المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يعتبر موردخاي فعنونو ابرز أبطال الحقبة النووية، فقد خاطر بكل ما يملكه في الحياة في سبيل تحذير بلده والعالم من مدى الخطر النووي الذي يواجهنا. وبعد انتهاء عقوبة السجن 18 عاما حظروا على فعنونو مغادرة اسرائيل وقيدت اقامته في مدينة محددة ومنع من الاتصال بالاجانب وجها لوجه او عن طريق الهاتف او الفاكس او البريد الالكتروني، وهذه تعتبر إجراءات تأديبية صرفة لأن المعلومات السرية التي كان يملكها في السابق مضى عليها الآن عقدان من الزمن.

اما المفارقة في الامر، فتكمن في ان الدولة الوحيدة التي تشكل خطرا على الحد من تطوير الاسلحة النووية في منطقة الشرق الاوسط هي اسرائيل. كما ان سياسات اسرائيل النووية تعتبر قصيرة النظر ومدمرة للذات، علما بأن اسرائيل لا تعترف حتى الآن بأنها تمتلك اسلحة نووية. فاسرائيل بسياساتها هذه تشجع دول الجوار على تطوير اسلحتها النووية الخاصة بها ، فيما لن يتغير هذا الوضع من دون حشد للرأي العام وضغوط ديمقراطية تتطلب بالمقابل وعيا عاما ونقاشا حول هذه القضية، وهذا على وجه التحديد ما سعى فعنونو لإثارته.

لم يحدث في اسرائيل، ولا في الولايات المتحدة او روسيا او انجلترا او فرنسا او الصين او الهند او باكستان، ان جاء قرار التحول الى قوة نووية عبر القنوات الديمقراطية، او حتى بمعرفة كل اعضاء الحكومة، ولعله من غير المرجح ان تنجح أي من هذه الدول من خلال نقاش مفتوح في إقناع شعوبها او بقية دول العالم بأن لديها سببا شرعيا يدعوها لامتلاك العديد من الرؤوس النووية، كما هو الحال بالنسبة لاسرائيل، التي يتجاوز حجم سلاحها النووي المتطلبات المعقولة لردع أي هجوم محتمل من دول اخرى.

ثمة حاجة ماسة الى اشخاص مثل فعنونو، ليس في اسرائيل فقط، وإنما في كل الدولة التي تمتلك اسلحة نووية، المعلن منها وغير المعلن. فهل هناك من لا يدرك قيمة ما يمكن ان يكشف فعنونو النقاب عنه بقراءته مع آخر باكستاني او هندي أو عراقي او ايراني او كوري شمالي وقيمة ما سيكشف عنه للأمن العالمي..؟

ما يحتاجه العالم من الإدلاء بهذه الاسرار لا يقتصر فقط على مواطني هذه الدول التي سميت بـالمارقة ، فكل دولة نووية لها سياسات وأهداف وبرامج وخطط سرية تتعارض مع الالتزامات الموقعة عليها في ميثاق الحد من التسلح وإعلان عام 1995 حول المبادئ المتفق عليها في المؤتمر الجديد للحد من التسلح. اذ ان كل مسؤول لديه إدراك بهذه الانتهاكات يجب ان يفكر في فعل ما فعله فعنونو.

هذا ما كان ينبغي علي ان افعله مطلع عقد الستينات من القرن الماضي اعتمادا على ما كنت اعرفه عن التخطيط النووي السري في الولايات المتحدة عندما قدمت بعض الاستشارات لوزارة الدفاع خلال فترة إعارة من «راند كورب» حول مشاكل تتعلق بالسيطرة والتحكم النووي. صغت في إطار تلك المهمة ارشادات وزير الدفاع الى رؤساء هيئات الاركان المشتركة بخصوص خطط الحرب النووية، اذ كانت مخاطر ممارساتنا وخطتنا وقتها واضحة أمامي. لكنني اشعر الآن بأنني كنت خاطئا في حفظ تلك الاسرار التي تكشف الوضع المتهور الذي كان ينذر بكارثة، إلا انه لم يكن أمامي مثال يمكن الاقتداء به مثل فعنونو.

وعندما وجدت أمامي في نهاية الامر نموذجا آخر ـ نموذج الشباب الاميركي الذي اختار ان يذهب الى السجن بدلا عن المشاركة في حرب كنت انظر اليها بدوري كونها حربا يائسة ولا اخلاقية - تشجعت عام 1971 على الكشف لـ19 صحيفة عن التاريخ السري للغاية عن الاكاذيب الرئاسية حول حرب فيتنام، وشعرت بالندم لأنني لم فعل ذلك في وقت مبكر قبل إسقاط القنابل والدمار.

كان من المفترض ان يتم إطلاق فعنونو من السجن والحبس الانفرادي قبل فترة طويلة، ليس لأنه عانى ما فيه الكفاية، ولكن لأنه أقدم على خطوة صحيحة وشجاعة في مواجهة المساعي التي تسعى الى اسكاته ومعاقبته.

يجب ان يكون هناك رفض واسع واحتجاج على القيود غير القانونية التي فرضت على فعنونو غداة إطلاق سراحه بعد 18 عاما قضاها في السجن، ليس فقط لأن هذه القيود تعتبر انتهاكا للحقوق الاساسية للانسان، ولكن ايضا لأن العالم في حاجة الى سماع ما يود فعنونو قوله.
لقد عرضت ثقافة ومذهب السرية في الدول التي تملك سلاحا نوويا حياة البشرية للخطر ولا تزال تهدد وجودها، ولذلك فتحدي فعنونو لهذه السرية الخطرة والخاطئة يجب ان يكون مثلا يحتذى عالميا.

* مسؤول سابق في البنتاغون ووزارة الخارجية الأميركية. كشف النقاب عن وثائق البنتاغون للإعلام في 1971 (الشرق الأوسط)

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات