المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في الاساطير اليهودية، «الغولم» هو كائن خرافي يتمتع بقوة بدنية خارقة. وقد صنعه الحاخام يهودا لوئيف، وهو من براغ، من الطين ووضع في فمه ورقة باسم سري للرب، من شأنها ان تبث فيه الحياة. وقد ساعد الغولم اليهود في الدفاع عن انفسهم ضد المتمردين المعادين للسامية. وذات يوم انقلب «الغولم» على صانعه، وتسبب في انتشار موجة من الدمار، الى ان تمكن الحاخام، في اللحظة الاخيرة، من استرداد الورقة من فمه. وتحول غولم مرة اخرى الى كمية من الطين.


اريئيل شارون ليس حاخاما، والقبلانية كتاب مغلق بالنسبة له، لكنه صنع «غولما»، هو حركة الاستيطان في الاراضي المحتلة. كان شارون متأكدا من ان الغوليم سيخدمه. ففي النهاية يدين المستوطنون بكل شيء له. فشارون الذي رعاهم لعقود طويلة، وحول اليهم الاموال بكميات ضخمة، ووضع في خدمتهم كل المناصب السياسية التي شغلها، واحدة بعد الاخرى: وزير الزراعة والدفاع، والشؤون الخارجية، والاسكان، والصناعة والتجارة، والبنية التحتية، وأخيرا رئيس الوزراء. ومنذ كان قائدا للقطاع الجنوبي (من المناطق الفلسطينية المحتلة ـ المحرر) في اوائل السبعينيات، كان يشير لكل من يلتقيه من الاسرائيليين والعرب، على حد سواء، الى اهمية المستوطنات. ووفقا لشارون، كان من المهم اقامة مستوطنات لكي يتم تحويل اسرائيل الكبرى ـ من البحر المتوسط الى نهر الاردن، على الاقل ـ الى دولة يهودية، والى تقطيع الاراضي الفلسطينية الى قطع صغيرة ومنع قيام دولة فلسطينية.
ومثل بولدوزر بلا مكابح، قضى شارون على كل المعارضة. وعمل على تحويل مليارات الدولارات الى المستوطنات. واستغل القانون لمصلحتهم وسخر ضباط الجيش من اجل خدمتهم. وبهذه الطريقة ظهرت شبكة من المستوطنات والطرق الخاصة. وعندما صاغ عبارة «الفصل من جانب واحد» في اطار اقتراحه الانسحاب من غزة وإعادة المستوطنين الى (داخل اسرائيل)، لم يفكر اطلاقا في أنهم سيعارضونه. الا يدينوا له؟ اليسوا اولاده؟ وقد عرض شارون على المستوطنين اتفاقا يبدو بالنسبة له معقولا، هو ان يتخلوا عن المستوطنات المعزولة التي يعيش فيها عدة آلاف، من اجل ضمان مستقبل المستوطنات الكبرى، التي يعيش فيها 80 في المائة من المستوطنين، بحيث تضم الى اسرائيل.

التضحية ببعض الاصابع من اجل انقاذ الجسد كله. بهذه الطريقة لا ننقذ فقط فكرة المستوطنات، ولكن نحصل على جزء جيد من الضفة الغربية. غير ان الغولم، وقطعة الورق في فمه تحت اللسان، عرض منطقه الخاص. فهو لا ينوي التخلي عن عشرات من المستوطنات الصغيرة، لا سيما أنها مركز تجمع وحياة المتعصبين. وفهم الغولم ايضا، ان اخلاء المستوطنة الاولى سيخلق سابقة تعرضها كلها للخطر. ومثل الماهارال، قلل شارون من شأن الغولم، وعامله كخادم، إذ كيف يمكن ان يحترم كائنا صنعه بيديه. ومع ذلك فهو يعلم الآن انه من السهل خلق الغولم لكن ليس من السهل التخلص منه. ففي كل المقابلات الصحافية التي اجراها في الاسبوع الماضي، اعلن شارون ان المستوطنين حفنة صغيرة من الناس، وهو امر حقيقي، حتى بالنسبة للمستوطنين انفسهم. فهم يمثلون اقل من 4 في المائة من سكان اسرائيل. ولكن الرقم لا يعكس قوتهم الحقيقية. ففي مجتمع ديمقراطي، فإن اقلية صغيرة ومتعصبة وذات دوافع قوية، يمكنها ان تؤثر على مجريات الاحداث اكثر من اغلبية ضخمة كسولة وغير مبالية.
وعلى مدى العقود الماضية، انشأ المستوطنون اداة مكثفة من السيطرة والدعاية. فقد تسللوا بكثير من الصبر الى الجيش، حيث يحتلون الآن المواقع الرئيسية التي كان يحتلها سكان «الكيبوتسات». ويسيطرون على مبالغ كبيرة من المال، ليس فقط من الاموال التي تتدفق عليهم من مئات القنوات داخل الدولة، وليس فقط من التبرعات السخية للمليونيرات اليهود الاميركيين، ولكن ايضا من العديد من الموارد من الاميركيين المسيحيين المبشرين الذين يأملون في بعث اسرائيل التوراتية.
ربما يسأل المرء: ما نوع الغباء الذي سيطر على شارون، وجعله يقترح ان يقر اعضاء ليكود ـ حزبه ـ من دون كل الناس، خطته ويوافقون عليها؟ ألم يعرف ان هذا هو المجال الوحيد الذي يسيطر فيه المستوطنون على قوة اكبر؟
لماذا؟ لأنه ومع جنرالات اثملهم الانتصار ينطلق الغرور واحتقار المعارضة. ففي قمة سلطته السياسية قلل من شأن المستوطنين. وقلل من تأثير جاذبيهم العاطفية، ومن جهازهم اللوجستي الذي تم تشكيله من اموال الدولة.

ان معظم المستوطنين يمثلون جماعة منضبطة. ومما لاشك فيه انهم يطيعون قادتهم «حاخامات ييشع» (ييشع هي الحروف الاولى من الاسماء العبرية لكل من يهودا والسامرة ـ الضفة الغربية ـ وغزة)، وهي بنية شمولية، بالمعنى الاساسي للعبارة: ايمان مطلق، تنظيم مطلق، انضباط مطلق.
ويعترف عضو في الليكود قائلا: «عقلي يؤيد خطة شارون، ولكن قلبي يؤيد المستوطنين»، وهو امر طبيعي: فعندما تدق اسرة مستوطن تحمل رضيعا على باب وتسأل: «هل تريد طردنا من بيوتنا؟» كيف يقاوم من طرح عليه السؤال ذلك؟ ففي النهاية، منذ اليوم الاول الذي ولد فيه، سمع ان الهدف القومي هو السيطرة على اسرائيل الكبرى، وان المستوطنين هم ملح الارض.
شيء واحد جيد نتج عن هذا الاستفتاء، فقد استيقظ الرأي العام فجأة، وشاهد الغولم الذي دبت فيه الحياة في وسطهم. وأصبح الامر واضحا: حركة الاستيطان تمتص النخاع من الدولة، وهي عقبة في طريق السلام، وهي خطر على الديمقراطية الاسرائيلية ومستقبل الدولة ذاتها. والآن بدأ الرأي العام يشهد الخطر الذي يمثله الغولم الهائج. والوقت لم يفت بعد، على سحب الورقة من تحت لسان الغولم.

المصطلحات المستخدمة:

اريئيل, مركز, الليكود

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات