المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

من الوجهة الإسرائيلية البحتة على الأقل، يمكن القول دون تحفظ أن هذا الثنائي الكهل (أريئيل شارون وشمعون بيريس) الممسك بل والمتشبث حتى الآن بقوة ولفترة مقبلة أخرى على الأرجح، "لا يعرف إلاّ الله" كم ستطول وتمتد، يمثل آخر حلقة في "سلالة" ما يوصف بالزعماء التاريخيين أو "جيل المؤسسين" للدولة العبرية، وإن كانا يحسبان بشكل عام على "الرعيل الثاني" في جيل الزعامة الصهيونية المؤسسة. إقترن إسم شارون وبيريس للمرة الأولى بهذه "الثنائية" السياسية الفريدة والعجيبة في الظاهر، بتشكيل حكومة "الوحدة الوطنية" الأولى في تاريخ السياسة الإسرائيلية، والتي يعزى إليهما، كلٌ من موقعه القيادي، لعب الدور الأساسي والمركزي في الدفع إلى تشكيلها عام 1984 بمشاركة القطبين الرئيسيين في الحلبة الحزبية والبرلمانية في إسرائيل.

وعلى الرغم مما تُوحي به مسيرة هذين العجوزين المخضرمين اللذين تخطيا متوسط الأعمار في إسرائيل، من نفور وتباعد وإفتراق في التفكير والسلوك والطريق السياسي الذي انتهجه كل منهما على مدى ما يزيد عن خمسين عاماً خلت، إلاّ أن نبش وتمحيص تاريخ وسيرة حياة الرجلين يكشف وبشكل مدهش – على الأقل لكل من لم ينبش أو يفتش بعد في الأوراق والكتب الإسرائيلية – عن الكثير من القواسم المشتركة ونقاط التلاقي والتشابه بينهما، في العديد من النواحي والمحطات البارزة في حياتهما، والتي تصل أحياناً إلى درجة شديدة من التقارب والتماهي.

الطيور على أشكالها تقع...

ولعل أبلغ الشواهد والإفادات والقرائن الموثقة إسرائيلياً على ما يجمع بين شارون وبيريس من قواسم مشتركة عديدة، هي تلك التي ساقها الكاتب الصحافي الإسرائيلي المعروف يائير كوتلر في كتابه المميز الذي جمع فيه بين شارون وبيريس في "ثنائية" واحدة تحت عنوان "الزرزور والغراب" الذي صدر في ربيع العام 2002 وصدرت ترجمته إلى العربية عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" في كانون الأول / ديسمبر من العام ذاته.

كوتلر، الذي يعد من أبرز الكتاب الصحافيين في إسرائيل وله مجموعة كبيرة من المؤلفات والكتب، يستهل كتابه "الزرزور والغراب"، والذي عقد بعنوانه هذا تشبيها قصد به شارون وبيريس، بالقول: "قيل: ليس صدفة أن الزرزور ذهب إلى الغراب، بل لأنه من نفس جنسه (من أقوال الحكماء)... وبعبارة أخرى: إن الطيور على أشكالها تقع ... فالخصوم لا يمكنهم أن يجتمعوا تحت سقف واحد".

سنعود إلى الشهادات والإقتباسات المعّبِرة التي أوردها كوتلر في كتابه على لسان شخصيات عديدة كانت على تماس وتواصل مع الثنائي شارون بيريس، واللذين قد يكون من المفيد بداية إلقاء نظرة على أهم الملامح والمحطات في سيرة حياة كل منهما على إنفراد.

طريق "الغُراب" شارون

ولد في مستوطنة "كفار ملال" في فلسطين سنة 1928، وأسمه الأصلي أريئيل شاينرمان.

درس التاريخ وعلوم الإستشراق في الجامعة العبرية في القدس، والحقوق في جامعة تل أبيب.

عسكرياً: خدم في منظمة "الهاجناه" قبل قيام دولة إسرائيل ثم بدأ سيرته العسكرية الرسمية في حرب 1948، حيث كان قائد شعبة في لواء "الكسندروني". وبعد الحرب أخذ يتدرج في الرتب العسكرية، فعُيِّنَ سنة 1949 قائداً لكتيبة في لواء غولاني، وفي 1951 عُيِّنَ ضابط إستخبارات قيادي. أثناء دراسته الجامعية سنة 1952 كُلِفَ بتأسيس وقيادة الوحدة سيئة الصيت (101) التي شُكِلَت للرد على عمليات الفدائيين، والتي وقفت وراء الكثير من العمليات الدموية وأبرزها الهجوم على مخيم "البريج" في قطاع غزة وتنفيذ مذبحة "قبية" سنة 1953 التي تم خلالها نسف بيوت القرية على من فيها. سنة 1956 عُيِّنَ قائداً لفرقة المظليين وشارك في العدوان الثلاثي على مصر ثم قائد مدرسة المشاة (1958-1962)، وقائد المنطقة الشمالية (1964-1965)، وحصل سنة 1966 على رتبة بريغادير جنرال وعُيِّنَ قائداً للواء مدرع في حرب 1967، وتولى بين 1968 و 1973 قيادة المنطقة الجنوبية، حيث مارس خلال ذلك قمعاً دموياً ضد عناصر المقاومة والشعب الفلسطيني في قطاع غزة المحتل. في حزيران 1973 ترك شارون الجيش للتنافس في إنتخابات الكنيست، وعقب إندلاع حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وعبور الجيش المصري قناة السويس إستُدعِيَّ شارون إلى الخدمة على الجبهة المصرية حيث تولى قيادة لواء مدرع، وقف وراء فتح ثغرة في الدفاعات المصرية (والتي عُرِفَتْ بـ "ثغرة الدفرسوار").

سياسياً:

- عضو كنيست منذ العام 1974. بدأ حياته المدنية بالإنضمام إلى حزب الأحرار في كتلة "غاحل" وبادر إلى إقامة حزب الليكود اليميني سنة 1973 فدخل الكنيست ضمن قائمة الليكود بعد الإنتخابات التي جرت في كانون الأول من السنة ذاتها، لكنه خرج من الكنيست بعد عام واحد إثر خلافات مع زعامة الحزب، وعمل بين حزيران 1975 وآذار 1976 مستشاراً خاصاً لرئيس الحكومة إسحق رابين.

عشية إنتخابات الكنيست التاسعة 1977 أسس شارون حزباً مستقلاً ("شلوم تسيون") فاز بمقعدين في البرلمان. ثم عاد وانضم مع حزبه إلى "حيروت" في إطار الليكود، وهو ما أتاح له دخول حكومة مناحيم بيغن الأولى التي عُيِّنَ فيها وزيراً للزراعة (1977-1981) والثانية التي تولى فيها منصب وزير الدفاع (1981-1983) وكان في هذا المنصب الأخير المحرك الرئيسي وراء غزو لبنان صيف 1982، لكن مناحيم بيغن أقاله من منصبه سنة 1983 إثر تقرير لجنة تحقيق رسمية حَّمّلَته (أي شارون) المسؤولية "غير المباشرة" عن مذابح صبرا وشاتيلا. خلال توليه في الحكومات اللاحقة وزارات الصناعة والتجارة والبناء والإسكان، خصص شارون موارد ضخمة لدفع عجلة مشاريع الإستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكان وراء إقامة عشرات المستوطنات الجديدة.

خلال الفترة اللاحقة (1992-1996) استمر شارون في نهجه المعادي للشعب الفلسطيني، وهو في المعارضة، فعارض اتفاق أوسلو وامتنع عن التصويت لدى مصادقة الكنيست على معاهدة السلام الأردنية – الإسرائيلية.

وعندما عاد الليكود إلى الحكم سنة 1996، تولى شارون في حكومة بنيامين نتنياهو وزارة البنى التحتية ثم وزارة الخارجية (1998-1999)، وبعد سقوط حكومة الليكود في إنتخابات 1999 تزعم شارون حزب الليكود والمعارضة اليمينية (1999-2000) وكانت زيارته الإستفزازية للحرم القدسي الشريف في 28 أيلول 2000 الشرارة التي أشعلت الإنتفاضة الثانية (إنتفاضة الأقصى والقدس). وعقب سقوط حكومة إيهود باراك تنافس شارون على منصب رئيس الحكومة في إنتخابات مباشرة جرت في شباط 2001 حيث فاز على باراك وألف حكومة "وحدة وطنية" مع حزب العمل تولى فيها زعيم الأخير، شمعون بيريس، منصب وزير الخارجية، وقام من خلالها شارون بتصعيد سياسة القمع الدموية تجاه الشعب الفلسطيني، وبإعادة إحتلال مناطق خاضعة لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني.

وعلى الرغم من فشل شارون في إخضاع الشعب الفلسطيني وإخماد إنتفاضته ومقاومته للإحتلال، إلا أنه أعيد إنتخابه على رأس الليكود في إنتخابات العام 2003 ليشكل حكومة برئاسته إنفرط عقد إئتلافها مؤخراً بانسحاب الحزب القومي الديني (المفدال) أولاً ومن ثم بخروج حزب "شينوي" العلماني من الحكومة بعد طرد شارون لوزراء هذه الحزب من حكومته التي تحولت إلى حكومة أقلية.

طريق "الزرزور" بيريس

عسكري وسياسي. ولد في بولندا سنة 1923 وهاجر إلى فلسطين سنة 1934. وانتخب عام 1943 أميناً عاماً لحركة "هنوعر هعوفيد" (الشبيبة العاملة)، بعدما أنهى دراسته في مدرسة زراعية. وعلى الرغم من الصفة السياسية المسبغة عليه إلا أن تاريخ حياته يبين دوره الأمني والعسكري حيث شارك في النشاط العسكري لمنظمة "الهاجناه" في الأربعينات، وكان في الفترة (1947-1949) مسؤولاً عن مشتريات الأسلحة والتجنيد في هيئة أركان المنظمة المذكورة وفي سنة 1948 عين مسؤولاً عن سلاح البحرية وشغل منصبي نائب المدير العام والمدير العام لوزارة الدفاع (1952-1959) وعمل خلال هذه الفترة على هيكلة وزارة الدفاع وبادر إلى إنشاء الصناعات الجوية والمشروع النووي الإسرائيلي حيث كان مسؤولاً عن إنشاء العلاقات الخاصة مع فرنسا وأدى في هذا الإطار دوراً رئيسياً في التخطيط للعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956.

وبيريس، عضو في الكنيست منذ العام 1959، وبرز كسياسي سنة 1968 عندما أدى دوراً هاماً في دمج أحزاب "مباي" و "رافي" و "أحدوت هعفوداه" في حزب واحد "العمل".

وبعد الإنقلاب السياسي في إسرائيل سنة 1977، والذي شهد الإطاحة بسلطة حزب "العمل" وفوز الليكود في إنتخابات ذلك العام، تولى بيريس زعامة حزبه "العمل" الذي مني في ظل زعامته بسلسلة من الهزائم الإنتخابية في الأعوام 1977 و 1981 و 1984 و 1988 و 1996. مع ذلك فقد تمكن بيريس من الوصول إلى رئاسة الحكومة مرتين، الأولى عام 1984 في نطاق حكومة المناوبة مع الليكود ولمدة سنتين، والثانية عقب إغتيال رئيس الوزراء اسحق رابين في تشرين الثاني 1995، حيث أمضى بيريس في رئاسة الحكومة حتى إنتهاء ولاية الكنيست في 1996، حيث خسر بيريس الإنتخابات التي جرت في أيار من العام ذاته أمام مرشح الليكود لرئاسة الحكومة بنيامين نتنياهو.

في عام 2000 فشل بيريس في الحصول على منصب الرئاسة الفخرية لإسرائيل، الذي فاز به موشيه قصاب (ليكود)، ثم شغل منصب وزير الخارجية في إطار حكومة "الوحدة" التي شكلها شارون عام 2001، ومع أن بيريس بقي نظرياً متمسكاً بآرائه السلمية في ظل هذه الحكومة (انسحب منها حزب العمل عام 2002) إلا أنه عملياً دعم مواقفها وسياستها الدموية ضد الفلسطينيين وشكل غطاء لها على الصعيد الدولي.

المذنب وماسح الذنوب

وبالعودة إلى الثنائي شارون وبيريس كما جمعهما يائير كوتلر في كتابه، فإنه لن يكون من الغريب أو المثير للتساؤل أن نجد قريباً "الزرزور والغراب" يجلسان جنباً إلى جنب في حكومة واحدة مجدداً، تجسد كل ما لا يزال يعتمل في صدر الرجلين العجوزين من نوستالجيا نحو الماضي المشترك ورؤى وأفكار وتطلعات ورغبات وهواجس ميثولوجية صهيونية مشتركة، القديمة منها والمتجددة.

فشارون وبيريس، كما يقول كوتلر في مؤلفه، "ليسا خصمين على الإطلاق، بل العكس هو الصحيح. فهذا الثنائي متشابه كما لو كانا توأمين سياميين". فهما مرتبطان ببعضهما منذ عشرات السنين، عندما نشأت العلاقة بينهما في عهد رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيلي الأول، دافيد بن غوريون، والذي يعتبر "المثل الأعلى" والأب الروحي المشترك للثنائي بيريس – شارون.

ويشير كوتلر إلى العلاقة الحميمة التي تجمع بين "العجوزين" منذ ماضٍ بعيد، بقوله: "عندما يكونان لوحدهما، على إنفراد، تراهما في قمة الإنسجام، على الرغم من أن علاقتهما الوثيقة هذه شهدت حالات صعود وهبوط"، ويضيف "هذا الثنائي يكمل أحدهما الآخر".

وبالرجوع إلى ماضي شارون وبيريس، سنجد أن هناك الكثير من نقاط الإلتقاء والقواسم المشتركة التي تجمع بينهما، خاصة من حيث أنهما ترعرعا في بداية طريقهما في كنف ذات المدرسة الفكرية والدفيئة الحزبية اللتين تمثلتا في حزب "مباي" بزعامة دافيد بن غوريون.

وللتذكير فقط، فقد ولد شارون ونشأ، قبل أن ينتقل للسكن في المنزل الذي أقامه لاحقاً لعائلته في مزرعة "هشكما" (الجميز) في النقب، في "كفار ملال" التي اعتبرت من المعاقل الإستيطانية لحزب "مباي" في منطقة "الشارون" القريبة من تل أبيب. ويؤكد "كوتلر" في كتابه " الزرزور والغراب" أن شارون "نشأ وتربى بهدي أفكار حزب مباي العمالي بكل ما تعنيه الكلمة، حيث تعلم في مدرسة إبتدائية هستدروتية تابعة للتيار العمالي".

كذلك ورد في مسلسل الشهادات والإقتباسات الطويل التي ساقها كوتلر في نفس الكتاب إن شارون وبيريس على حد سواء "يتصفان بالمكر والدهاء الشديد"، وكلاهما معروفان بكونهما "متآمرين كبيرين نغّصا حياة رؤساء الحكومات التي عملا فيها".

ويستطرد أن "لدى كل واحد من هذا الثنائي طموحًا جامحًا في أن يكون الرجل الأول. وعندما يكون أي منهما في موقع الرجل الثاني، تبدأ المؤامرات والدسائس". ويلخص كوتلر قائلاً إن شارون وبيريس "تستبد بهما نزعة جنونية نحو تبوؤ مركز الرجل الأول..." حيث يصارع كلاهما دون كلل، وبطرق ملتوية، "في سبيل البقاء وامتلاك مزيد من القوة والنفوذ، وتجدهما غالباً متفقين في نظرتهما الأساسية المؤازرة للمؤسسة الأمنية برمتها".

وذكر كذلك أن بيريس وشارون يتبنيان منطلقات حزب "مباي" التاريخي من حيث المفاهيم الأساسية تجاه قضايا الإقتصاد والمجتمع والأمن. ومن العوامل التي تُعزى إليها "اللغة المشتركة" التي جمعت بينهما في هذه الثنائية، حقيقة أن بيريس كان يعد خلال معظم سنوات حياته، وحتى العام 1977، من أشد الصقور تطرفاً في حزب العمل، حيث كان "مدافعاً متحمساً عن الإستيطان" في الأراضي الفلسطينية المحتلة بالضفة الغربية وقطاع غزة (ساند في أواخر الستينات وحتى أواسط السبعينات إقامة مستوطنات "غوش قطيف" في القطاع والإستيطان في الخليل ومنطقة نابلس وخاض صراعات ضد رئيس الوزراء رابين في هذا الصدد) ورفض إبان تلك الفترة أيضاً أية تسوية مع الفلسطينيين والدول العربية المعادية.

ويقول بيريس اليوم، بعد تجاوزه الـ 81 من عمره، عن التقلبات والتحولات الهامة التي مر بها منذ ذلك الحين، إن مواقفه تغيرت بعد عام 1977، عندما قام الرئيس المصري أنور السادات بزيارة القدس والتوقيع بعد ذلك على معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.

وقد رأى الناقدون في هذا التحول الذي طرأ على مواقف بيريس، دليلاً على الإنتهازية وإنعدام المبادىء، إلاّ أن بيريس نفسه يرى في ذلك "براغماتية سياسية وبُعد رؤية".

وبخلاف الزعماء الصهيونيين التاريخيين- المتوفين- أمثال بن غوريون وغولدامئير ومناحيم بيغن واسحق رابين، فإن بيريس وشارون يتقاطعان في إفتقادهما إلى القدرة الخطابية والشخصية الكاريزماتية. ومن الواضح أن العجوزين شارون وبيريس، يتحايلان على الزمن... فهما حبيسان منذ سنوات طويلة داخل جدران نظريتهما السياسية- الإجتماعية- الإقتصادية... وفي غياب استراتيجية وخطة عملية مقبولتين لدى غالبية الناخبين، تجد هذا الثنائي يداور ويناور في سبيل البقاء. ولا شك في أن الرجلين، شارون القائد العسكري الذي ذاع صيته وأطلق عليه المعجبون به لقب "ملك إسرائيل" في حرب تشرين 1973، وبيريس، السياسي المحنك الذي لقب بـ "الخاسر الدائم" والمتآمر الذي لا يكل، على إستعداد للقيام بأية حيلة أو مناورة في سبيل البقاء، واللهاث وراء إشباع شهوتهما وجشعهما للتربع على هرم السلطة والنفوذ.

عندما جدد بيريس وشارون علاقتهما التحالفية في إطار حكومة الوحدة التي شكلها شارون عام 2001، سألوا شولاميت ألوني، التي تعرف الرجلين حق المعرفة وخاصة بيريس الذي عملت معه في نطاق إحدى المجموعات الصهيونية في الأربعينات، عن الأسباب التي تدفع رفيقها العمالي السابق إلى التحالف مع الرمز اليميني المتطرف أريئيل شارون، فقالت: "لقد التحق شمعون بأريك بحكم المصالح المشتركة... أريك يحتاج إلى بيريس ليؤمن له الشرعية في قضايا السلام والأمن... فهو- أي بيريس- يوفر لشارون ورقة التين والغطاء الذي يحتاجه إقليمياً ودولياً".

وتضيف ألوني: "بيريس يمثل أكبر مصيبة بالنسبة لنا، فهو يحاول تطهير الخطيئة بواسطة جائزة نوبل للسلام التي حصل عليها".

حكومات الوحدة... وصفة للجمود والشلل

إذا أفلح الثنائي شارون- بيريس في تشكيل حكومة وحدة جديدة- وهي إمكانية مرجحة حسب سائر المراقبين- تجمع على مقاعد إئتلافها الحزبين الكبيرين وبعض قوائم المتدينين الحريديم، فإن هذه الحكومة ستكون رابع حكومة وحدة من نوعها يتم تشكيلها في إسرائيل منذ قيامها عام 1948.

وكانت حكومة الوحدة الأولى، التي أُطلق عليها اصطلاح "حكومة وحدة وطنية"، قد شكلت عام 1984، بإشتراك القطبين الرئيسيين في الساحة السياسية الإسرائيلية، العمل والليكود، وكان شارون وبيريس هما الوسيطان اللذان لعبا الدور الأساسي في الدفع نحو تشكيل هذه الحكومة بموجب اتفاق إئتلافي نَصَّ على التناوب على رئاستها بين زعيمي الحزبين شمعون بيريس واسحق شامير، حيث تولى الأول رئاسة الوزراء لمدة خمسة وعشرين شهراً (حتى 1986) ثم تولى الثاني (شامير) رئاسة الوزراء لفترة الخمسة والعشرين شهراً المتبقية من ولاية الحكومة حتى تشرين الأول من العام 1988.

تعود أسباب تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الأولى، التي عرفت أيضاً باسم "حكومة الرأسين" إلى التعادل في عدد المقاعد البرلمانية لمعسكر كل من الحزبين الكبيرين بواقع ستين مقعداً لكل منهما وبالتالي عدم قدرة أي من الحزبين على تشكيل حكومة ضيقة برئاسته.

حكومة الوحدة الوطنية الثانية التي أُعيد تشكيلها عام 1988 برئاسة اسحق شامير، قامت على أُسس مغايرة تماماً خاصة وأنها لم تكن تعبيراً عن واقع برلماني معين بقدر ما كانت نتيجة رغبة شامير شخصياً في تركيب حكومة تتمتع بقاعدة برلمانية عريضة حتى لا يضطر إلى الإعتماد في بقاء الحكومة على الأحزاب الدينية وأحزاب صغيرة من اليمين المتطرف. غير أن حكومة الوحدة الوطنية الثانية إنهارت بعد مرور قرابة عامين على تشكيلها (أي نصف فترة ولايتها القانونية) وذلك على أرضية الخلافات الحادة التي نشبت بين قطبيها (العمل والليكود) حول عملية السلام وسبل مواجهة الإنتفاضة الشعبية الفلسطينية التي كانت في أوجها إبان تلك الفترة، إذ قرر "العمل" الإنسحاب من الحكومة قبل البدء بعملية تصويت في الكنيست يوم 18 آذار 1990، على إقتراح بحجب الثقة عن الحكومة. وجاء الإنسحاب العمالي من الحكومة وفق خطة حاكها شمعون بيريس مع الأحزاب الدينية للإطاحة بحكومة الوحدة التي ترأسها شامير وتشكيل حكومة عمالية ضيقة بدلاً منها تستند إلى دعم الأحزاب الدينية لكن خطة بيريس هذه، والتي عُرفت منذ ذلك الوقت بـ "المؤامرة النتنة" – كما سمّاها إسحق رابين – باءت بالفشل، وإن كانت الحكومة قد سقطت بالفعل.

أما حكومة الوحدة الوطنية الثالثة، وهي الحكومة الخامسة عشرة السابقة للحكومة الحالية، فقد شكلها زعيم الليكود أريئيل شارون برئاسته في آذار عام 2001 عقب فوزه الساحق في إنتخابات رئاسة الوزراء على منافسه العمالي إيهود باراك. وتعتبر هذه الحكومة التي تَقاسَمَ فيها الحزبان الكبيران أهم المناصب الوزارية، من أوسع الحكومات في تاريخ إسرائيل حيث تألفت من 26 وزيراً، وضمت على مقاعدها ممثلي ستة أحزاب هي الليكود، العمل، شاس، "شعب واحد"، "إسرائيل بيتنا" و "يسرائيل بعلياه"، وقد تولى الليكود والعمل في الحكومة ثمانية حقائب وزارية لكل منهما.

حكومة الوحدة الوطنية الثالثة برئاسة شارون، والتي دعاها بعض المعلقين الإسرائيليين بـ "حكومة الثنائي شارون- بيريس" أُقيمت في شكل أساسي في ضوء تداعيات الإنتفاضة الفلسطينية الثانية (إنتفاضة الأقصى والقدس) التي إندلعت في أيلول 2000، إنتهى عقدها إلى الإنفراط بعد مرور عشرين شهراً على قيامها (إنحَّلَت في تشرين الثاني عام 2002) في ضوء إخفاقها المريع وعجزها التام عن تحقيق أية إنجازات تُذكَرعلى أي صعيد.

وبحسب الإستنتاج الذي توصل إليه معظم المراقبين الإسرائيليين في ضوء تأملهم وتقييمهم لتجربة سائر حكومات الوحدة الوطنية التي تشكلت في إسرائيل حتى الآن، فإن أية حكومة "وحدة وطنية" في الدولة العبرية سواء تلك التي أقيمت في الماضي أو يمكن أن تقوم في المستقبل، لن تكون سوى مجرد وصفة لجمود فكري وشلل شامل، سياسياً وإقتصادياً وأمنياً، وخدعة عابرة لتحقيق هدوء ووفاق داخلي وهمي فضلاً عن أنها ستكون سِتاراً لإخفاء وطمس إخفاقات وتقصيرات لا حصر لها.

والسؤال: هل ستثبت صحة هذا الإستنتاج مجدداً إذا ما قامت حكومة الوحدة الوطنية الرابعة، المرتقبة في إسرائيل، والتي يسعى ثنائي العجوزين، شارون وبيريس، في هذه الأيام بكل قواهما من أجل تشكيلها بحلول نهاية هذا العام أو مطلع العام المقبل؟!

__________________________________

r تمت الإستعانة في إعداد هذا الموضوع بعدة مراجع منها:

- كتاب "الزرزور والغراب" للكاتب يائير كوتلر، الذي صدرت ترجمته الى اللغة العربية عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" في كانون الأول 2002.

- "إسرائيل: دليل عام 2004"، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

- "طريق شارون" للكاتب محمد حمزة غنايم، والذي صدر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" في شباط 2001.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات