المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

هشام نفاع

لا يزال من غير الممكن أن نفطم أنفسنا عن القلق. فحكومة شارون قبلت خارطة بوش كما يقبل وكيل الأمس المدلّل قوانين اللعبة الجديدة بتغيّر مصالح السيّد. لكنه يظل ينتهز كل فرصة للعودة الى أيام العزّ حتى بثمن احناء الرأس مؤقتاًً..

في السيارة علت ضحكاتنا. ولكن التفكير يعود ليفرض نفسه في بلاد الجدران والحواجز والبنادق. الجندي على الحاجز قبل قرية الجلمة، قضاء جنين، بدا مستغربًا. فقد ضحك ركاب السيارة منه حين سأل: "أليس من المخاطرة الدخول هناك؟" - يعني منطقة جنين. السائقة (اليهودية) أضافت بشيء من اللسع المتعمّد: "نحن لا نملك سلاحًا مثلك ولهذا لا نخاف". وتابعنا طريقنا للقاء رفاق فلسطينيين مناضلين.
لا شك أن المفارقة واضحة. ففي معادلات الاحتلال والقمع، من يحمل البندقية يحمل الخوف معها، أما العُزّل فلا بنادق على أكتافهم ليسيل منها الخوف الى قلوبهم.

مفارقة القوة

القوي يعيش خوفًا يبدو غامضًا مع أنه حقيقي، ربما لأنه يتيقن في العمق أنه لو كان فعلا على حق فلن يحتاج بندقية. هذه وظيفتها فرض ما ليس به أية قناعة. بكلمات أخرى، مع كل بشاعة وخطورة ودموية البنادق فان أقصى ما يمكن أن تنتجه هو الوهم. هذا هو الفرق بين الحق وبين القوة. من هو الاقوى؟ لا أعرف، ولكني لست رومانسيًا بالمطلق لأقول بالمطلق إن الحق أقوى. كلا، أحيانًا تكون القوة هي الأقوى. لنا عبرة من التاريخ. فليس صحيحًا أنه يمكن الاتكال على الحق وكفى. وربما لهذا السبب نرى القوة تنتج نقيضها، المقاومة مثلا. وهذه الأخيرة يفترض أن تكون قوة مختلفة، قوة من لديه الحق ولكنه لا يزال بحاجة للحفاظ على ممارسة حقه، مما يضطره للقوة اضطرارًا. ممنوع تحويلها الى رمز ولو بشكله الثوري.. ولكن هنا أيضا قد يعيد التاريخ نفس العملية أحيانًا لنرى بعض حالات المقاومة تنتج نقيضها، كأن تنتج عنفًا انتقاميًا غير مدروس لا يصيب الخصم المسلّح بل يروح يخبط خبط عشواء ضاربًا مدنيين ومن لا علاقة عسكرية لهم بما يدور. هنا تكون المقاومة قد بدأت تجني على نفسها، وبالتالي على الهدف الذي قامت من أجله.
من المفيد العودة في كل مرة للتأمل في جدلية الهدف والوسيلة في سياق السياسة. إحدى المقولات الشائعة تفيد أن الهدف النبيل يحتاج وسيلة نبيلة. في معارك الشعوب نميل أحيانا الى التعميم وكأن كل مركبات المعركة متجانسة. وكأن كون أحد الاطراف ضحية يجعل كل عناصره الفاعلة على حق وصواب. للأسف فهذا خطأ. لأن هناك بانوراما واسعة من الرؤى والتطلعات والأهداف في داخل كل مجموعة بشرية حتى لو كانت تقع تحت العناوين البرّاقة، شعب وأمة ووطن وكل ما شئنا. هناك، بينها، من يتطلع بعين الواقع للتحرر على الأرض وهناك أيضًا من يطير على أجنحة الميتافيزيقا لبناء حلم ديني أو غيبي أو آخر على نفس التراب والصخور والشوارع. من هنا صعوبة الحديث عن هدف بالمطلق. المطلق لا يمكن العثور عليه هكذا بكل سهولة وانسياب. كلا، المطلق هو وهم يتم فرضه وبشكل قسري في غالب الأحيان.

خلف الهدوء النسبي

هذه الملاحظات تكتسب معنى محددًا إذا ما اقترحت السيناريو المتشائم التالي لما يمر علينا بعد أن أُجبرنا على الانخراط في "خارطة الطريق" التي صممها من أجل سواد عيوننا سادة "البيت الأبيض".. وبزعامة حاد الذكاء الشهير جورج دبليو بوش بالذات. بالمناسبة ربما يجب أعادة النظر في مسألة غباء بوش، أليس من المعقول أن يكون أخبث مما يبدو؟! ما علينا..
إن التعاطي الاسرائيلي مع ما نصت عليه حتى هذه الخارطة المشوّهة يثير القلق. فحكومة اليمين ترفض كل شيء تقريبًا. من تفكيك محدود لمستوطنات في طور البناء (يسمونها غير قانونية وكأن ما عداها قام بالاستناد الى قرارات مجلس الأمن)، وإطلاق سراح عدد جديّ من الأسرى، ووقف الاستيلاء على الارض الفلسطينية لمصلحة الاستيطان، واحترام حق الفلسطينيين بالتحرك مما يعني تغيير سياسات التعسّف والتنكيل على الحواجز، وسحب قوات الاحتلال الى ما كانت عليه قبل ايلول 2000.. ولكن لا شيء من كل هذا يتحقق فعلا.
في العادة لا أنزع الى التشاؤم، وهنا أيضًا لست متشائمًا بل انني أحاول قراءة سلوك حكومة اليمين الاسرائيلية بدقّة، بعيدًا عن الالغاء المطلق من جهة وبعيدًا عن التمنيات الخرقاء من جهة أخرى. وربما أن مسألة التفاؤل والتشاؤم غير واردة هنا، لأنها ستصبح في مصاف الفتح بالفنجان وقراءة الكف إذا ما أفرط فيها الشخص، خاصة وهو يخوض في موج السياسة. فإلى جانب وجوب الاشارة بالايجاب الى الهدوء النسبي الذي يسود هذه البلاد، مؤخرًا، فلا يزال من غير الممكن أن نفطم أنفسنا عن القلق، أحد أبرز الموارد الطبيعية لدينا. فحكومة شارون قبلت خارطة بوش كما يقبل وكيل الأمس المدلّل قوانين اللعبة الجديدة، اضطراريًا، بتغيّر مصالح السيّد. لكنه يظل ينتهز كل فرصة للعودة ألى أيام العزّ حتى بثمن احناء الرأس حاليًا.
بالمقابل، بعد حرب واشنطن الاجرامية على العراق ومباشرة الاحتلال الفعلي لأرضه يحتاج سادة بيت الدعارة الأبيض الى "انجاز" سياسي ما. والمفارقة أنه كلما ازداد بوش تورطًا في حبل الاكاذيب الذي صاغه ومشى عليه حتى بغداد، ستزداد مصلحته في "سلق تسوية" سياسية في المنطقة، ليبرر ما قام به وبشكل استرجاعي من حيث النتائج. هذا بشرط ألا يندفع بهوس وهوج الى مغامرة حربية جديدة، ضد محور جديد للشر!
لا أدري إذا كان دور الأنظمة العربية هو أمر جدي يستحق التوقف عنده، مع ذلك يكفي القول أننا بعيدون عن وضع يطبّق فيه الزعماء ولو واحد في الألف من تعهداتهم ووعودهم التبجّحية الفارغة للشعب الفلسطيني بالتحرير. لقد خبر هذا الشعب المجرّب تلك الحقيقة طيلة مسيرته الصعبة ورأى بالأمس القريب ملوك كل عواصم العرب وهي تتفأرن فيما كانت جيوش مافيا الأسلحة والنفط الدولية تحرق بغداد وأخواتها.
بالنسبة لأوروبا المسألة لا تحتاج إلا إلى صبر.. حوالي خمسين أو ستين سنة، هذا إذا لم نتفاجأ بجرأة لم نعهدها بحيث تتصرف هذه المنظومة كقوة دولية وليس كما هي الأن.

قناع شارون الثقيل

في ظل وضع كهذا، من المهم الدخول في احتمالات الربح والخسارة. فماذا لو تعب شارون من القناع الثقيل الذي يتخفى به وقرر تدمير القليل الذي تم القيام به مؤخرًا؟ لا أقصد بهذا القول إن رئيس الحكومة الاسرائيلي يملك طبيعة مطلقة واحدة لا حياد عنها، هذا كلام سخيف. بل المقصود هو أن هناك احتمالا في أن لا تتوافق الريح الخفيفة التي تهب علينا مع المزاج الجماهيري الذي يحتاجه شارون ليواصل تمسكه بحكمه، وخاصة بين المستوطنين والمجموعات اليمينية الاصولية على اختلافها. التسوية لا تخدمه، بل مارشات الحرب. ففي النهاية تتم صياغة السياسة الخارجية استنادًا للضرورات الداخلية وليس العكس، وهل توجد ضرورة أكثر إلحاحًا من الحفاظ على الحكم؟
هذا الاحتمال الأخير يكتسب تعزيزًا فاعلا من فئات يفترض أن تعارض شارون بل تزاحمه على الحكم. ولكن من يراقب تحركات حزب "العمل" الخرقاء يعرف أن نوابه بحاجة لطرح السؤال التالي على أنفسهم: "هل نريد العودة للحكم فعلا؟" فهم لا يزالون ينافسون شارون على تكريس العراقيل التي من شأنها منع أية تسوية ممكنة، ابتداء من مواصلة الحديث عن وجوب الحفاظ على بعض المستوطنات، مما يعزز الاستعلاء في نفوس المستوطنين ويزيد من تعنتهم الأصولي، وانتهاء بالسكوت لا بل الدعوة علنًا الى استكمال بناء جدار الفصل العنصري الذي يهدد باقتطاع أجزاء واسعة من الضفة الغربية وتحويلها الى كانتونات مقطّعة بالطول وبالعرض. حقيقة، في ظل هكذا معارضة، لو كنت مكان شارون لنمت نومًا هانئًا وعميقًا.

لكسر تكتيك التخويف

والسؤال: ماذا سيفعل الشعب الفلسطيني إذا فشلت خارطة بوش (بالأحرى، إذا أجهزت حكومة اليمين الاسرائيلية عليها) وما هي البدائل؟
بالطبع اني لا أملك جوابًا لأنني لست صاحب الصلاحية في اتخاذ القرار. ولكن هناك ما يمكن تعلمه من الماضي القريب جدًا. فالحرب غير المتكافئة التي فرضها الاحتلال الاسرائيلي على الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعززها بالتحدث عن وجوب تحقيق النصر العسكري وبالزعم أنه لا يوجد من يمكن التفاوض معه - هذه الحرب دفعت في أحيان غير قليلة للأسف الى انتهاج أساليب ضربت المصلحة الفلسطينية في الصميم. وبدون الوعظ الأخلاقي الذي لا يُطاق، بل استنادًا الى ضرورة التنبه لوجوب كسب المعركة العسكرية سياسيًا أولا في حالة المعسكر الضعيف عسكريًا، أقول إن كل العمليات المسلحة ضد مدنيين اسرائيليين أدت الى خلاف ما توقعه (ربما) مخططوها منها. فحكومة اسرائيل عرفت كيف تستغل هذه العمليات لصالح أهدافها خارجيًا وداخليًا.
على الصعيد الخارجي استغلت هذه الحكومة الجو الذي جرى إنتاجه بعد 11 أيلول لتصوير النضال الفلسطيني ضد الاحتلال على أنه ارهاب مشتقّ من مغاور بن لادن نفسه. والسذّج (وغيرهم!) فقط سيدعون أنها لم تنجح في ذلك بدرجة غير قليلة.
أما داخليًا فقد حوّلت الحكومة العمليات المسلّحة ضد مدنيين الى كنز من ذهب.. فالتكتيك الأساسي الذي قام عليه العدوان منذ سنة 2000 لمنع المجتمع الاسرائيلي من المطالبة بوقف كل ذلك الجنون، كان التخويف. بالأحرى إعادة إنتاج الخوف وربطه حتى بتجارب تاريخية مريرة من تاريخ اليهودية (وهذه تختلف عن الصهيونية كما يعلم الجميع!). وهنا وجد الجهاز الحاكم فرصة لإشاعة وهم أن هذا العدوان الاحتلالي المدفوع برفض شروط الحد الأدنى من التسوية إنما هو استمرار لحرب 1948 لا أقلّ. ومؤخرًا سمعنا قائد أركان الجيش موشيه يعلون يقول ذلك صراحة، ربما حفاظًا على مؤخرته بعد فشل الجيش في جعل الشعب الفلسطيني يعتنق الصهيونية. ومع ذلك فقد ابتلع المجتمع الاسرائيلي هذا الخوف. إذن، يجب كسر هذه الدائرة المقفلة عبر اجتراح الوسيلة النضالية الملائمة.

فلنعتبر!

إن الفترة الراهنة هي الوقت الملائم لاستخلاص العبر ليس بشأن الماضي فحسب بل ، ربما بالاساس، حول ما ينتظرنا جميعًا. وحتى ذلك الحين، وبدون تحقق السيناريو الأسوأ، آمل أن نكون تحررنا من البطولات والانتقامات والغيبيات وقد استبدلنا ذلك كله بقطران الواقعية النضالية المدروسة، فهو الوحيد القادر على جعل الهدف السياسي النبيل يتحقق.

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة, الصهيونية, موشيه يعلون

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات