المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تميل الدول الكولونيالية التي تشهد عملية انحسار وتراجع- غالباً في أعقاب ضغط عسكري أو قضائي أو سياسي- إلى "صب غضبها" أحياناً على الأقليات الداخلية وإلى تعميق سيرورات كولونيالية داخلية. الشعب الكردي يشكل مثالاً على المعاناة الناجمة عن هذه العملية. هذا ما حصل في تركيا التي بُنيَت، وسط قمع الأقلية الكردية، وتدمير قرى بأكملها وإجراء تنقلات سكانية قَسْرية، وهذا ما حصل أيضاً في العراق، حيث ذاق الأكراد صنوف البطش والتنكيل على يد نظام صدام في أعقاب الانسحاب من إيران والكويت.

هناك أيضاً بطبيعة الحال إمكانية الانسحاب إلى الوطن دون قمع الأقليات، كما حصل في بريطانيا أو فرنسا في أعقاب انحسار وأفول الإمبراطوريتين، البريطانية والفرنسية.

في المفترق التاريخي الحالي، يبدو أن إسرائيل اختارت طريق تعميق الكولونيالية الداخلية. السيطرة والتمييز تجاه الأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل ليسا بالشيء الجديد كما هو معروف، لكنهما يسيران كما يبدو في منحى التعاظم والتفاقم في أعقاب الانسحاب من غزة وفي خضم التوقعات بحصول انسحابات أخرى. ولعل إيراد عدة أمثلة من الفترة الأخيرة كفيل بإثبات صحة ذلك.

بدايةً هُناك النقاش المستمر لـ"المشكلة الديمغرافية" والذي يوّلد سَيلاً من المبادرات الرامية إلى إقصاء العرب من الحياة الإسرائيلية. وتشمل هذه المبادرات الاقتراحات الداعية إلى "تبادل سكاني" بين المستوطنات (في الضفة الغربية) ومنطقة المثلث (داخل الخط الأخضر) والتي سيتعين في نطاقها على عرب المثلث أن يدفعوا مكانتهم المدنية ثمناً لجريمة المستوطنات التي بنتها إسرائيل، هذا أولاً. ثانياً هناك خطط مختلفة مطروحة للنقب- وخاصة مبادرة مجلس الأمن القومي الإسرائيلي- تساند وتدعو إلى إخلاء قسري لقرى البدو القائمة في معظمها على أراضي آبائهم وأجدادهم. ثالثاً، أنظمة حالات الطوارئ التي تحظر منذ عدة سنوات تجسيد أحد حقوق المواطن الأساسية جداً، وهو جمع شمل عائلات مواطنين عرب من إسرائيل مع فلسطينيين (زوجات وأزواج) من المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967.

هذه المبادرات تسوّقها الدولة بغطاء مكشوف، من قبيل: (فرض) "القانون والنظام" في موضوع البدو، و"السلام" في موضوع نقل المثلث، أو "منع الإرهاب" في قضية جمع شمل العائلات.

لكن هذه الذرائع الواهية والكاذبة تخفي وراءها العنصرية العميقة للدولة الإثنوقراطية التي تعمل دون كلل، وبشكل لا ديمقراطي، على تعميق السيطرة اليهودية وسط إقصاء وحرمان السكان العرب في إسرائيل من موارد القوة والأراضي العامة.

وللمفارقة فقد نشرت لجنة الدستور التابعة للكنيست مؤخراً مسودة الدستور العتيد للدولة. هؤلاء السياسيون أنفسهم، الذين تلهج حناجرهم بأهمية الدستور الديمقراطي، يصممون ويصوغون في الوقت ذاته سياسة تحول إسرائيل إلى دولة أبرتهايد زاحف.

لعل شهادة شخصية من شأنها أن تُسهم في وصف الاتجاه:

مؤخراً شاركت في مبادرتين محبطتين، حاولتا إصلاح نماذج عميقة من التمييز ضد الأقلية.

فقد شاركت في المراحل الأولى لخطة متروبولين لبئر السبع، والتي وصفت المجال المخطط بأنه "ثُنائي القومية" وتقدمت نحو إيجاد حل لمعظم القرى غير المعترف بها، إلى أن أحبطت هذه الخطوة من جانب (القائم بأعمال رئيس الحكومة) إيهود أولمرت. الخطة بصيغتها الحالية ترفض الاعتراف بـ 34 قرية وذلك في نطاق عملية واضحة من الطرد والنهب المخطط للأراضي.

كذلك شاركت في نقاش أجراه فريق من علماء الجغرافيا حول الحدود المستقبلية لإسرائيل، وقد أحرز خلال ذلك تقدم باتجاه القبول مجدداً بحدود الخط الأخضر، إلاّ أنه تعذّر التوصل إلى توافق حول فكرة نقل "المثلث" التي ما زال يتمسك بها عدد من خبراء علم التخطيط الجغرافي.

في ضوء بروز هذه المشكلات اضطررت للانسحاب من المشاركة في هذين المشروعين اللذين يشكلان شهادة من مصدر مباشر على المفاهيم الكولونيالية الراسخة في أنماط التفكير الصهيونية.

غير أن التاريخ ينبئ أن نزعة الكولونيالية الداخلية مصيرها الفشل. فبعد سنوات طوال من محاولات القمع، اضطرت سلطات تركيا والعراق إلى منح حقوق لا بأس بها للأقلية الكردية. ورغم الفوارق بينهما، إلاّ أن من الواضح أن الدولتين فشلتا في فرض تغيير في هوية وأهداف الأقلية وخلقتا معارضة عميقة للسلطة. لكن محاولات في الاتجاه المعاكس، اتجاه الدمقرطة، أثمرت في الغالب عن تعاون مجدد بين الأغلبية والأقلية، مثلما حصل في إيرلندا أو الهند.

وعليه فإنه لمن الجدير بصانعي السياسة، لا سيما في ضوء صعود حركة "حماس" التي تطرح بديلاً جديداً لهوية العرب، أن يتبصروا ويدركوا الانعكاسات المدمرة التي ستنجم عن تحويل العرب إلى "أكراد إسرائيل" وذلك في مقابل الإمكانيات الإيجابية الكامنة في تطبيق سياسةٍ متساويةٍ تجاه جميع مواطني الدولة وطوائفها.

[ترجمة "مدار"]

________________________________

(*) كاتب المقال، البروفيسور أورن يفتاحئيل، هو أستاذ الجغرافيا والسياسة العامة في جامعة "بن غوريون" في النقب.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات