المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

"هل جننت؟ أتزور عرفات الآن؟ عرفات لم يعد ملائما! لقد انتهى!" هذه هي الردود التي تلقيتها من بعض الناس بعد ان شوهدت في التلفزيون الإسرائيلي عندما قمت بزيارة الرئيس في المقاطعة.هل انتهى عرفات فعلا؟ إنه لم يسمع بذلك. لقد كان مزاجه جيدا. كان يبدو في السنوات الأخيرة تعبا أحيانا، وفي بعض الأحيان منطويا على ذاته. أما في هذه المرة فقد كان في ذروة نشاطه. كان الحديث معه مشوقا وردوده كانت سريعة، مزاحه المرح طال مساعديه، ولم يخل الأمر من ملاحظات لاذعة.

(حين تحدثنا مثلا عن مطالبة شارون بأن يقوم أبو مازن بتنفيذ اعتقالات جماعية، انفجر عرفات ضاحكا وقال: "لقد هدم الجيش الإسرائيلي كل سجوننا! وبقي واحد فقط في أريحا. وإذا نوينا نقل أحد المعتقلين بتهمة جنائية إلى هناك، علينا طلب سيارة من اللجنة الرباعية، بغية عبور الحواجز!").

يمكنني أن أتفهم نفسيته المتحررة. ففي السنة الأخيرة كانت حياته معلقة بخيط من قطن، ففي أية لحظة كان بامكان شارون ارسال رجاله للقضاء عليه. لقد تفاخر أحد الضباط الإسرائيليين هذا الأسبوع بأن "حائطا قليل السمك فصل بيني وبينه". أما الأن فقد زال هذا الخطر أيضا – رغم كون عرفات محبوسا في بناية محاطة ببحر من الدمار، كذلك الذي عهدناه في لبنان.

في السنوات الخمس والأربعين الماضية، كان الخطر يكتنف حياة عرفات في العديد من المرات. وقد تمت عشرات المحاولات لاغتياله، إلا انه اجتازها كلها بسلام، كما اجتازها في هذه المرة. إنني أفهم هذا الإحساس بالارتياح.

هناك بالطبع ارتياح جسدي أيضا. منذ عودته إلى البلاد كان العمل يثقل كاهله بشكل لا يمكن تصديقه. اذ أصر على معالجة جميع الأمور بنفسه، أكبرها كأصغرها، وقد عمل ساعات طوال تحت ضغط غير إنساني، حتى الساعات المتأخرة من الليل. أما الأن فقد أزيح عنه جزء كبير من العمل اليومي، وها هي نتائج ذلك تبدو جلية.

إلا ان من الواضح أن مكانته الآن أصبحت اقوى مما كانت عليه في الماضي. وتنصيب رئيس حكومة قد كان السبب في ذلك. إن تعيين أبو مازن، الذي رأى فيه شارون وبوش "إضعافا" لمكانة عرفات، أو "وضعه جانبا"، قد احدث تأثيرا معاكسا.

السبب في ذلك بسيط للغاية: منذ سنوات طويلة، تُدار في إسرائيل والدول الغربية حملة مكثفة ومستمرة لاعتباره شيطانا. خلال السنوات العشر، منذ معاهدة أوسلو، كتبت وقيلت ملايين الكلمات عنه في وسائل الإعلام الإسرائيلية، إلا أنني لا أذكر كلمة إيجابية واحدة. لقد صوروه على انه إرهابي، دكتاتور، فاسد، كذاب، مخادع، متقلب وغيرها من الألفاظ والعبارات. وقد وُصف على أنه الشخص الذي قال "لا" لاقتراحات باراك والرئيس كلينتون السخية التي لم يسبق لها مثيل، الأمر الذي "يثبت" أن هدفه هو القضاء على إسرائيل.

إن من ترعرع على مثل هذا الترويج والتحريض، لا يمكنه الفهم ان عرفات محبب إلى قلوب الفلسطينيين. والإجابة على هذا التساؤل هي أن هذه الأمور بالذات السبب في ذلك.

يرى الفلسطينيون – كل الفلسطينيين تقريبا - عرفات على أنه زعيم شجاع، يصمد في أكثر الظروف شدة، وأن لديه القدرة على قول "لا" لعظماء العالم عندما يطالبونه بالتخلي عن الحقوق الأساسية لشعبه. لقد واجه كافة الزعماء العرب ولم يخضع لهم، وصمد في كامب ديفيد امام الضغط الذي مارسه عليه كلينتون وباراك ولم ينحن له، وصمد في ظروف الحصار القاسية على المقاطعة ولم ينكسر.

الفلسطينيون، مثلهم مثل كل العرب، أو بالأحرى مثل كل بني البشر، يقدّرون الشجاعة. وقد برهن عرفات على أنه شجاع في ظروف لم يعهدها أي زعيم في العالم. أنهم يرون فيه رمزا لصمود الشعب الفلسطيني الأبي. هذا هو مصدر قوته – ويرى ذلك أيضا منتقدوه من اليمن ومن اليسار.

هذه القوة هامة لقيام أبي مازن بوظيفته. فبعكس عرفات، ابو مازن مقبول في الغرب، وفي حين يظهر عرفات صلابة وعِناد، تحيط بأبي مازن هالة من الاعتدال والاستعداد للتنازل. هذا هو الوجه الذي يريد الغرب رؤيته. هذان الشخصاد يذكراننا، إلى حد ما بدافيد بن غوريون وموشيه شاريت، إبان إقامة الدولة. دافيد بن غوريون كان معبود الشعب في إسرائيل، أما شاريت فقد كان مقبولا في المحافل الدولية.

أيو مازن مقبول في أوساط الجماهير الفلسطينية. وكان من الممكن لأي شخص آخر سيتقلد هذا المنصب وفي هذه الظروف أن يُعتبر متعاونا مع إسرائيل. إلا أن أبا مازن معروف كوطني فلسطيني، وهو أحد مؤسسي حركة فتح وله مكانته. حتى في المظاهرات الصاخبة، لم أسمع أي كلمة مهينة توجّه إليه. غير أن أبا مازن ليس زعيما ذا حضور ولا يتمتع بقاعدة سياسية واسعة.

لذلك يحتاج أبو مازن إلى عرفات. فبدون دعم قوي من عرفات، لن يستطيع تقديم أي تنازل في الظاهر، ولن يتمكن من استخدام القوة في الداخل. هناك حاجة ماسة لعرفات الأن، أكثر من أي وقت مضى، للتقدم نحو السلام.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل يريد عرفات السلام فعلا؟ أكثرية الإسرائيليين لا يمكنهم تصور ذلك. وكيف سيتمكنون من تصور الأمر؟ هل سمعوا القصة الحقيقية ذات مرة؟

وها هي القصة التي يمكنني أن أشهد عليها من تجربتي الذاتية: بعد إن خبت نار حرب أكتوبر، توصل عرفات إلى النتيجة بأن الجيشين المصري والسوري قد منيا بالهزيمة، رغم انتصارهما المفاجئ فور اندلاع الحرب، ولذلك لا يوجد حل عسكري للنزاع. وكما أعتاد دائما، اتخذ القرار لوحده وبسرعة. وقد أوعز إلى مقربه وأمين سره سعيد حمامي بأن ينشر مقالة في لندن تدعو إلى التوصل إلى حل سلمي مع إسرائيل بطرق سياسية. واستنادا إلى هذه المقالة، قابلت سعيد حمامي سرا، ومنذ ذلك الحين، وأنا أتعقب خطوات عرفات عن كثب.

لقد كان هذا التغيير بالنسبة للحركة الوطنية الفلسطينية تغييرا جذريا. عملية سياسية بدل الاتكال على "الكفاح المسلح". حل سلمي مع إسرائيل التي استلبت 78% من مساحة فلسطين وطردت نصف الشعب الفلسطيني من بيوته. هذا الأمر يحتّم انقلابا نفسيا وسياسيا، ومنذ عام 1974 أحدث عرفات هذا الانقلاب من منطلق الإصرار الحذر، خطوة بخطوة. (لقد تابعنا هذه الخطوات عن كثب – في البداية عن طريق سعيد حمامي وعصام سرطاوي، ولاحقا بالتواصل المباشر مع عرفات). في عام 1988 حصل عرفات أخيرا على مصادقة المجلس الوطني الفلسطيني للتقدم في هذا التوجه، بعد مجموعة من القرارات ذات الوجهين. وقد كان أبو مازن شريكا في هذا المجهود.

لقد عارض إسحق رابين وشمعون بيرس هذا الحق معارضة قاطعة طوال هذه الفترة (ويمكنني أن أشهد على ذلك أيضا، لانني نقلت في العديد من المرات رسائل من عرفات إلى رابين). الحقيقة التالية ستفاجئ الكثيرين: لم يكن رابين او بيرس آباء أوسلو الروحانيين، بل عرفات وأبو مازن. وقد كان منح جائزة نوبل للسلام لبيرس وليس لأبي مازن بمثابة إجحاف تاريخي بحقه.

شارون لا يرضى طبعا بإقامة دولة فلسطينية في كافة المناطق المحتلة، فكم بالحري تفكيك المستوطنات. إلا أنه أذكى من أن يعرقل أبا مازن بشكل علني، وهو الرجل المقبول في الدول الغربية. لذلك، يكثف شارون جهوده لكسر عرفات، لانه يعلم علم اليقين، بان لا وجود لأبي مازن بدون عرفات.

العبرة: عرفات ضروري لعملية السلام. ولذلك قمت بزيارته.

(مترجم عن موقع "غوش شالوم" على الشبكة)

المصطلحات المستخدمة:

باراك

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات