المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

هيلينا كوبان

المعروف أن مراحل التوتر في صراع ما تطمس تلك الأصوات المعتدلة المسموعة عادة، الداعية الى التعقل والاحترام المتبادل وصنع السلام عن طريق حل ايجابي للمشاكل. وهذا ما حصل لمبادرة السلام المنصفة تماماً، التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير عبد الله في ربيع 2002 وتبنتها القمة العربية في بيروت، ولم تجد آذاناً صاغية في اسرائيل. السبب كان دوامات العنف التي غمرت الاسرائيليين والفلسطينيين في نيسان (ابريل) من السنة نفسها.

وها نحن اليوم نرى مواقف معلنة مشابهة من أطراف عديدة في اسرائيل. وما أخشاه أنها لن تجد آذانا صاغية في العالم العربي بسبب التوتر المتزايد حالياً في فلسطين. حزب العمل الاسرائيلي انكمش، كما نعلم، الى حد يقرب من التلاشي. مع ذلك هناك أصوات قوية في اسرائيل تحاول توعية الاسرائيليين اليهود على طبيعة قيادتهم السياسية الحالية ونتائج سياساتها تجاه الفلسطينيين.

من بين هذه الأصوات رئيس الكنيست السابق أبراهام بورغ، الذي حذّر في مقال نشرته "يديعوت أحرونوت" أخيراً من أن "شعب اسرائيل اليوم يقف على قاعدة من الفساد، على أرضية من القهر والظلم. وبهذا نجد أمامنا بداية نهاية المشروع الصهيوني".

من التحذيرات الأخرى ذلك الذي أطلقه ميرون بنفينيستي، نائب رئيس بلدية القدس السابق تيدي كوليك، وحاييم هانيغبي، "اليساري" الاسرائيلي الذي شارك في عملية أوسلو للسلام. ورجّح هذان المؤيدان السابقان لأوسلو، العملية التي كانت نهايتها المفترضة اقامة الدولتين، أن الوقت تجاوز هذا النوع من الحلول، وأن على الاسرائيليين القبول بحل يشابه ذلك الذي اضطرت اليه الاقلية البيضاء في جنوب أفريقيا - أي ضمان البقاء ليس عن طريق دولة ذات قومية واحدة، بل في اطار دولة واحدة أوسع مزدوجة القومية - دولة "اسرائيل - فلسطين".

تكمن أهمية مقالي بنفينيستي وهانيغبي في ان "اليسار" الاسرائيلي كان الى حد قريب مجمعاً تقريباً على أن أي حل لا بد ان ينتهي الى دولة قوية يهودية في شكل كامل أو شبه كامل. (الواقع ان تأييد الكثيرين من "اليسار" الاسرائيلي للانسحاب من الضفة الغربية وغزة ينبع من رغبتهم في ادامة "الصفاء" العرقي/الديني لدولتهم).

ربما عدت في عمود لاحق الى مقالتي بنفينيستي وهانيغبي وقضية "النموذج الجنوب أفريقي"، إلا انني اريد الآن التركيز على نص منشور آخر، يزيد من أهميته انه ليس من وضع كاتب معين مهما كانت درجة اطلاعه، بل لجنة حكومية. هذه كانت "لجنة أور" التي شكلها كبير قضاة اسرائيل أهارون باراك في تشرين الثاني (نوفمبر) 2000 للتحقيق في الظروف المحيطة بمقتل 12 فلسطيني من مواطني اسرائيل (اضافة الى فلسطيني من غزة ويهودي اسرائيلي) على يد الشرطة الاسرائيلية خلال التظاهرات المؤيدة للانتفاضة التي كانت حصلت الشهر السابق.

في اسرائيل ينص القانون، عندما تقرر الحكومة تشكيل لجنة من هذا النوع، على ان تعيين اعضائها من اختصاص كبير القضاة. ومن هنا فقد عيّن كبير القضاة باراك على رأس اللجنة عضو المحكمة العليا الاسرائيلية تيودور أور، مع عضوية شيمون شامير، "المستعرب" المرموق وسفير اسرائيل السابق الى مصر والأردن، وقاضياً فلسطينياً - اسرائيلياً من الناصرة. واستغرق عمل اللجنة ثلاث سنوات، وأظهر تقريرها الذي نشرته أوائل الشهر الجاري مدى تعمقها في التحقيق في أسباب التاريخ الطويل من العداء، ليس فقط بين فلسطينيي اسرائيل (نحو 1.2 مليون نسمة) والشرطة الاسرائيلية، بل أيضاً بينهم والحكومات الاسرائيلية المتتابعة منذ 1948 . ومن بين أهم ما جاء في هذا الخصوص المقطع في أواخر النص الانكليزي للتقرير، القائل بأن اللجنة "وجدت ضرروة لتركيز العمل على اعطاء مواطني البلاد من العرب المساواة الحقيقية. لمواطني اسرائيل العرب الحق في المساواة لأن الديموقراطية تشكل جوهر دولة اسرائيل، ولأنها الحق الأساسي لكل مواطن. على الدولة العمل لازالة وصمة التمييز، بأشكاله وتعيبراته المختلفة، ضد مواطنيها العرب. وعلى الدولة في هذا السياق ان تطلق وتطوّر وتشغّل برامج بموازنات تؤدي الى ازالة الفوارق في التعليم والاسكان والتنمية الصناعية والتشغيل والخدمات". (المقطع 24).

كما دعت اللجنة كل سلطات اسرائيل الى العمل وصولاً الى تعايش سلمي بين اليهود والعرب في اسرائيل، وأضافت:

"تركز اللجنة على أن التعايش يواجه الطرفين بتحديات ليست سهلة. انه يتطلب من كل منهما الاستماع الى الآخر وتفهم حساسياته واحترام حقوقه الأساسية. على المواطنين العرب ان يضعوا في الاعتبار أن اسرائيل تمثل تحقق تطلع الشعب اليهودي الى دولة له، الدولة الوحيدة في العالم التي يشكل اليهود فيها الغالبية، الدولة التي تقوم جزئيا على مبدأ لم شمل الشتات اليهودي، وان هذا هو جوهر وجود الدولة بالنسبة لمواطنيها اليهود ...

"في الوقت نفسه تلاحظ اللجنة ان على الغالبية اليهودية أن تضع في الاعتبار أن الدولة ليست يهودية فحسب، بل ديموقراطية أيضاً... على الغالبية ان تفهم أن الأحداث التي حولّت العرب الى أقلية في الدولة كانت كارثة وطنية بالنسبة لهم، وان اندماجهم في دولة اسرائيل ترافق مع تضحيات مؤلمة. على الغالبية احترام هويتهم وثقافتهم ولغتهم". (المقطعان 54 - 55)

إلا ان ما قرأته من تغطيات الصحافة العربية للتقرير ركز على انتقاد المقاطع التي تحمّل عزمي بشارة والشيخ رائد صلاح مسؤولية "التحريض على العنف" في الأيام التي سبقت تظاهرات فلسطينيي اسرائيل. وربما كان الاتهام الى بشارة وصلاح ظالماً، لكن نص التقرير بكامله يجسد اعترافاً جديراً بالاهتمام من جانب هذه الهيئة الاسرائيلية الرسمية بعدد من الحقائق المهمة: أولاً، هناك الادانة التي أوردها في ما يخص الاضطهاد الطويل الذي مارسته دولة اسرائيل ضد مواطنيها الفلسطينيين. ثانياً، الانتقاد الصريح لممارسات الكثيرين من قادة الشرطة الاسرائيلية، من ضمنهم قائدها العام يهودا ويلك. ثالثاً، الانتقاد الصريح لـ"ثقافة" معاداة العرب، واطلاق النار الاعتباطي، والافتقار الى المساءلة ضمن أجهزة الشرطة الاسرائيلية. رابعاً، وربما كان هذا الأهم، الانتقاد الصريح للعديد من الممارسات والتقصيرات من جانب صانعي السياسة المعنيين، وليس فقط وزير الأمن العام شلومو بن عامي بل أيضاً ايهود باراك رئيس الوزراء آنذاك.

لا شك ان كل هذا تطلب شجاعة من واضعي التقرير، وهو في اعتباري مؤشر حقيقي الى استقلالية الجهاز القضائي الاسرائيلي موقفا وضميرا.

واعاد ذلك الى ذهني الدور الذي قام به القاضي الجنوب أفريقي (اليهودي) ريتشارد غولدستون في المرحلة الأخيرة من النظام العنصري هناك، عندما ترأس لجنة قضائية للتحقيق كشفت عن انتهاكات الأجهزة الأمنية التي كانت تحت سيطرة البيض. وأملي ان يتمكن الجهاز القضائي الاسرائيلي في الاستمرار في دوره الشجاع في فضح انتهاكات قوات الأمن والقيادة السياسية في اسرائيل. والسؤال الآن، متى سنرى تقريراً عن قتل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة على المستوى نفسه من التقرير عن قتل فلسطينيي اسرائيل؟ وما هو موقف المحكمة العليا في اسرائيل تجاه سياسة اغتيال من تريد من القادة الفلسطينيين؟

مع ذلك فالواضح، من تقرير لجنة كاهانا في 1983 عن مسؤولية ارييل شارون غير المباشرة عن مجزرتي صبرا وشاتيلا الى تقرير لجنة أور اليوم، أن بامكان لجان اسرائيل القضائية القاء ضوء طالت الحاجة اليه على بعض انتهاكات الحكومة وقوات الأمن هناك. (سؤال آخر: متى سيتمكن الجهاز القضائي لأي من الدول العربية من لعب دور مشابه في استقلاليته وانسانيته؟)

* كاتبة بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الاوسط.

الحياة 2003/09/29

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات