1982). لغاية الآن لم تخف حدة تلك الكراهية تجاه اليسار. ومن ناحية عملية فإن السجود شبه الأعمى من جانب اليسار الإسرائيلي لعمليمة السلام مع الفلسطينيين أدى أيضاً إلى رد فعل معاكس، إذ لم تؤيد غالبية الجمهور الإسرائيلي عمليات التنازل والتسويات، ليس بسبب الخشية من الفلسطينيين وإنما فقط بسبب طابع ناقل الرسالة: اليسار. اليوم أيضاً ما زال اليسار يعتبر خائناً ومنقاداً وراء أفكار سرابية، في حين أن ما يسمى بـ "زعامة اليسار" بعيدة عن فهم وإدراك أن الخلاف مع "الجمهور اليميني" ليس خلافاً منطقياً، وأن الرفض هو رفض للبرنامج الذي يحمل رسالة اليسار السلمية، أي لليسار ذاته.

الإدعاء الأساسي لهذا المقال مؤداه: لا يوجد عملياً في إسرائيل يسار، وإنما مجموعة محدودة من الأشخاص المتشبثين بنوع من التعصب والهوس بالمفهوم السياسي لليسار، والذين تمعن زعامتهم في الخطأ بشعورها المتبجح أن "هؤلاء مجرد حمقى جهلاء، ولا تحظى سوى بتأييد أوروبي نظري ومالي. أما عملية السلام، التي تشكل لب أفكار اليسار الإسرائيلي، فهي منوطة بتدخين السيجار والتهام صحون الـ "شريمبس" الطازج ... وعلى الجانب الآخر يقف جمهور يقبع 70% منه تحت أو حول خط الفقر. زعيم حزب العمل (باراك) ومعظم مدراء- زعماء اليسار يعيشون في رغد في بيوت فارهة وشقق فخمة. من أين إذن ستأتي مشروعية إقناع جمهور تعيش غالبيته شظف العيش؟!

[ترجمة: س. ع]

________________

* كاتب إسرائيلي، عمل مستشارًا لدى رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إسحق رابين. المصدر: شبكة الانترنت.

المصطلحات المستخدمة:

باراك, الصهيونية, بول, الليكود, رئيس الحكومة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات