المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

كتب محمد دراغمة:
خرج الوالد الكهل وابنه الشاب من بيتهما في حي الياسمينة بالبلدة القديمة من نابلس، بعد أن أديا صلاة الفجر معاً، إلى حيث يكسبان قوت يومهما. الوالد مصطفى أبو صفية (93 عاماً) توجه إلى شوارع المدينة الضيقة، منادياً على علب سجائر يحملها بين يديه المرتعشتين من البرد والهرم، والابن (32) عاماً، مضى إلى محمص معروف في البلدة القديمة، عمل فيه طيلة سني شبابه القصيرة.

وفي الطريق وجد الكهل والشاب ما لم يتوقعاه: جنود يكمنون في أحد الأزقة بحثاً عن هدف، فتوقفا أمام الأصوات المزمجرة من خلف بنادق شرعت على الفور في وجهيهما.

طلب الجنود - كما يروي الوالد بصوته المتهدج - من كليهما رفع ملابسه العلوية، وإنزال السفلية، وبعد أن تيقنوا أن أحداً منهما لا يحمل حزام الانتحار، طلبوا من الابن المغادرة، ومن الوالد البقاء والجلوس على الأرض.

لم يقطع الابن أكثر من خمسين متراً، وإذا بالجنود الثلاثة الذين أوقفوه وطلبوا منه الانصراف، يصوبون بنادقهم نحوه، ويطلقون عليه النار.

<<أدركت أن ابني هو الهدف، فصرخت فيهم قائلاً: لماذا تقتلوه، لماذا، فانهالوا علي ضرباً، وأجبروني على الجلوس>>، قال الوالد بصوت يخنقه بكاء شديد المرارة.

بقي الوالد جالساً على الأرض تحت فوهات البنادق، فيما واصلت مجموعة أخرى من الجنود، قوامها حوالي عشرين جندياً، اقتحام البيوت المجاورة وتفتيشها.

اتصل أصحاب البيوت المجاورة بمقر الإطفائية في البلدية، بعد أن خرجوا على أصوات الرصاص ليشاهدوا جسداً مطروحاً نازفاً.

لكن الجنود أوقفوا فريق الإسعاف، ولم يسمحوا له بالاقتراب منه إلا بعد أن فارق الحياة. وقال قدري الأغبر أحد موظفي قسم الحركة في البلدية الذي وصول إلى الموقع لإنقاذ الجريح، بأن جندياً صوب سلاحاً إلى رقبته، وثبَّته لفترة من الوقت، ولم يسمح له بالحركة سوى بعد مرور فترة من الوقت يقدرها بحوالي نصف ساعة.

وفي المستشفى تبين أن ناصر أصيب بعيارين ناريين أحدهما في الفخذ والثاني في القدم. ويقول الدكتور ياسر أبو صفية الذي فحص جثة الشهيد، بأن العيار الذي أصاب الفخذ أدى إلى قطع الشريان الرئيسي متسبباً بحدوث نزيف حاد أدى إلى الوفاة.

ويؤكد أبو صفية أن إنقاذ جرحى هذا النوع من الإصابات مرتبط بالوقت، فإذا ما توفر لهم إسعاف سريع فإنهم ينجون، وأي تأخير في إسعافهم يؤدي إلى مضاعفات خطيرة وقاتلة. <<لو وصل إلى الموقع فريق إسعاف بعد الإصابة لتمكن من وقف النزيف وإنقاذ حياة ناصر، لكن قيام الجنود بمنع إسعافه أدى إلى مواصلة النزيف حتى الموت>>، قال.

لم يبرح الوالد العجوز مكانه سوى بعد أن غادر الجنود، حيث كانت مجموعة من نسوة الحي يتحلقن حول بقعة ممتدة من الدماء.

<<كان الدم قد سال على طول حوالي ثلاثين متراً، فأدركت أن ناصر قد مات، فمن ينزف هذه الكمية الكبيرة من الدماء لن ينجو أبداً>>، قال الوالد وهو يستقبل بجسده المتهالك المعزين.

وأضاف يقول: <<المشهد لن يفارقني أبداً، لقد بدت الدماء المراقة على الأرض كأنها دماء أربعة خراف ذبحت معاً>>.

<<أي نوع من البشر هؤلاء، لقد قضيت من العمر ثلاثة وتسعين عاماً، عاصرت فيها دولاً وأقواماً عديدة، ولم أرى مثل هؤلاء.. يوقفون الناس في الشوارع، ويقتلونهم دون رأفة>>، قال الوالد الكهل.

هذا النوع من عمليات القتل والتصفية الميدانية بات مألوفاً في مدينة نابلس، التي سقط فيها خلال العامين ونيف الماضيين ما يربو على ألـ 250 شهيداً.

ولم تقتصر عمليات التصفية على المسلحين والنشطاء والمطلوبين الذين يلقى القبض عليهم، بل طالت أيضاً العديد من المدنيين في أماكن عملهم ومعيشتهم.

وكان من بين هؤلاء أشخاص في مهام ومهن إنسانية مثل طواقم الإسعاف والإطفاء. ومنهم سائق سيارة إطفاء تابعة للبلدية أطلق الجنود النار عليه وجهاً لوجه في أحد شوارع المدينة في تموز الماضي.

وقد جاءت عملية قتل ناصر وشاب آخر وإصابة ما يربو على العشرين في عملية لقوات الاحتلال في نابلس أمس ضمن عملية تصعيد جديدة شاملة في الأراضي الفلسطينية سقط فيها حتى ساعات المساء 13 مواطناً.

ويرى المراقبون أن شارون لجأ إلى عملية التصعيد هذه عندما أدرك أن الحرب على العراق ستتأخر قليلاً..

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات