المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تشكل خطة الانفصال وكل الضجة المثارة حولها علامة واضحة على أزمة الكولونيالية الإسرائيلية. ومن الغريب أن هذه الأزمة تنفجر فقط الآن بهذه القوة رغم أن كل المشروع الكولونيالي الاستيطاني هو مشروع منطو على مفارقة تاريخية بشكل مرضي. والكولونيالية الاستيطانية الاسرائيلية هي الأصغر سنا في مشاريع من هذا النوع، ففي الولايات المتحدة الأميركية وكندا واستراليا ونيوزيلنده انتهت هذه الكولونيالية قبل أكثر من مئة سنة.

الحرب العالمية الثانية كانت هي الأخرى حربا كولونيالية ومحاولة يائسة أخيرة لإرجاع عقارب الساعة التاريخية الى الوراء، ولتأسيس كولونيالية جديدة. عندما خرجت ألمانيا النازية لاحتلال مناطق اوروبا الشرقية واسكان الالمان فيها أطلق هتلر على ذلك: "الحاجة من اجل الحياة". وعلامة واضحة على نواياهم كانت انه في اماكن كثيرة وصل اليها الألمان غيروا أسماء المواقع التي احتلوها باسماء ألمانية. في هذه الحرب الكولونيالية الهمجية قتل كما هو معروف 50 مليون انسان، وكان هدف الاستغلال والعبودية المعلن للالمان النازيين هو الذي ادى واكثر من أي امر آخر الى المقاومة الجريئة والشجاعة والتضحيات الكثيرة ضد النازيين. وبشرت الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء فيها بنهاية الكولونيالية الاستيطانية والامبريالية القديمة (بما في ذلك الامبريالية البريطانية في فلسطين، التي تزينت بثوب نظام انتداب من قبل رابطة الشعوب ولم تكن أبدا مقبولة على الشعب الفلسطيني).

الكولونيالية الوحيدة التي صمدت بعد ذلك لسنوات كانت كولونيالية استيطانية ذات دلالات معروفة ومشابهة للكولونيالية الاسرائيلية، هي الكولونيالية الفرنسية في الجزائر. هناك أيضًا انتخب رئيس أعلن عن بقاء المستوطنين الفرنسيين في الجزائر وغير بعد ذلك رأيه، كذلك في الجزائر كانت معارضة قوية من المستوطنين المحليين للخروج "من المناطق" وتلقوا الدعم من الاحتلاليين. في الجزائر قضي كذلك على المشروع الاستيطاني، على الرغم من وجود مليون مستوطن فرنسي ظلوا في الجزائر زهاء مئة سنة، والسبب للقضاء على المشروع الاستيطاني هناك يلقي بأبعاده على ما يجري هنا. السبب الأساسي لطرد الاحتلال كان المعارضة الجزائرية القوية للاحتلال والاستيطان. كذلك في الجزائر اطلق المحتل الفرنسي على مقاوميه الجزائريين لقب "الارهابيين".

لقد استوعبت الدول الكولونيالية العظمى أنه لا توجد امكانية لمواصلة تسلطها واستعمارها، في ظل المقاومة الجماهيرية المتصاعدة دائما من الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، وحاولت تلك الدول مواصلة التسلط بوسائل اخرى وفرض "حداثة" كولونيالية وامبريالية بوسائل مختلفة منها العولمة على سبيل المثال.

انتصار إسرائيل في حرب 6/67، دفع غالبية الاسرائيليين الى الثمالة القومية وعند البعض كان ذلك بمثابة أعجوبة، لكن هذه الأعجوبة هي التي جعلت أزمة الكولونيالية الإسرائيلية تبلغ ذروتها. إن القمع العسكري للفلسطينيين ومصادرة أراضيهم وإذلالهم وإقامة مستوطنات على اراضيهم، تمخض عن المقاومة الفلسطينية الشاملة وتفجر انتفاضتين حتى الآن وهناك مؤشرات لانتفاضة ثالثة بعد تنفيذ خطة الانفصال (راجع ما كتبه في هذا الشأن داني روبنشتاين في "هآرتس"). ولقد حاولت الحكومات الاسرائيلية كلها وعلى مدى عشرات السنوات استعمال مختلف الاساليب للتغلب على الضغط الفلسطيني، وهكذا تأسست عدة منظمات تعاون مع الاحتلال منها "روابط القرى"، وهكذا حاولوا تجميل "حماس" في غزة كقوة ضد منظمة التحرير الفلسطينية، وحتى ارجاع سيناء واخلاء "يميت" كانا جزءًا من هذا الهدف. غير أن المحاولة الكبرى لمواصلة الاحتلال بطرق واساليب جديدة تمثلت في اتفاقات أوسلو. بقي شيء واحد فقط لم تجربة أية قيادة إسرائيلية، وهو بكل بساطة لملمة الأغراض والانسحاب من المناطق المحتلة، من المناطق كلها دون ولكن..

كل إسرائيلي يعرف الأسطورة المتواصلة حول "انعدام الشريك"، الذي يمكن صنع السلام معه. وهذا الأمر بدأ في عام 1967، واستغلت الدعاية الرسمية كثيرا اتفاقات الخرطوم التي رفضت فيها الدول العربية صنع السلام مع اسرائيل.

لكن جاء توم سيغف في كتابه الجديد "1967- البلاد تغير صورتها" ليشرح لنا فيه حكاية مختلفة تماما، فبعد وقت قصير من حرب حزيران 1967، توجه الملك الاردني حسين واقترح على إسرائيل اتفاقية سلام مقابل اعادة المناطق المحتلة (باستثناء منطقة "حائط المبكى")، لكن للقيادات الإسرائيلية كانت برامج اخرى بالنسبة للضفة الفلسطينية. وعلى الرغم من الاعلانات الصادرة عنها والموجهة الى الخارج حول رغبتها في السلام فقد بدأت تلك القيادات بعد ايام قليلة من حرب حزيران 1967، في وضع برامج حول كيفية مواصلة التمسك بالاحتلال. وحتى هذه الحقيقة (وأمور كثيرة أخرى لا يعرفها الجمهور حتى اليوم) يمكن قراءتها في هذا الكتاب الجيد.

خطة الانفصال يمكن رؤيتها كوسيلة أخرى لمواصلة وإطالة الحكم الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، الا أن هذه الخطة أثارت نقاشا داخل القيادة الحاكمة (في الليكود مثلا)، أي بين شركاء مختلفين. وان المستوطنين في هذا النقاش هم المسخ الذي تمرد على خالقه.

المقابلة التي جرت مع دوف فايسغلاس في حينه كانت في الأساس محاولة لإقناع المستوطنين أن الحديث يدور بكل بساطة عن تكتيك وعن إيجاد سبل لمواصلة اللعبة القديمة، أي لمواصلة الاحتلال، بأساليب جديدة ("هآرتس"، 8/10/2004). وعلى الرغم من احتجاجات المستوطنين الصاخبة يجب التفكير ان هذا الادعاء فعل فعله وبشكل جيد داخل اليمين الاسرائيلي، ولو لم يكن ذلك لكنا بالفعل شهود عيان لمحاولة انقلاب ومن يعلم ماذا أيضا. وشارون يواصل مهمة الاقناع، فقد ظهر أخيرًا في أريئيل، حيث استقبل بأذرع مفتوحة، وقد اعلن ملتزما: "هذه المنطقة ومناطق أخرى" ستكون بمثابة جزء لا يتجزأ من اسرائيل وستضم اليها بتواصل اقليمي ("هآرتس" 22/7/2005). هدف شارون هو توحيد الجبهة السياسية لمناصري وداعمي الاحتلال، من خلال فصم وتقسيم معسكر المستوطنين وجذب عدد منهم اليه، وكما يبدو فهو ينجح بهذا وأبرز في الجريدة ان اللقاء جرى فيما كان العديد من المستوطنين في كفار ميمون. ولشدة الخجل ولكن ليس المفاجأة، انضم كذلك شمعون بيريس إلى تلك الجبهة وقال للمقربين منه بسذاجة وبتلونه المعروف: "لسنا بحاجة للقول اننا نتنازل عن تلك المناطق، في الوقت الذي وافق فيه الفلسطينيون على ذلك". ولقد جرى تفسير تلك الاقوال بحق كتحضير لانضمام "العمل" الى حكومة شارون القادمة، خلافا للوعد بأن "العمل" سيترك الحكومة بعد خطة الانفصال.

لا يوجد بين شارون والمستوطنين نقاش أيديولوجي أو فكري حول شؤون الاحتلال والكولونيالية ويمكن تصديقه عندما يردد دائما انه يحب المستوطنين (وان لم يكن بالأساس يحب قادتهم)، وهدفه لا يختلف عن هدف المستوطنين لكنه يضطر لأخذ إكراهاته السياسية بعين الاعتبار. وليس شارون وحده يحب المستوطنين، بل إن رئيس الدولة أيضا يقدرهم كثيرا. ولقد كتب في "يديعوت احرونوت" مقالا في 23/7/2005 مما قال فيه: "ان القيم التي يناضل من اجلها المستوطنون في الضفة الغربية وقطاع غزة هي قيم ضرورية ومطلوبة للشعب وللدولة. وللمستوطنين دور هام ومساهمة كبرى في انجازات ومكاسب إسرائيل". ويبدو لي ان رئيس الدولة ضرب بذلك رقما قياسيا حيث هو، ولا اعرف على الأقل خلال الأربعين سنة الماضية رئيس دولة مجد بهذا الشكل كولونيالية ظالمة. ولم يكتف بذلك وإنما قال أيضا: "إن آلام المستوطنين هي آلام الأمة كلها".

صحيح أن غالبية الجمهور تدعم وتؤيد خطة الانفصال، ولكن ان يفسر ذلك كرغبة وارادة غالبية الجمهور لانهاء الاحتلال فان ذلك للاسف مبالغ فيه، وذلك لأن الكثيرين يؤيدون الخطة بالضبط من موقع تلك الأسباب والمنطلقات التي يقترحها شارون. صحيح أن هناك جزءًا كبيرًا من الرأي العام يقف ضد الاحتلال ومن أجل السلام. إلا أن ذلك لا يفسر حاليا بانه يجب الخروج كذلك من المستوطنات (كما قال بيريس مثلا)، وصحيح أيضًا أن جزءا من هذا الجمهور كان يوافق على انسحاب شامل، لو كانت هناك حكومة تتبنى هذا الموقف، حكومة شجاعة تقر بضرورة الانسحاب من كل المناطق المحتلة عام 1967. ولكن أين هي تلك الحكومة؟ حتى في "مبادرة جنيف" لا يوجد موقف كهذا!.

كذلك فإن النقاش الذي يديره النظام الحاكم ضد من يتعاطفون ويتفهمون مواقف المستوطنين ليس نقاشًا فكريا أو من منطلق مبدأ أنه ممنوع قمع شعب آخر، ولا نريد أن نكون محتلين، ولا توجد لنا حقوق على اراضي الضفة، او انه يجب الاعتراف بانه لا يمكن اخضاع حركة فلسطينية ضد الكولونيالية والاحتلال.

أما الرغبة المفهومة لليسار الصهيوني في عرض المستوطنين كقلة هامشية، فإنها ليست صحيحة لأسفي. لكن الأسوأ من ذلك هو التغطية على المسؤولين الاساسيين عن الاحتلال وهم كل حكومات اسرائيل، ويجب اضافة غالبية الجمهور الإسرائيلي، بمختلف أجياله، والذي لم يظهر ولم يبد أي مبالاة ازاء معاناة الفلسطينيين واذلالهم وقمعهم وسرقة اراضيهم. هذا الجمهور اختار كل مرة مجددا ومقابل بعض الشعارات الفارغة حول "الرغبة في السلام" البيريسيين والشارونيين والباراكيين والنتنياهويين.

بعد الانفصال قد تقوم حكومة ينضم اليها شمعون بيريس إذا لم يكن، والاحتمال ضئيل لذلك، أي تمرد في حزب العمل، ولهذه الحكومة يمكن ان ينضم "شينوي" وحتى "المفدال"، وهذه ستكون حكومة تواصل التقاليد الكولونيالية للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. ومشاركة "العمل" فيها يجب ان لا تثير الاستغراب، فللاحزاب الاشتراكية الديمقراطية تقليد طويل في التسلط على شعوب أخرى. ويمكن في هذا الصدد تذكر جي موليه في فرنسا وارنست بوين في انجلترا وكذلك "مباي" و"العمل" في حكومات الاحتلال الاسرائيلية.

هدف هذه الحكومة هو الحفاظ على المستوطنين والاحتلال من خلال الجهد للحفاظ على الدعم الأميركي، وحكومة كهذه ستحظى بالدعم المتجدد من المستوطنين.

أما اليسار الحقيقي فسيظل على مواقفه ومواقعه ويعمل كل ما في وسعه من اجل افشال تلك السياسة الكولونيالية. لكن الدور الأساسي في القضاء على النظام الكولونيالي في فلسطين سيبقى مستقبلا أيضا في أيدي المقاومة الفلسطينية.

الكولونيالية الإسرائيلية في خضم أزمة حادة الآن. ولا يمكن استشراف كيف سيكون في مقدرتها أن تنتصر، رغم تفوقها العسكري، على المقاومة الفلسطينية.

(*) شموئيل أمير- باحث وناشط سياسي

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس, يميت, الليكود, انقلاب, شينوي

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات