المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

عند الحديث عن الفساد سنجد أن إسرائيل، بالمقارنة مع جميع دول العالم الغربي، تقع في أسفل الدرك. فقد تدهورت خلال عشر سنوات من المكان الرابع عشر في مؤشر الفساد العالمي إلى المكان الـ 34، حيث تتكشف بين الفينة والأخرى فضيحة جديدة مثيرة للقشعريرة أكثر من سابقاتها (ضريبة الدخل، الشبهات ضد وزير المالية في قضية الجمعية الوطنية للعمال، رئيس الحكومة- إيهود أولمرت- وقضايا الفساد الكثيرة التي يُشتبه بتورطه فيها، رئيس هيئة الأركان العامة [السابق دان حالوتس] وقضية أسهمه في البورصة، رئيس الدولة- موشيه قصاب- والشبهات العديدة التي تحوم حوله) ونحن ما زلنا ماضين في السقوط إلى الهاوية الفظيعة.

الفساد هنا مفزع ومخيف وإذا لم نقف جميعاً صفاً واحداً في وجهه، وفي كل القطاعات التي يستشري فيها (ابتداء من ملاعب كرة القدم مروراً بالسلطات المحلية والكنيست وحتى مؤسسة الرئاسة ورئاسة الحكومة) فإن هذه الدولة ستنهار مثلما انهارت دول فاسدة في الماضي.

سيفقد المستثمرون ثقتهم بالاقتصاد الإسرائيلي، إذ أنهم سيدركون أنه لا توجد هنا استقامة ومعايير نزيهة، وسيعزفون بالتالي ببساطة عن استثمار أموالهم في إسرائيل. فضلاً عن ذلك فإن نتائج حجب ثقة الشعب عن الطبقة السياسية والفجوات الفظيعة الآخذة بالتفاقم بين شرائح المجتمع والطبقات الاقتصادية، ستؤدي بالجمهور إلى فقدان ثقته بالمؤسسة برمتها والمطالبة باستبدالها أو تصفيتها.

سوف يتفاقم الفساد المستشري وسيشجع ذلك ثقافة الكذب والغش، وستكون العواقب الاقتصادية وخيمة وكارثية، والتاريخ حافل بالأمثلة والشواهد على ذلك.

وبطبيعة الحال فإن الخصخصة الجنونية لخدمات عامة حيوية، حتى وإن لم تكن تشكل في حد ذاتها فساداً، يمكن أن تؤدي إلى تقليص الخدمات التي تقدمها الشركات (لاعتبارات الادخار في المال) والتي تعتبر خدمات مهمة جداً في مجالات معينة (كالصحة والتعليم والأمن والبنى التحتية) لحياة الفرد.

كيف ستكون الحال هنا إذا ما قررت الدولة التخلي عن جزء مهم من أموالها لصالح محسوبين ومقربين، أو في وضع أخطر، بأن تعطي الدولة أفضلية لمقربين في صفقات تبرمها معهم؟

هذا السؤال يستدعي التطرق للشبهات الخطيرة ضد رئيس الحكومة (أولمرت) في قضية "بنك ليئومي" (حيث يشتبه في أن أولمرت فضل مجموعة من مقربيه في عطاء لخصخصة البنك المذكور وسط منح تخفيض بقيمة ملايين الشواقل عن القيمة الحقيقية للبنك). هذا بالإضافة بالطبع إلى الملف الساخن في هذه الأيام، والمتعلق بقضية الشبهات بتفضيل مقربين في مصلحة ضريبة الدخل.

فكيف يمكن أن تدار شؤون الدولة في وقت لا يكترث فيه منتخبو الجمهور سوى لمصالح مقربيهم الأثرياء القلائل، دون أن يعبأوا بالشعب المسكين الذي يئن تحت نير الفساد والفقر والضرائب.. فهناك رواتب هزيلة وظروف اجتماعية بائسة من جهة، وهناك ضرائب جنونية من جهة أخرى. هناك من جهة عمل شاق ومضنٍ لا يتناسب بأي شكل أو معيار مع الأجور، وهناك من جهة أخرى خدمات بائسة ومخزية تقدمها الدولة.

أي إنسان عاقل ونزيه يا ترى يمكن أن يستثمر أمواله في دولة كهذه؟

أي إنسان عاقل مستعد لأن يجازف بأمواله في دولة يمكن أن تنهار في أية لحظة جراء انهيار شامل ناجم عن عفن وفساد عميق وعن عجز الوزارات والدوائر الحكومية عن القيام بعملها؟

تذكروا أن اليهود كانوا يؤمنون دوماً بالعدالة الاجتماعية والرفاه.. اليهود الذين جاؤوا إلى أرضهم من أجل بناء مجتمع جديد، عادل، متزن يستطيع اليهود أن يعيشوا فيه بأمان وطمأنينة سواء من الناحية الأمنية أو الاقتصادية.

تذكروا "جيش الدفاع الإسرائيلي" الذي كان من المفروض أن يعمل كـ "جيش الشعب". أي إنسان عاقل سيرغب بالخدمة في جيش يدافع عن دولة عالم ثالث لا يوجد له فيها أي مستقبل، دولة سيكون فيها عبداً مأجوراً لشركات المقاولات، دون تقاعد ودون شروط اجتماعية، دون رفاهية ودون أمل؟

كيف يمكن لإنسان عاقل أن يرغب في الخدمة في جيش وهو يعلم أنه لا توجد له أية فرصة، فيما بعد، للنجاح في عمل أو مشروع تجاري يتطلع لإقامته؟ وهو يعلم أنه لن يستطيع العيش من تقديم خدمات لوزارات ودوائر حكومية لأن أحد "المقربين" سيفوز بالعطاء، بغض النظر عن نوعية وجودة الخدمة التي يستطيع تزويدها؟

إن الدولة الفاسدة هي الدولة التي يحظى فيها أحد المقربين بوزارة أو منصب رفيع، على الرغم من أن شخصاً آخر أوسع ثقافة وعلماً وأكثر ملاءمة تقدم لإشغال المنصب.

الدولة الفاسدة هي الدولة التي يتقاضى فيها الأكاديميون رواتب أقل ويعملون أكثر بكثير.

الدولة الفاسدة هي الدولة التي تقلص موارد التعليم وتلحق به ضرراً جسيماً وتتسبب بهبوط حاد في إنجازات ونتائج طلبتها/ مواطنيها، ما يؤدي بالتالي إلى إلحاق ضرر جسيم آخر في كل الأماكن التي سيعملون فيها.

في دولة فاسدة تهاجر العقول الكبيرة إلى دول الغرب التي تنتظر بأذرع مفتوحة قدوم العلماء والباحثين ليقفزوا بها إلى الأمام.

أجل، سيكون الوضع جد خطير وإلى حد انهيار الدولة من تلقاء ذاتها.

وفيما يتعلق بالإجرام، فسوف يجد أناس يائسون ينقصهم التحصيل العلمي الملائم، أنفسهم، وخاصة في مناطق الضواحي أو الهوامش (وفي دولة إسرائيل يدور الحديث عن كل منطقة تقع أو تُصنَّف خارج منطقة المركز) متورطين مع عناصر مشبوهة وفي مجالات محظورة من أجل البقاء.

الدولة الفاسدة هي دولة لا يعبأ السياسيون فيها، ولو بأبسط قدر من الاهتمام، بالمواطنين، بل ينصب كل اهتمامهم وجهودهم على خدمة وتحقيق مصالحهم الشخصية ليس إلاً.

أخيراً وليس آخراً، فإن الدولة الفاسدة هي الدولة التي تنهار فيها النظم من تلقاء ذاتها أثناء أية حالة طوارئ يمكن تصورها.

وانظروا، ويا للعجب أو سخرية التاريخ! ففي حرب لبنان الأخيرة تلقينا ضربة موجعة، مباشرة في الوجه، تبرهن على صحة ما ورد أعلاه من طروحات وإدعاءات بشأن الانهيار الشامل للأجهزة والنظم في دولة فاسدة خلال حالة طوارئ.

إنه لأمر خطير، لكنه قد يشكل طوق نجاة قوميا يدفعنا إلى تغيير مسلكياتنا وأساليبنا الملتوية وأن نشحذ الهمم ونتحد جميعاً في مكافحة الفساد والعفن والمحسوبية، حتى نتمكن من إنقاذ وتجنيب دولتنا "الضربة القاضية" التي لن يبقى لنا بعدها حتى مجرّد وجود.

______________________________

* تومر كيرت- عضو في "الحركة من أجل جودة الحكم في إسرائيل". ترجمة: "المشهد الإسرائيلي".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات