المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في السادس عشر من شهر شباط الماضي صادقت الكنيست بأغلبية 59 صوتاً مقابل أربعين صوتاً معارضاً على قرار الحكومة بإخلاء جميع المستوطنات اليهودية في قطاع غزة، وأربع مستوطنات أخرى في شمال "السامرة" (الضفة الغربية).

وبعد مرور أربعة أيام قررت الحكومة بأغلبية سبعة عشر صوتاً مقابل خمسة أصوات وضع الخطة المصادق عليها في الكنيست موضع التنفيذ. إن لم تحدث تطورات غير متوقعة، فسوف نشهد في صيف العام الحالي إخلاء قرابة 8000 مستوطن يهودي من بيوتهم وإعادة توطينهم في أماكن بديلة في إسرائيل.

تضع خطة الانفصال الدولة على حافة أزمة داخلية هي الأخطر في تاريخها. فالدولة اليهودية، وللمرة الأولى منذ قيامها، ستتخلى طوعاً، بغطاء ودعم أغلبية كبيرة من ممثليها المنتخبين، عن حقها في جزء من أرض إسرائيل التاريخية، وهي (الدولة) ستفعل ذلك بشكل لا نظير لفظاظته وعسفه- عن طريق الاقتلاع الجسدي ليهود من بيوتهم. على مدى التاريخ اليهودي دوت مراراً وبقوة أصداء كارثة نهاية جاليات وطوائف يهودية، وهذا من وجهة نظر صهيونية النقيض المأساوي لمبدأ الاستيطان. غير أن الفاجعة المترتبة على إخلاء مستوطنات لا تتلخص بهذه الرمزية، ولا حتى بالمعاناة الشخصية للمستوطنين الذين يتعرضون للإخلاء، بل لأنه وعندما يقوم جزء من الشعب باتهام جزء آخر بالتواطؤ والإسهام في "الخراب"، فإن النتيجة المتوقعة عندئذٍ هي شرخ عميق في المجتمع الإسرائيلي وإلى درجة وهن الإحساس بشراكة المصير ليهود إسرائيل.

بين المؤيدين للانفصال كخطوة إيجابية من شأنها أن تؤدي إلى تصحيح خطأ تاريخي، وبين المعارضين الذين يرون في الخطة خيانة لمبادىء اساسية، لا بد من الإقرار بهذه الخطوة (الانفصال) كلحظة حاسمة في تاريخ المشروع الصهيوني برمته.

من ناحية الصهيونية الدينية يُشكّل الانفصال تحدّياً صعباً بصفة خاصة. ورغم أن أتباع حركة الصهيونية الدينية لا يؤيدون بأكملهم حركة الاستيطان، إلاّ أنه من الصعب رؤية الحركتين بمعزل عن بعضهما. وكان التيار الأبرز والأكثر انتشاراً في صفوف الصهيونية الدينية قد رأى في الارتباط بأرض الآباء ("أرض إسرائيل") واحداً من ركائز العقيدة اليهودية، وهو الذي تصدّر في الجيل الأخير عملية استيطان أرض إسرائيل التوراتية. ولم يقم هذا التيار فقط بإرساء القاعدة المؤسسية والتربوية الواسعة للصهيونية الدينية، بل وأمدها أيضاً بالزعامة الروحية، وسط بث روح التصميم والعزم في صفوف جيل كامل من الشبان.

لهذا السبب يستصعب الكثيرون من أبناء الصهيونية الدينية تقبّل مجرد إمكانية رؤية فكرة الانفصال تشق طريقها إلى حيِّز التنفيذ. فقرارات الكنيست والحكومة المتعلقة بالانسحاب تبدو، من وجهة نظر عشرات الآلاف من أبناء الصهيونية الدينية الذين ترّبوا على الإيمان بقوة بمبدأ استيطان البلاد ورؤيته كمدماك مركزي في المشروع الإلهي، إنعطافة حادّة غير مستوعبة في مصير الأُمة. في نظرهم لا يدور الحديث فقط عن تهديد لمستقبل التجمعات التي كرّسوا حياتهم لبنائها، وإنما يُشكل ذلك أيضاً رفضاً وإسقاطاً تاماً للقيم التي ترتكز إليها وجهة نظرهم.

لقد كتب الكثير عن إمكانية أن يأتي الإنسحاب مصحوباً بأعمال عنف، لكن الإمكانية التي تُثير قلقاً بدرجة لا تقل عن ذلك هي إمكانية أن يؤدي الانفصال إلى سلخ واغتراب عناصر هامة في الصهيونية الدينية عن المجتمع الإسرائيلي وعن الأيديولوجية الصهيونية.

يسود في أوساط الصهيونية الدينية اعتقاد مفاده أن الصهيونية العلمانية أنهت، أو استنفدت، رسالتها القومية، بل وهناك أيضاً من يطعن في القرار التاريخي للصهيونية الدينية بالتعاون مع الصهيونية العلمانية، ويتساءل هؤلاء حول ما إذا كان المتدينون الحريديم على حق عندما رفضوا وضع قيادة الشعب اليهودي في أيدي أُناس كفرة ملحدين.

هذه الأصوات تُعزز التوجهات الانفصالية التي نَمَتْ خلال العقود الأخيرة في صفوف قِسم معين من الصهيونية الدينية.

حتى الآن تمحور السجال العام في إسرائيل حول سُبُل الحد من درجة الاحتكاك والتشاحن في موضوع الانسحاب (الانفصال) المزمع، كالمطالبة مثلاً بأن تعمل الحكومة على تعزيز شرعية الخطة عن طريق تنظيم انتخابات عامة جديدة أو استفتاء عام، أو المطلب بأن ينبذ المستوطنون ومن يؤيدهم كل مظاهر الرفض لأوامر عسكرية.

لكنه، وباستثناء هذه الدعوات للاعتدال، لم يُكرّس سوى القليل من التفكير تجاه مسألة قُدرة الصهيونية الدينية على إيجاد مكانتها مجدداً في المجتمع الإسرائيلي إذا ما جرى تنفيذ إخلاء مستوطنات "غوش قطيف" (في قطاع غزة). من المستحسن إذن تفحص هذه المسألة باهتمام أكبر، والتفكير بخطوات تُساعد المجتمع الإسرائيلي في اجتياز هذه التجربة القاسية المرتقبة دون المساس بشعور الشراكة الماثل في أساس هذه التجربة.

بداية، يتعين على مؤيدي خطة الانسحاب الإقرار بأن هدم وتدمير تجمعات يهودية يُشكل مأساة قومية وليس مذهبية محضة، لا سيما وأن المستوطنات في قطاع غزة لم تفرض على الدولة رغماً عن إرادتها، وإنما أُقيمت كما هو معلوم بدعم فاعل من جانب حكومات إسرائيل المتعاقبة وأولها حكومة "المعراخ" بزعامة غولدا مئير أوائل السبعينيات. وعلى مر السنوات أشاد "العماليون" و"الليكوديون" على حد سواء بمستوطني قطاع غزة كمثال ونموذج صهيوني يُحتذى، وبالتالي فإن من يصورهم اليوم فقط كمبعوثين لمعسكر سياسي معين، يُشوه التاريخ ويتنصّل من المسؤولية تجاه المشروع الجماعي للاستيطان.

غير أن جُل المسؤولية تجاه الحفاظ على وحدة وتماسك المجتمع الإسرائيلي، في ضوء الصدمة المتوقعة بعد الانسحاب من قطاع غزة، يقع على عاتق الصهيونية الدينية ذاتها. عليها الإقرار بأن مؤيدي الانسحاب ليسوا أقل إخلاصاً وحِرصاً على وحدة الدولة وسلامتها.

إن الحد من التهديد الديمغرافي للأغلبية اليهودية، ودرء خطر حملة دولية لعزل إسرائيل، وتعيين حدود دفاعية متفق عليها، كلها أهداف تستوجب نقاشاً جاداً، ولا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها بصورة اعتباطية. من الممكن عدم الإتفاق مع رأي مؤيدي الانسحاب، لكنه لا يجوز دمغهم كـ"ما بعد صهيونيين" فقدوا إرادة النضال من أجل استمرار بقاء إسرائيل.

يتعين على الصهيونيين المتدينين أن يُقاوموا إذن إغراء الانعزالية والتمايز النقي عن التيار المركزي في المجتمع الإسرائيلي. إن النموذج الذي يقدمه المجتمع الحريدي الانعزالي غير قمين بالمحاكاة: ففي المئة سنة الأخيرة أعفت غالبية أبناء هذا الجمهور (الحريدي) نفسها من المشاركة في النضالات السياسية الهامة التي خاضها الشعب اليهودي، إبتداءً من بعث وإحياء السيادة القومية (إقامة إسرائيل) وانتهاءً بتحرير يهود الاتحاد السوفياتي.

خليق بأبناء الصهيونية الدينية أن يتذكروا الحنكة والبصيرة التاريخية التي تحلى بها معلمهم الروحي الحاخام أبراهام يتسحاق هكوهين كوك، والذي رأى في خلاص ورفاهية الشعب اليهودي قيمة ذات أهمية دينية حاسمة. هذا الإقرار قاد الحاخام كوك نحو إظهار حكمة هامة أخرى، وهي أن الصهيونية العلمانية، التي عملت دون كلل من أجل إقامة بيت قومي لأبناء الشعب اليهودي، ليست عاصية أو خارجة كلياً عن اليهودية بل هي شريك فاعل في تجسيد قيم وتطلعات اليهودية.

تتوفر للصهيونية الدينية الموارد اللازمة لإعادة تأهيل نفسها واحتلال مكانها في قيادة دولة إسرائيل وقيادة الشعب اليهودي قاطبة. وعلى الرغم من أنها لم تنجح حتى الآن في إقناع أغلبية الشعب بتبني فكرة وحدة أرض إسرائيل كقيمة من القيم الأساسية للدولة، إلاّ أن الحركة (الصهيونية- الدينية) نجحت مع ذلك في خلق جمهور واسع ومخلص يمكن للمجتمع الإسرائيلي أن يتعلم منه الكثير، جمهور يُمثل قيماً صهيونية كلاسيكية، ومن ضمنها: أهمية الرابطة اليهودية المتجددة بأرض إسرائيل، بغض النظر عن حدودها الدائمة، والدفاع عن الوطن، عن الدولة اليهودية، عن طريق الخدمة العسكرية، والإيمان بالمثال الصهيوني دون الانجرار وراء ما يُسمى بالصهيونية العصرية، وأهمية بِناء مجتمعات محلية قوية ترتكز إلى العائلة، ومركزية "أورشليم" (القدس) في التاريخ والهوية اليهوديين.

يُضاف إلى ذلك أن الصهيونية الدينية هي التي عملت فقط بصورة منهجية ودائمة من أجل ضمان المكانة المركزية للتقاليد اليهودية في التفكير الصهيوني وفي السياسة الصهيونية. وعلى الرغم مما قيل ضدها في غير مرة بأن أيديولوجيتها- منذ حرب الأيام الستة (1967) على الأقل- تتجوهر فقط في بناء المستوطنات، فإن الصهيونية الدينية ترتكز إلى العديد من محاور الالتزام القومي، فحركة "بني عكيفا" تُعدّ ربما الحركة الأوسع والأكثر ازدهاراً بين حركات الشبيبة الصهيونية؛ كذلك فإن نسبة أبناء الصهيونية الدينية في الوحدات المختارة في الجيش الإسرائيلي وفي سلك الضباط القتالي تزيد مرتين على الأقل عن نسبتهم بين السكان؛ كما أن المدارس الدينية التابعة لتيار الصهيونية الدينية، والتي تتضمن مساراً للخدمة العسكرية، لم تعد مقتصرة على المستوطنات وحسب، بل وأصبحت منتشرة أيضاً في الكثير من بلدات ومدن التطوير في أنحاء البلاد؛ أخيراً فقد وقف الصهيونيون المتدينون في الشتات في طليعة كل مبادرة سياسية يهودية هامة خلال العصر الأخير.

طالما كانت حكومة إسرائيل مستمرة في العمل من أجل جمع شتات وطوائف الشعب اليهودي في دولتها اليهودية، ينبغي تقديرها واحترامها كتجسيد للتطلعات الصهيونية. إن الاستعداد للتسوية والمرونة تجاه حدود الدولة اليهودية لا يُشكل مقياساً منطقياً لهذا الالتزام من جانب الحكومة الإسرائيلية، فالجدل والخلاف داخل الحركة الصهيونية حول مسألة التسوية الإقليمية ليس بالشيء الجديد، بل نشأ منذ مطلع العشرينيات من القرن الماضي. والحكومة ذاتها التي تستعد حالياً لإخلاء يهود من قطاع غزة، اتخذت مؤخراً قراراً بنقل الآلاف من أبناء طائفة الفلاشمورا (الأثيوبيين) إلى إسرائيل.

على الصهيونية الدينية أن تتذكر إذن أن دولة إسرائيل، حتى إذا خرجت خطة الانفصال إلى حيِّز التنفيذ، هي الجهة المركزية التي تعمل بمنهجية، بحكم طبيعتها وماهيتها، من أجل دفع وتحقيق مصالح الشعب اليهودي.

الهدف الذي تسعى إليه الصهيونية، والمتمثل في جمع شتات اليهود وإعادتهم إلى وضعهم الأصلي كشعب موحد ومتكتل، لم يتحقق بعد بشكل كامل. فموجات الهجرة الضخمة التي جرت خلال العقدين الماضيين من دول رابطة الشعوب المستقلة (الإتحاد السوفياتي سابقاً) وأثيوبيا لم تندمج بعد كُلياً في المجتمع الإسرائيلي والشعب اليهودي. في الوقت ذاته، تزداد في أنحاء العالم الأصوات المشككة في شرعية القومية اليهودية. لذلك، يتعين على الجيل (الصهيوني) الحالي النضال من أجل تحقيق ما وعدت به الصهيونية بشأن انبعاث وتجدد الشعب اليهودي وتكريس مكانته بين الشعوب.

إن مواجهة هذه التحديات تتطلب أقصى الجهود من جانب المخلصين بيننا، وبالتأكيد فإن للصهيونية- الدينية دوراً مركزياً في كل ذلك.

(عن مجلة "تخيلت"، نيسان 2005، ترجمة "مدار")

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات