المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

لو قُدر لنا أن نحكم بحسب الاهتمام الذي يرافق تعيين "أبو مازن" رئيسًا لحكومة السلطة الفلسطينية، فإن الحديث هو عن حدث تاريخي، عن خطوة حاسمة في الطريق إلى تطبيق الاصلاحلات الضرورية لعمل الحكم الفلسطيني. وقد بارك رئيس الدولة ورئيس الحكومة الاسرائيلي هذا التعيين – طبعًا، مع تحذير، بأن التعامل مع "أبو مازن" سيكون مشروطًا بنجاحة في "قطع دابر الارهاب" - بينما كررت الأوساط اليمينية الاتهامات بكونه "منكِرًا للمحرقة" ومحرِّضًا على "مواصلة الكفاح المسلح". وحتى الفلسطينيين – الذين عرفوا أن الهدف الحقيقي من وراء الانقلاب السلطوي هو إرضاء الأمريكيين - تعاملوا مع التعيين بجدية وتناقشوا حول تبني الموديل المصري، أم الأردني أم اللبناني.

وقد أفسد الأمريكيون التمثيلية بعض الشيء، نتيجة وعدهم لأريئيل شارون بألا تحدث أية خطوة سياسية إلى حين الانتهاء من الأزمة العراقية، ولذلك فإن تطرقهم إلى تعيين "أبو مازن" (الذي كان، كما ذُكر، حجة "الانقلاب السلطوي") جُمّد حاليًا. وقد استمرت المداولات الجدية والمعمقة في المجلس التشريعي، حول تعيين "رئيس حكومة" فلسطيني، والتي ألزمت تغييرًا في "قانون أساس"، من دون علاقة بالثمن الدموي الكبير الذي جباه العنف في المناطق وفي إسرائيل، ووصل العقاب الجماعي، على شاكلة الأطواق، والإغلاقات، وهدم البيوت و"الاحباطات المركّزة" (الاغتيالات)، إلى ذروات جديدة.

ويبدو مجرد إجراء المداولات في رام الله المحاصرة امراً عبثياً، في ضوء مصادقة "الشاباك" على قدوم أعضاء "البرلمان الفلسطيني"، فيما يُحاكَم عضو برلمان بارز (مروان البرغوثي) في إسرائيل كمجرم جنائي، وفيما قُسّمت الضفة الغربية إلى أكثر من خمسة كانتونات، وخضع نظام التنقل بينها لجهاز تأشيرات إعتباطي، وفيما تبيت 580 مدرسة مغلقة، لأن ربع مليون طالب لا يستطيعون الوصول إليها، وفيما يقبع مئات الآلاف في منع تجول إلى جانب تحطم الجهاز الصحي والخدمات الاجتماعية وتدهور الوضع الاقتصادي إلى كارثة - ألا يجد منتخبو الشعب الفلسطيني ما يفعلونه، سوى الانشغال في صلاحيات "رئيس الحكومة"؟ وبعد أن نجح الاسرائيليون في تفتيت غالبية عمل السلطة الفلسطينية وهدم بناها التحتية، وأن يزعزعوا مكانة ياسر عرفات وأن يحوّلوا السلطة إلى "تنظيم إرهابي" يجب محاربته حتى النهاية - بعد كل هذا، هل لا زال من يعتقد أن تعيين "أبو مازن" كرئيس للحكومة يمكن أن يؤدي إلى فتح صفحة جديدة؟

من الصعب انتقاد الفلسطينيين، الذين يفرض عليهم ضعفهم ويأسهم التمسك بكل قشة بالية؛ ولكن عليهم أن يفهموا أن المداولات والتعيين والاحتفالية تخدم كلها حكومة إسرائيل، وفقط حكومة إسرائيل. وليس صدفةً أن عناصر رسمية إسرائيلية بدأت فجأة بالتعامل مع الهيئات الفلسطينية على أنها دولة ذات سيادة؛ فيما حرصوا في الماضي على تسمية الرئيس عرفات بكلمة "روُش" (المصطلح العبري "روُش" يُستخدم لتسمية رئيس لشركة أو هيئة وليس لدولة، وهناك كلمة خاصة لرئيس دولة، "هَنَسي"- المحرر)، ولم يسموا مجلس السلطة "حكومة" أبدًا (في الاتفاقات الموقعة، لُقب عرفات بلقب "رئيس"، من أجل تمويه الفوارق بين "رُوش" وبين رئيس دولة في الترجمات إلى العبرية والعربية). من المهم الآن تطوير الوهم بوجود سلطة ذات سيادة لها "رئيس حكومة" من أجل التغطية على طابع الاحتلال العسكري المباشر الذي فرضته إسرائيل بعد حملة "السور الواقي".

الحديث هو عن إحتلال "دي لوكس"، يتنصل فيه المحتل (صيغة الفاعل) من كل مسؤولية عن مصير السكان المحتلين، ويكون معفيًا من كل النتائج الفظيعة الواقعة نتيجة العمليات "الشرطية" الفظة والعقاب الجماعي. ويتّبِع جهاز بيروقراطي كامل طريقة "العصا والجزرة": ضغوطات إقتصادية، تصريحات تنقّل، منع تجول ومنع الخدمات، ومحفزات للمتعاونين وعقوبات على رافضي الجندية، وكل ذلك من خلال الاستناد على السلطة الفلسطينية وجهات المساعَدة من خارج البلاد، التي لا تقوى على رؤية شعب كامل يتضور جوعًا، ولذلك فإنها تمد يد العون بكل ما أوتيت. هذا الاعتماد الكَلَبي لا يمنع جهات إسرائيلية رسمية من "إدانة العون للارهاب" الذي توفره جهات مساعدة دولية، وحتى أنه لا يمنعها من مضايقة هذه الجهات في نشاطاتها الانسانية.

وكلما كان بالامكان التلويح بالمصطلحات الفارغة من أي مضمون حول "برلمان فلسطيني" و"رئيس حكومة" – والاستعانة بالصياغات القديمة لاتفاقات أوسلو، التي حطمتها حكومة شارون من غير رجعة - كلما أصبح بالامكان تحقيق الوهم بأن هناك إحتمالات لـ "أفق سياسي". وتنجح حكومة شارون، بمساعدة أعضاء "المجلس التشريعي" الفلسطيني الكريمة، بالتهرب من مسؤوليتها عن الأزمة الانسانية غير المسبوقة السائدة في الضفة والقطاع، والمباركة التي استقبلت بها "أبو مازن" مُبررَة: فهو يخدم أهدافها من دون خلق أية مشكلة سياسية؛ ودائمًا سيكون من الممكن القول إنه لم ينجح في "قطع دابر الارهاب" ولذلك يجب تغييره، وهكذا دواليك. وأصلا، قد يكون الانشغال بـ "أبو مازن" نابعًا من أسباب أخرى كليةً: اليأس عميق جدًا، إلى درجة دفع الجميع للتعلق بكل قشة.

(هآرتس، 13 اذار 2003، الترجمة العربية: "مـدار)

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة, هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات