المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

المشهد الإسرائيلي: لا تزال بعض النتائج العينية للانشغال بالسؤال حول سيناريوهات اليوم التالي لخطة الانفصال الشارونية عن قطاع غزة وأجزاء من شمال الضفة الغربية، في إسرائيل، من نصيب النخب الأكاديمية فقط. ومن آخر هذه الانشغالات، حسبما أشرنا في سياق سابق، مقالة كتبها شلومو بروم، أحد كبار الباحثين في "مركز يافه للدراسات الإستراتيجية" في جامعة تل أبيب، وظهرت في النشرة الإستراتيجية الأخيرة الصادرة عن هذا المركز (عدد أيار 2005) تحت العنوان "خطة الانفصال- اليوم التالي". وتوقع فيها استمرار الأزمة بين الجانبين حتى في حالة كتابة النجاح للخطة في التطبيق العملي، نظرًا لتباعد المواقف بينهما بشأن المرحلة التالية، والأهم من ذلك نظرًا لانعدام رؤيا إسرائيلية للتسوية.

وننشر هنا الترجمة الكاملة لهذه المقالة.

تحتل خطة الانفصال محور السجال العام في إسرائيل، وينصب جُل الاهتمام على الأسئلة المرتبطة بتنفيذها، مثل: هل سينجح رئيس الحكومة في التغلب على المشاكل السياسية الداخلية والحؤول دون إحباط الخطة؟ إلى أي حد ستكون هناك مقاومة عنيفة من جانب المستوطنين ومؤيديهم لعملية الإخلاء؟ هل ستحدث في الجيش الإسرائيلي مظاهر رفض وتمرد ذات شأن؟ هل سيجري تنفيذ الانفصال تحت نيران فلسطينية؟

كل هذه أسئلة هامة، ولكنها تتقزم أمام السؤال المركزي: ماذا سيكون وضع إسرائيل غداة الانفصال؟ هل ستسير في سكة تقربها من المصالحة مع الفلسطينيين ومن حل النزاع، أو على الأقل تقربها إلى تخفيف حدة الصراع (المواجهة) معهم بما يمكنها (إسرائيل) من إدارته؟

السيناريو

لغرض تحليل هذه المسألة سنفترض أن تطبيق خطة الانفصال سيتكلل بالنجاح... حيث سيتم بوجه عام الحفاظ على وقف إطلاق النار في الفترة الزمنية حتى بداية تطبيق الخطة، وسيكون- انطلاقاً من الفرضية ذاتها- مستوى العنف الفلسطيني - الإسرائيلي منخفضاً ومستوى التعاون بين الطرفين عالياً، إضافة إلى أن الانفصال لن يُشكل صدمة كبيرة لإسرائيل. لقد إخترنا هذا السيناريو لأنه يطرح بحدّة ووضوح الأسئلة المتعلقة باليوم التالي للانفصال.

أما في سيناريو فشل خطة الانفصال، والذي يفترض أن تطبيقها سيتم تحت نيران فلسطينية وسيؤدي فقط إلى تصعيد المواجهة العنيفة، فيمكن القول بدرجة يقين عالية إن هناك فقط نتيجة واحدة ممكنة: سيستنتج الجمهور الإسرائيلي أنه لا جدوى في محاولات تهدئة المواجهة مع الفلسطينيين، ولذلك يتعين على إسرائيل أن لا تقوم بأية خطوة أخرى باتجاههم، فلا مناص من استمرار المواجهة العنيفة.

في المقابل فإن السيناريو الذي يفترض نجاح الانفصال سيخلق مستوى عالياً من التوقعات لدى الجانبين. هذا المستوى العالي من التوقعات سبق أن انعكس في استطلاعات للرأي أجريت لدى الجانبين منذ رحيل (الرئيس) ياسر عرفات. فالجمهور الإسرائيلي يتوقع أن يُسفر "التنازل" عن قطاع غزة عن فوائد، كتحول وقف الإنتفاضة العنيفة إلى ظاهرة دائمة، وأن تُستأنف العملية السياسية بما يؤدي إلى تقريب إسرائيل من تسوية النزاع مع الفلسطينيين. في المقابل يتوقع الجمهور الفلسطيني تحسناً ملموساً في معيشته اليومية وبشكل ينعكس أساساً في إزالة القيود عن حرية حركة وتنقل الفلسطينيين ووقف العنف واستعادة القانون والنظام وتحسن وضعهم الاقتصادي، وتجدّد فرصة تجسيد تطلعاتهم الوطنية الأساسية في إقامة دولة على أساس حدود (حزيران) 1967.

وتُشير تجربة العملية السياسية الإسرائيلية- الفلسطينية، التي انطلقت عقب صدور "إعلان المبادىء" في أيلول 1993، إلى أن حجم الانتكاسة يكون بحجم التوقعات عندما لا تتحقق هذه الأخيرة. والنتيجة المترتبة بشكل عام لا تتمثل في العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل ظهور وتنامي التوقعات، وإنما إلى وضع أخطر بكثير.

لعل أفضل مِثال على هذه الظاهرة هو التطورات التي حدثت في أعقاب انهيار عملية أوسلو، والتي عبّرت عن نفسها في فشل قمة كامب ديفيد سنة 2000. وفيما لو لم تنشأ توقعات عالية إلى هذا الحد لكان من المشكوك فيه أن تكون الأزمة، التي نشأت في أعقاب فشل كامب ديفيد، حادّة بهذا الشكل. وعليه ينبثق السؤال: أليس من المتوقع ظهور أزمة مشابهة في العلاقات الإسرائيلية- الفلسطينية خلال السنة التالية للانفصال؟

التطورات المتوقعة في الجانب الإسرائيلي

مع انتهاء عملية الانفصال ذاتها ستقف الحكومة أمام السؤال التالي: كيف يمكن المُضي قُدماً؟

في ضوء تركيبة الحكومة فإن من المتوقع أن تُسمع فيها عدة مواقف متناقضة للغاية. ففي الطرف أو القطب الأول سيصطف أولئك الذين عارضوا منذ البداية خطة الانفصال إضافة إلى "المرغمين" الذين عارضوا الانفصال في قرارة أنفسهم لكنهم أُضطروا إلى تأييده جراء الظروف السياسية التي أحاطت بالخطة. وسيتطلع هؤلاء إلى الاكتفاء بالانفصال ذاته بدعوى أن إسرائيل مّرت بصدمة نفسية وأنها قامت بما عليها ولذلك يجب أن تتطلع إلى البقاء في الوضع الجديد، حتى وإن كان في جوهره وضعاً انتقالياً، لفترة طويلة جداً يُختبرُ الفلسطينيون خلالها، بالإضافة إلى تعزيز وتدعيم المستوطنات في المناطق الباقية تحت سيطرة إسرائيل. وفي حال الحفاظ على الهدوء والاستقرار خلال هذه الفترة الانتقالية الطويلة فسيكون بالإمكان عندئذٍ التفكير مستقبلاً بإحراز تقدم آخر مع الفلسطينيين.

في القطب الآخر سيصطف قسم كبير من زعماء الشريك الائتلافي لشارون، أي حزب "العمل". وسيطالب هؤلاء باستئناف عملية سياسية كاملة مع الفلسطينيين على أساس "خريطة الطريق"، وهذا يشمل إجراء مفاوضات بين الطرفين. وقد يؤيد البعض منهم القفز عن المرحلة الثانية من خريطة الطريق، والتي من المفروض أن تقوم في إطارها دولة فلسطينية في حدود مؤقتة. وسيقول هؤلاء إن هذه المرحلية ليست ضرورية وإن من شأنها فقط مساعدة الذين ينشدون إحباط العملية السياسية.

في الوسط سيصطف الذين يعتقدون أن خطة الانفصال الحالية غير كافية لأنها تُعالج فقط مشكلة قطاع غزة، وبحسب فهم هؤلاء، فإنه يتعين على إسرائيل أن تسعى لانفصال كامل أكثر في الضفة الغربية أيضاً، والذي يعني إخلاء مستوطنات أخرى والتموضع (الانسحاب) على خط حدودي يُحسِّن الوضع الديمغرافي لإسرائيل ويكون خطاً دفاعياً مريحاً يُحافظ على أغلبية المستوطنات.

من المحتمل أن تظهر خلافات داخل هذا الفريق بين الذين سيفضلون القيام بذلك بشكل أُحادي الجانب، مثل أيهود أُولمرت (ليكود) وحاييم رامون (العمل)، وبين الذين سيرغبون باستخدام خريطة الطريق كآلية تُتيح الوصول إلى هذا الخط عِبر المرحلة الثانية للدولة الفلسطينية في حدودها المؤقتة.

من الصعب اليوم تقدير أو معرفة ما هو موقف شارون ذاته. من الواضح أنه (شارون) ليس في القطب المؤيد لإجراء مفاوضات حول الحل الدائم، ولذا يمكن الافتراض أنه يقف (في الوسط) بين الساعين إلى جمود كامل بعد الانفصال وبين المستعدين لانفصال إضافي. ويهيىء شارون الأرضية للحؤول دون أية زحزحة أخرى بعد الانفصال بتأكيده منذ الآن أن التقدم في تطبيق خريطة الطريق ليس أوتوماتيكياً وإنما هو منوط بتنفيذ الفلسطينيين لكامل التزاماتهم في المرحلة الأولى من خريطة الطريق، ما يعني وفق التفسير الإسرائيلي "التفكيك الكامل للبنى التحتية للإرهاب"، وفي مستطاع الجانب الإسرائيلي الادعاء دائماً بأن الفلسطينيين لم يفوا بهذا الالتزام.

على أية حال يمكن الافتراض أنه سيكون من الصعب على الحكومة بتركيبتها الحالية التوصل إلى توافق حول مسار الاستمرار في العملية ولذلك فإن تفكك الإئتلاف والذهاب إلى إنتخابات عامة جديدة بعد الانفصال (عن قطاع غزة وشمال الضفة الغربية) هو سيناريو محتمل ومعقول.

التطورات المتوقعة في الجانب الفلسطيني

يُستدل من تصريحات رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) منذ انتخابه، أنه يُعارض استمرار المرحلية في العملية السلمية بين الجانبين. وبحسب وجهة نظره، يجب التخلي عن إمكانية إقامة دولة فلسطينية في حدود مؤقتة بموجب خريطة الطريق (وفي الواقع فإن خيار إقامة دولة فلسطينية كهذه مطروح في صيغة وثيقة خريطة الطريق كإمكانية) والشروع فوراً بمفاوضات حول الاتفاق الدائم.

ويُشار في هذا السياق إلى أن "أبو مازن" هو الممثل الأبرز للمجموعة التي شكلت الفريق الفلسطيني لمبادرة جنيف، وإن لم يُشارك شخصياً في المبادرة، وبالتالي يمكن الافتراض أنه يعتقد أن بالإمكان التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل على أساس الخطوط العامة التي رسمتها تلك المبادرة.

ليس من المستبعد أن تنشأ ظروف يكون فيها "أبو مازن" مستعداً للتفكير بتأييد مرحلة انتقالية لدولة فلسطينية في حدود مؤقتة، لكنه سيشترط في هذه الحالة ربط الأمر بجدول زمني محدد وقصير للانتقال إلى المرحلة الثالثة وهي اتفاق الحل الدائم. وإذا ما تم التوصل إلى تفاهمات مسبقة بين الطرفين حول مبادىء الاتفاقية الدائمة فسيكون من السهل أكثر على أبي مازن الموافقة على المرحلة الانتقالية.

في تموز 2005 من المفترض أن تجري انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، وستشارك حركة "حماس" للمرة الأولى في هذه الانتخابات على الرغم من الموقف المبدئي السابق للحركة والقاضي بعدم المشاركة في الانتخابات للمؤسسات التي أقيمت في نطاق اتفاقيات أوسلو.

نتائج هذه الانتخابات (انتخابات المجلس التشريعي المؤجلة بمرسوم أصدره مؤخراً الرئيس الفلسطيني محمود عباس) ستؤثر كثيراً على استمرار العملية السياسية مع إسرائيل.

إن مُشاركة "حماس" في الانتخابات تُقَّرِب هذه الحركة من تبني حل الدولتين لشعبين على أساس المفاوضات بين الطرفين. ولكن إذا حققت "حماس" إنجازات ملموسة في الانتخابات فسوف يكون في استطاعتها الحد من قدرة "أبي مازن" على المناورة وإملاء مواقف متصلبة عليه في أية مفاوضات مع إسرائيل. وتُدرك حركة "حماس" أن غالبية الجمهور الفلسطيني تؤيد الطريق السياسي الذي يتبعه "أبو مازن" وترغب في وقف العنف. لهذا السبب وافقت "حماس" على الهدنة (التهدئة) والتي تدفع الحركة نحو الانخراط في الساحة السياسية الفلسطينية.

من الصعب التكهن بالنتائج التي ستتمخض عنها الانتخابات للمجلس التشريعي، والتي قررت "حماس" المشاركة فيها لاعتقادها أنها ستحقق فيها إنجازات في ضوء النجاح الذي حققته الحركة في الانتخابات المحلية (البلدية) في قطاع غزة والضفة الغربية. والسؤال هو: هل يمكن الاستنتاج من نجاح "حماس" في الانتخابات المحلية فيما يتعلق بفرص الحركة في الانتخابات للمجلس التشريعي؟ تصويت الجمهور الفلسطيني في الانتخابات المحلية كان في جوهره تصويتاً احتجاجياً تجاه مرشحي التيار المركزي (حركة "فتح") الذين اعتبروا كـ"فاسدين". إذا ما امتدت أنماط التصويت الاحتجاجي هذه إلى انتخابات المجلس التشريعي فمن المتوقع عندئذٍ أن تنشأ في هذه الإنتخابات أيضاً مشكلة مشابهة.

حتى لو أمكن الافتراض بأن نوايا "أبو مازن" حسنة فيما يتعلق بجدية رغبته في حل النزاع مع إسرائيل بطرق سلمية ودون عنف، فإن هناك شكاً كبيراً إزاء قدرته على تجسيد نواياه. ففي فترة الإنتفاضة شهدت السلطة الفلسطينية عملية انهيار أضرّت بشكل أساسي بنجاعة أجهزتها الأمنية.

في المقابل، وفي الوقت ذاته، مرَّ التيار السياسي المركزي المستند إلى حركة "فتح" بعملية مشابهة. ومن هنا فإن قدرة أبي مازن على تطبيق سياسته منوطة بدرجة كبيرة بقدرته على ضخ حياة جديدة في التيار السياسي المركزي وإعادة بناء السلطة الفلسطينية وبالأخص أجهزتها الأمنية. وفي هذه الأثناء فإن وتيرة عمل "أبو مازن" تؤدي إلى إبطاء وتيرة تطبيق الإصلاحات الضرورية في "فتح" والسلطة الفلسطينية. فهو على ما يبدو يخشى المواجهة ويُفضِّل التقدم بطريق الحوار وخلق إجماع. لعل هذا الطريق له أفضليات كثيرة على المدى البعيد، لكنه قد ينقلب، في ضوء الجدول الزمني الضاغط للسنة القريبة، ليعمل في غير صالحه، إذ أنه سيحول دون قدرته على إجراء الإصلاحات الضرورية في "فتح" قبل انتخابات المجلس التشريعي، وسيُعيق أيضاً إجراء الإصلاحات المطلوبة في أجهزة الأمن الفلسطينية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى عدم استقرار أمني لفترة طويلة.

هناك أهمية بالغة للانطباعات والمشاعر التي ستتولد لدى الشارع الفلسطيني. فالفلسطينيون منشغلون بدرجة كبيرة في المسائل المتعلقة بحياتهم اليومية، كحرية الحركة والتنقل، والوضع الاقتصادي ومصير آلاف المعتقلين في السجون الإسرائيلية.

حالياً يسود (لدى الشارع الفلسطيني) شعور بعدم الرضى، وهو شعور نابع من عدم حصول أية تغييرات أو لأنها تتم بوتيرة بطيئة جداً... هذا الشعور يمكن أن يتفاقم خلال أشهر تنفيذ خطة الانفصال.

الساحة الدولية

الأطراف الفاعلة في الساحة الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وافقت على تأييد خطة الانفصال بشرط أن تكون مرحلة في عملية متكاملة وليس أمراً قائماً في حد ذاته. هذه الأطراف سترغب، بعد تنفيذ الانفصال، في رؤية استئناف للمفاوضات بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، وفي رؤية تقدم بموجب المسار الذي رسمته خريطة الطريق. من الواضح أن الإتحاد الأوروبي سيتمسك، بعد تنفيذ الانفصال في قطاع غزة، بهذا المطلب، لكن الموقف الأوروبي سيكون له تأثير محدود جداً على مواقف الطرفين، ذلك لأن اللاعب الرئيسي في الساحة الدولية لا يزال الولايات المتحدة، مع أن الاتحاد الأوروبي له أيضاً دور هام، إذ باستطاعته التأثير على الموقف الأميركي ومساعدة الطرفين في خلق الظروف التي تتيح استمرار العملية.

في فترة الولاية الأولى للرئيس (جورج) بوش امتنعت الولايات المتحدة بشكل عام عن الضغط على إسرائيل بغية دفعها نحو القيام بخطوات سياسية عارضتها الحكومة الإسرائيلية. من المحتمل، في فترة الولاية الثانية (الحالية)، أن تتصرف إدارة الرئيس بوش بطريقة مختلفة وذلك لعدة أسباب:

* تأثير التغيير في الجانب الفلسطيني: تُشكل ضرورة الإصلاح في الشرق الأوسط، وفي صلبها "الدمقرطة"، قضية مركزية على أجندة الرئيس بوش. ومن وجهة نظر الإدارة الأميركية فإن الانتخابات الحرة التي جرت في مناطق السلطة الفلسطينية، بعد رحيل عرفات، وانتخاب "أبو مازن"، المرشح المعتدل والمؤيد للإصلاحات الديمقراطية، تبرهن على صحة ونفاذ سياسة الولايات المتحدة وتقدم مثالاً إيجابياً لباقي العالم العربي. لهذا السبب توجد للإدارة الأميركية مصلحة قوية بتأييد ودعم "أبو مازن".

* تُظهر الإدارة (الأميركية) الجديدة رغبة في العمل بقدر المستطاع من أجل تحسين صورتها السلبية في العالم العربي، وذلك بعدما أدركت أوساط الإدارة حجم الضرر الذي تلحقه هذه الصورة بفرص تحقيق الأهداف السياسية للولايات المتحدة في العراق والشرق الأوسط عامة. ومن الواضح لصانعي السياسة في الإدارة الأميركية أن سياستهم تجاه المسألة الإسرائيلية- الفلسطينية تسهم بدرجة كبيرة في صورتهم السلبية في العالم العربي.

* توظف الإدارة الجديدة جهوداً كبيرة في معالجة الشرخ الحاصل بين أوروبا والولايات المتحدة في أعقاب الحرب على العراق. من هنا قد يبدو الموضوع الإسرائيلي- الفلسطيني في نظر الإدارة الأميركية مجالاً ممكناً لعمل أو تحرك أميركي- أوروبي مشترك. هذا التفكير قد يدفع إدارة بوش للتحرك باتجاه السياسة الأوروبية.

* ثمة ميل لدى الرئيس بوش في فترة ولايته الثانية والأخيرة نحو تبني مشاريع طموحة رغبة منه في التأثير على صورته حسبما سيتم وصفها في صفحات التاريخ.

* قد تدفع الظروف الجديدة (وفاة عرفات والتغييرات في السلطة الفلسطينية وخطة شارون للانفصال) إدارة الرئيس بوش إلى إعادة النظر في موقفها (خلال الولاية الأولى) النائي عن التدخل العميق في النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، والتقدير هو أن فرص نجاح التدخل الأميركي ازدادت بدرجة ملحوظة، ولذلك ثمة منطقية سياسية في توظيف الجهود والموارد اللازمة لمثل هذا التدخل، لا سيما وأن الإعتبار الانتخابي لن يكون في هذه الحالة (فترة الولاية الثانية للرئيس بوش) ماثلاً كعامل تأثير على القرارات.

من الجهة الأخرى، فإن التأييد والتعاطف الأساسي الذي يكنه الرئيس بوش وأركان إدارته الحالية تجاه إسرائيل وحكومتها الحالية، سيكون له فعله وتأثيره أيضاً، إضافة إلى الإدراك بأنه وفي ضوء الوضع السياسي القائم لدى الجانبين، الإسرائيلي والفلسطيني، سيكون من الصعب جداً تحقيق تقدم إضافي بعد تنفيذ خطة الانفصال، خاصة وأن نجاح الجهود في تحقيق مثل هذا التقدم، ليس مضموناً على الإطلاق.

وتبذل إدارة بوش كل ما في وسعها بغية عدم عرقلة تنفيذ خطة الانفصال، ولذلك فهي تتفادى أي إحتكاك مع الحكومة الإسرائيلية في هذه الفترة، كما أنها تتغاضى عن تلكؤ إسرائيل في تنفيذ تعهداتها المتعلقة بتجميد بناء المستوطنات وإخلاء المواقع الاستيطانية العشوائية.

استناداً لكل هذه الاعتبارات فإن السيناريو المرجّح هو أن تتطلع الولايات المتحدة (بعد تنفيذ الانفصال) وبالتعاون مع أوروبا، إلى دفع عملية إسرائيلية- فلسطينية ترتكز، على ما يبدو، إلى خريطة الطريق التي وافقت عليها الأطراف كافة بالإجمال.

الأزمة المتوقعة

يتضح من تحليل مواقف مختلف اللاعبين وتحليل التطورات المتوقعة أن السيناريو الأكثر احتمالية ومنطقية، بعد تنفيذ الانفصال، هو سيناريو الأزمة، والذي سيطالب فيه الفلسطينيون باستئناف المفاوضات حول التسوية الدائمة، فيما سيطالب الجانب الإسرائيلي بالتنفيذ الكامل للمرحلة الأولى من خريطة الطريق، بمعنى تصفية البنية التحتية للإرهاب، وسيرهن بذلك موافقته على إجراء مفاوضات حول المرحلة الثانية من خريطة الطريق (دولة فلسطينية في حدود مؤقتة)، أما الولايات المتحدة وأوروبا فسوف تضغطان على الطرفين للشروع في مفاوضات على أساس "خريطة الطريق". وفيما يمكن الافتراض أن الاتحاد الأوروبي سينظر بإيجاب إلى رغبة الفلسطينيين في القفز عن المرحلة الثانية من "خريطة الطريق"، فإن الولايات المتحدة يمكن أن تبدي تفهماً لرغبة إسرائيل بالمرور عبر مرحلة إنتقالية أخرى.

ليس من الواضح كيف سيكون تأثير تفكك الإئتلاف في إسرائيل والتوجه إلى إنتخابات مبكرة على مثل هذه الأزمة. القيادة الفلسطينية الملمة بأوضاع الساحة السياسية الإسرائيلية يمكن أن تتفهم بأن إسرائيل ملزمة باجتياز هذه العملية وأنه لا خيار لها سوى انتظار بلوغ العملية السياسية الإسرائيلية الداخلية نهايتها.

ولكن على مستوى الجمهور الفلسطيني الواسع يمكن لمثل هذا التطور أن يوسع ويعمق الشعور بالأزمة وبعدم وجود مَخرَج. وعليه هناك خطر يتطور بتطور عملية يفقد فيها "أبو مازن" شرعيته، ومن المحتمل أن يُعلِن إثر ذلك عن إستقالته كما فعل دون تردد في فترة ولايته الأولى كرئيس للوزراء، وقد تحل مكانه عناصر أكثر تشدداً، الأمر الذي سيؤدي إلى تعزيز آخر لقوة حركة "حماس" التي يمكن أن تتمتع في هذه المرحلة بمكانة قوة سياسية كنتيجة لإنجازاتها المحتملة في الانتخابات للمجلس التشريعي.

في ظِل مثل هذا الوضع ستزداد بدرجة ملحوظة فرص اندلاع موجة عُنف تؤدي إلى تجدّد الانتفاضة بكامل قوتها ووتيرتها. من الصعب التنبؤ اليوم بالسبب المباشر الذي سيؤدي إلى تجدّد العنف ويعطي أيضاً تسمية للانتفاضة الجديدة، ولكن السبب المحدد ليس مهماً في حد ذاته. وليس المقصود هنا أن القيادة الفلسطينية ستتخذ قراراً إستراتيجياً بتجديد العُنف، بل إن السيرورات التي ستحدث في الجانب الفلسطيني ستؤدي إلى انهيار الزعامة الفلسطينية وفقدان السيطرة على المنطقة وصعود المؤيدين للعنف.

توصيات لإسرائيل

بين مؤيدي الفصل الأحادي الجانب في إسرائيل سيكون هناك من سيدعي بأنه لم تتوفر منذ البداية فرصة لمحاولة الوصول إلى مفاوضات جادة مع الفلسطينيين وأن الأزمة كانت حتمية. وبحسب وجهة النظر هذه، فقد كان ذلك هو السبب الذي وَلَّد خطة الانفصال، ولذا لا مفر سوى المضي في خطوات فصل إضافية من جانب واحد في الضفة الغربية جنباً إلى جنب مع التصدي للعنف الفلسطيني، وذلك نظراً لأن المصلحة الإسرائيلية الأساسية تتمثل بالانفصال عن الفلسطينيين بغية الحفاظ على طابع إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية.

هذا التوجه هو توجه جَبريٌّ (قدري)، يتخلى مسبقاً عن فرصة التوصل إلى فصل باتفاق مع الفلسطينيين، ويتغاضى عن التأثير الكبير لخطة الانفصال على الرأي العام في إسرائيل. إذ يمكن الافتراض أنه وإذا ما أفضت خطة الانفصال إلى اندلاع أزمة عنيفة أخرى، فإن خيبة الأمل في صفوف الجمهور الإسرائيلي ستؤدي إلى معارضة أية خطوة أخرى تفسر كنوع من التنازل للفلسطينيين، وبضمن ذلك انسحابات إضافية من جانب واحد.

ثمة مصلحة لإسرائيل في إيجاد آلية (ميكانيزم) تمكن من تجاوز فترة الأزمة، وهذه الآلية يجب أن تستند إلى حوار ومحادثات مع الفلسطينيين ومنح دور مهم للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

يتعين على إسرائيل استنفاد الفرصة للتوصل إلى تفاهم مع الفلسطينيين حول عملية سياسية تتفادى الأزمة المتوقعة. ولهذا الغرض من الأهمية بمكان أن تجري القيادة الإسرائيلية حواراً إستراتيجياً مع القيادة الفلسطينية، وفي صلبه المصلحة المشتركة في منع هذه الأزمة.

ويجب أن يكون هدف هذا الحوار الإيضاح المتبادل للقيود والمعيقات لدى كل طرف ومساحة المناورة المتاحة له وذلك بقصد بلورة عملية متداخلة أو مدمجة يمكن أن تتضمن خطوات أحادية الجانب منسقة (بين الطرفين) إلى جانب مراحل تفاوضية. وعلى سبيل المثال يمكن لهذه العملية أن تشمل مرحلة أخرى من الانفصال الأحادي الجانب المنسق في الضفة الغربية بما يتيح إقامة دولة فلسطينية في حدود مؤقتة، إلى جانب اتفاق الطرفين على إجراء محادثات حول مبادىء التسوية الدائمة، على أن تبدأ هذه المحادثات في موعد لاحق يتم الاتفاق عليه مسبقاً.

من الممكن أن يكون مريحاً للطرفين الاستناد إلى مكونات من خريطة الطريق، لكنه يتعين عليهما في الواقع بناء "خريطة طريق" جديدة وواقعية أكثر. وبهذه الطريقة يتجنب الطرفان تكرار خطأ قمة كامب ديفيد التي ذهبا إليها دون مناقشةٍ لإستراتيجية مشتركة تُتيح لهما التغلب على أزمة تنشأ عقب فشل محتمل للقمة. وخلافاً للوضع الذي ساد قبل قمة كامب ديفيد، يبدو اليوم أن مثل هذا الحوار بات ممكناً خاصة وأن هناك انفتاحاً تجاه الفكرة في الجانب الفلسطيني.

المشكلة الرئيسية تكمن في المخاوف لدى الجانب الإسرائيلي من إمكانية أن يؤدي مثل هذا الحوار إلى تصعيد المعارضة لخطة الانفصال. لكن هذا التخوف لم يعد له مبرر في أعقاب المصادقة على الميزانية العامة وسقوط الاقتراح الداعي إلى تنظيم استفتاء عام. ووفقاً لجميع استطلاعات الرأي العام فإن غالبية الجمهور في إسرائيل تؤيد الحوار والمفاوضات مع الفلسطينيين، وهذا التأييد من شأنه أن يتسع فقط إذا ما مرت خطة الانفصال بنجاح.

ثمة استنتاج آخر يتعلق بالأهمية البالغة للخطوات الملموسة والخطوات البانية للثقة التي تكفل تحسين أوضاع الجمهور الفلسطيني. ومثل هذا التحسن، الذي يتطلب بالضرورة مساعدات عاجلة ومكثفة من جانب المجتمع الدولي، يمكن أن يُخفف بدرجة ملموسة من مشاعر الإحباط والخيبة (لدى الجمهور الفلسطيني) النابعة من عدم وجود عملية سياسية وفقدان الأمل بتحقيق إنجازات وطنية في المستقبل المنظور، وأن يقلص إحتمالات اندلاع موجة عنف عفوية.

إن تحقيق هذا الهدف يستدعي تحمل مخاطر أعلى مما تبدي إسرائيل استعداداً لتحمله، وخاصة فيما يتعلق بحرية الحركة والتنقل وإطلاق سراح معتقلين فلسطينيين، طالما كانت "الهدنة" أو "التهدئة" سارية المفعول.

إن للولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي دوراً هاماً في مساعدة الطرفين على إنجاح الحوار بينهما عن طريق ممارسة الضغط عليهما إذا لزم الأمر، وعن طريق تقديم ضمانات للطرفين إذا ما دعت الحاجة.

وإذا ما نجح الطرفان، بمساعدة أميركية وأوروبية، في بناء الآلية التي يمكن أن تؤجل في البداية، بل وتمنع فيما بعد الأزمة المتوقعة في العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين، فسوف تزداد الفرصة في أن يُسجَّل تطبيق خطة الانفصال ورحيل عرفات عن الساحة كنقطة تحول إيجابية في العملية السياسية الإسرائيلية- الفلسطينية، وليس مجرد حالة عابرة ذات تأثير محدود زمنياً.

المصطلحات المستخدمة:

مركز, رئيس الحكومة, التيار المركزي, دورا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات