المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

إذا كانت عائلة اسحاق رابين قد غفرت لأريئيل شارون وباتت ترى فيه مكملاً لطريق رئيس الوزراء المقتول فهذا حقها الكامل. ليس هناك أوصياء أكثر إخلاصاً لتراث الشخص من أبناء عائلته. لكني لست جزءاً من هذه العائلة، ولذلك عندما تتم دعوة شارون لإلقاء كلمة في الذكرى العاشرة لجريمة القتل، فإنني أسجل هنا تحفظاتي.

في الأشهر الأخيرة، والآن عشية الرابع من تشرين الثاني، هناك من يدعي تجاهنا بجدية: لماذا هذا الحقد؟ ويشكو كل أنصار ومحبي الخير والمصالحة: لماذا لا تسامحون شارون على أفعاله، بل وتعتذرون له ، لأنه اليوم يقوم بعملكم وكأنكم أتقياء وصديقون؟.

لا نعرف بالضبط وبثقة إلى أين يتجه شارون بعد الانسحاب. الدلائل الأولى تشير إلى أن تصرف شارون وتصرف حكومته يثيران تساؤلات مقلقة، إنهما يثيران الشبهات أن غزة أولاً يبدو أنها ستكون غزة أخيرا.

كل شيء يعود إلى ما كان عليه، كأنه لم يكن هناك انسحاب وكأنه لا توجد خريطة الطريق. يبدو أن نبوءة دوف فايسغلاس، التي تحدث عنها قبل أكثر من سنة في صحيفة "هآرتس"، هي النبوءة الحقيقية لأريئيل شارون: الانسحاب من قطاع غزة من أجل البقاء في الضفة الغربية والتشبث بها من قبل إسرائيل.

فايسغلاس، مستشار رئيس الحكومة وأحد المقربين منه، كشف آنذاك في المقابلة المشهورة أنه بعد الخروج من غزة سيسهل الأمر على إسرائيل لمواصلة احتلال الضفة. ونبوءة الدولة الفلسطينية يمكن حفظها في (الفورمالين). فايسغلاس لم "يخترع" هذا البرنامج، صحيح أن الصوت هو صوت المستشار، لكن الإصبع هي إصبع القائد. فايسغلاس وضع حتى حدود الوقت: سيكون اتفاق بيننا وبين الفلسطينيين عندما يتحول الفلسطينيون إلى فنلنديين (أي مواطنو فنلندا). وإذا كان الفلسطينيون مجبرين على أن يتحولوا إلى فنلنديين عندها فإن الإسرائيليين أنفسهم مثل جيرانهم يجب أن يتحولوا إلى سويديين أو نرويجيين، ويبدو أن أجيالاً كثيرة ستمضي حتى نتحول جميعاً إلى "شقر" البشرة.

لقد عادت الهجمات اليومية إلى مدن الضفة الغربية وعادت التصفيات. وعادت الحواجز إلى الطرق وعاد حظر التجول والطوق الأمني. حتى جيمس وولفزون، ممثل الولايات المتحدة وصديق إسرائيل، يوجه انتقاداً شديداً لإسرائيل بأنها تتصرف وكأنها لم تنسحب من قطاع غزة. ويحذر وولفزون أنه إذا قمنا نحن جميعاً- الفلسطينيون، الإسرائيليون وأصدقاؤنا في مصر والدول المانحة- بتفويت الفرصة للتغيير، فسوف نندم على ذلك في العقد القادم.

وامتنع وولفزون عن توجيه انتقاد إلى رئيسه جورج بوش الذي استقبل الأسبوع قبل الماضي رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في واشنطن، لكنه قال إنه لا يلتزم بعد بإقامة دولة فلسطينية خلال السنوات القادمة، وربما أقيمت خلال فترة الرئيس القادم وربما في فترة الرئيس بعد القادم. أي أن الجدول الزمني لخريطة الطريق قد "مات" ولم تبق من الطريق، خريطة. وهذه بالضبط المشكلة الأساسية للشرق الأوسط والنزاع الإسرائيلي الفلسطيني بشكل خاص: منذ مئة سنة يعيشون هنا بدون توقيت وكأنه كان يتوفر لدينا توقيت كهذا.

وكما قلنا لسنا واثقين إلى أين سيذهب شارون بعد الانسحاب من غزة، رغم أن القلق يتزايد إزاء هذه النقطة. في المقابل يمكن أن نعرف بالتأكيد من أين جاء شارون وماذا يُخلـّف لنا وراءه.

رئيس الحكومة أكثر من أي فرد آخر في البلاد، وضع أسس ثقافة الكذب، التمرّد، الفساد والتحريض. لقد سار شارون دائماً في طريق تضليل المسؤولين عنه من دافيد بن غوريون وحتى بيغن وبواسطتهم ضلـّل الجمهور كله.

قال بن غوريون عن شارون قبل 50 سنة: "لو شـُفي من عيوبه بعدم قول الحقيقة والابتعاد عن النميمة، لكان قائداً عسكرياً مثالياً". وبيغن شكا في حينه أنه يعلم أحياناً بأفعال شارون بعد وقوعها. في حرب لبنان تدحرجت كرة الكذب إلى أن أرغم شارون على الاستقالة بعد صبرا وشاتيلا.

لم يعترف شارون أبداً بأن المؤسسات المنتخبة هي هيئات أعلى منه، وقد كفر بشكل تعسفي بالمبدأ الديمقراطي. وحين لم تعجبه سياسة الحكومة والكنيست، فقد دعا مؤيديه وخاصة رؤساء المستوطنين، إلى تجاهل قرارات وتعليمات اتفق عليها، وتجاوز حواجز الجيش وغزا التلال.

شارون رفع درجة الفساد وحوّلها إلى نوع من الفن. الفساد تواجد هنا دائماً وقضى على مواقع جيدة وكثيرة، وهي لم تهدد بالقضاء على"الموقع الالهي". أيام حكمه لونت الفساد بألوان شخصية وعائلية والجمهور يشاهد وأمامه مثال حي.

والتحريض؟ لم يقم شخص مثل شارون يعرف كيف يحرض. ونحن نتذكر بشكل مثير للتقزّز ظهوره على الشرفة في "ميدان تسيون" في القدس، في ذلك المساء المشؤوم بعد اتفاقيات أوسلو، حين اتهم اليسار"بالتعاون مع العدو لإحضاره حتى إلى تل أبيب". شهران قبل مقتل رابين وعندما زادت التهديدات ضد رئيس الحكومة قام شارون مدعياً وساخراً. إن هذا هو انفصام في الشخصية لقادة أفل نجمهم. لا يجب مقارنتهم بأحد لكننا نعرف جيدا افتراءات ستالين وبواسطتها قام بعملية تطهير كبيرة، قام بالقضاء على القيادة المخضرمة وقيادة الجيش الأحمر. إن فعل خير واحد لا يمكنه إعادة صياغة تاريخ سيء، وإن الانسحاب لا يستطيع أن يخرج من القبور آلاف الضحايا الذين فقدوا حياتهم في معارك لا معنى لها، وشارون هو المثير لهذه المعارك. وعلى الخطايا الثلاث هذه لشارون وعلى الرابعة يجب عدم إعادة انتخابه من الناحية الأخلاقية ويجب أن يكون عبرة أخلاقية.

إذا كان لإسحاق رابين تراث فهو عكس تراث أريئيل شارون. وأنا أخشى فقط أن تراث شارون أكثر مقاومة لكل "التطعيمات" التي في المخازن.

____________________________________

(*) الكاتب عضو كنيست من كتلة "ميرتس- ياحد" ووزير سابق

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس, رئيس الحكومة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات