المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

قال تيودور هرتسل، مؤسس الحركة الصهيونية الحديثة، في رسالة كتبها لخلفه قبيل وفاته عن اربعة واربعين عاماً، في العام 1904: <لا ترتكب اي اخطاء غبية بعد مماتي!>. كانت تلك ملاحظة للاغاظة فقط وانا اذكرها هنا لأن مشروع هرتسل كان المشروع الاكثر غرابة والاكثر صعوبة من بين كل مشروعات الدول القومية الجديدة الاخرى في القرن التاسع عشر، لانه ان كان هناك مشروع قومي يمكن له ان يفرز الاخطاء الغبية بسبب تعقيداته وما يحيط به من غموض فهو مشروع هرتسل.كانت الصهيونية مشروعاً قومياً لا يشبه اي مشروع آخر في اوروبا او خارجها. فقد كان يتضمن الاستعمار في غياب وطن او بدون دعم قوة حكومية. كان مهمة صعبة بأقل وصف ممكن في بلد قاحل بدون موارد طبيعية ولا عوامل جذب للتمويل. وكان احد اصدقاء هرتسل قد طلب النصيحة من سيسل رودس الامبريالي البريطاني الكبير. وكان جواب رودس: <قل للدكتور هرتسل ان يضع المال في جيبه!>. لم يكن لدى هرتسل الا القليل من المال. وذات مرة كتب يقول: <السر الذي اخفيته عن الجميع هو انني اتزعم حركة من المتسولين والحمقى>.

اما الاغنياء، باستثناءات قليلة للغاية، فقد عارضوه. واوائل المستوطنين اليهود في فلسطين كانوا اما من الايديولوجيين المفلسين او الفوضويين الاجتماعيين او النارودينين ممن يمارسون <نزعة الاشغال الشاقة> الغريبة. وستون في المئة من المهاجرين اليهود الذين وصلوا إلى فلسطين بين عامي 1904 و1914 عادوا إلى اوروبا او غيروا وجهتهم إلى اميركا.

وفيما كانت الحركات القومية الاخرى تهدف لتحرير الشعوب التي تمثلها ممن تتكلم لغة واحدة وتعيش في ارض واحدة، كان الصهاينة على العكس من ذلك يدعون اليهود للرحيل عن بلادهم والاستيطان بعيداً عنها في اقليم مهمل من الدولة العثمانية، حيث كان يعيش اسلافهم قبل آلاف السنين، لكنها مسكونة الآن من قبل شعب آخر، له دينه ولغته ويعيش باكورة تطلعاته القومية، ولهذا السبب عارض المشروع اليهودي واعتبره عدواناً خطيراً.

* عرب في فلسطين.. !

يقال ان احد اعوان هرتسل المقربين قد جاءه ذات يوم مهرولاً، وهو يصيح مندهشاً: <لكني سمعت ان هناك عرباً في فلسطين! لم اكن اعرف هذا!>. قد لا تكون هذه الرواية صحيحة، الا انها تلخص، كما تفعل القصص الاخرى، الحقائق المحورية لواقع الحال. في جوابه على هذا القول لم يدخل هرتسل في الحقوق التاريخية، ان كان هناك أي منها، كما مازال الكثيرون غيره يفعلون اليوم. انه لم يؤمن بالحقوق التاريخية كما كان لديه من الدافع ليتجاهل اية معرفة بذلك لما اوقعته هذه الادعاءات من ضرر باليهود خلال القرن التاسع عشر في المانيا وفرنسا والنمسا والبلقان من بين أماكن اخرى عديدة. لكن كانت لديه فكرة مسبقة واضحة عن الفترة المظلمة التي تنتظر مشروعه. وكان واثقاً من ان هناك تيارات تاريخية قوية ستبرر ايديولوجية الصهيونية، وهي الثقة التي اوضحها بكاملها خلال الاحداث اللاحقة.

بمثل هذه الصعوبات البادية التي يصعب التغلب عليها، يصبح من الجدير بالملاحظة كم هي قليلة الاخطاء الغبية التي ارتكبها الزعماء الصهاينة. فبعد 50 عاماً من وفاة هرتسل، العام 1904، كانت تلك الاخطاء لا تزال نادرة والاضرار التي تسببها لم تكن قاتلة او غير قابلة للاصلاح. فقد كان زمام المشروع الصهيوني بأيدي رجال هادئين ومتمرسين بالسياسات الاوروبية والعالمية، وغير مستعدين للخوض في مجازفات غير محسوبة، باستثناء قلة منهم ممن اسماهم حاييم وايزمان، الزعيم الصهيوني الشهير بعقلانيته خلال الحروب <دانونزيو الخاص بنا>، ممن كانوا يرفضون تقديم وعود تفوق طاقتهم. كان هؤلاء يدركون انهم يقومون بمشروع غير عادي يتعارض في بعض اوجهه مع ارسخ التوجهات في الاحداث العالمية. وحينما تعرضوا لمواجهة مع السكان العرب المعادين لمشروعهم في اغلبيتهم، حكّوا رؤوسهم ليخرجوا بحلول وسط وحلول ثنائية القومية وخطط تقسيم حتى حينما كانوا يسيئون بافكارهم تلك للصهاينة مثلما فعلوا بالعديد في اقتراحات التقسيم التي قبلوها ورفضها العرب.

وحين تنظر الآن لتلك الخرائط في خطط التقسيم التي راجت في الثلاثينيات والاربعينيات بخطوط حدودها المتعرجة وممراتها الضيقة وجيوبها البريطانية او الدولية - آخرها قرار التقسيم الذي اصدرته الامم المتحدة العام 1947 - يتشكل لديك الانطباع بوجود عدوين مرتهنين بعناق قاتل.

في العام 1948 نفض البريطانيون ايديهم وتركوا فلسطين. لكنهم في اليوم الذي ابحروا به بسفنهم، اعلن اليهود دولة سرعان ما اعترفت بها معظم الدول بمن فيها بريطانيا.

* بن غوريون يعارض احتلال باقي فلسطين

تلك الدولة الجديدة كانت لا تزال تحت زعامة اولئك القادة الحذرين انفسهم ولم يتغير فيهم شيء سوى انهم اصبحوا اكبر سناً. وكانوا يعرفون ان هناك حدوداً دوماً. وما كان للزهو ان يلعب برؤوسهم بسهولة بعد نصرهم العسكري الذي حققه جيشهم. وعادة ما كانوا يعرفون الفرق بين القوة والعنوة. منذ ذلك الحين يتهم رئيس الوزراء الاسرائيلي حينها ديفيد بن غوريون بزيادة حدة مأساة الفلسطينيين التي عانوها خلال الحرب بالسماح لجنرالاته بطرد حوالي 100 الف فلسطيني، اضافة لما يقدر بحوالي 500 الف فلسطيني كانوا قد هربوا من الحرب والتجأوا إلى الضفة الغربية والدول العربية.

ومع ذلك لا يمكن الا ملاحظة توخي الحذر من جانب بن غوريون بعد الحرب. فقد قاوم بشدة دعوات الجنرالات للاستيلاء على باقي فلسطين، الضفة الغربية والتي تشكل 22% من مساحة فلسطين، بما في ذلك مدينة القدس القديمة بكل ما فيها من اماكن عبادة. اما الضفة الغربية فقد ألحقت بالمملكة الهاشمية وفقاً لاتفاق شفهي مع اسرائيل. حينها كان لدى بن غوريون الامل بامكانية التوصل لمعاهدة سلام رسمية مع الملك عبدالله، عاهل الاردن آنذاك، الذي ظل على اتصال معه طوال الحرب.

كان بن غوريون يفضل اكتساب <الشرعية> على اكتساب المزيد من العقارات، حتى لو كانت هذه العقارات تتضمن <حائط البراق> وغيره من الاماكن المقدسة. كان ذلك قراراً يذكر له حتى مقارنة بإرث اعقل زعامات اوروبا في القرن التاسع عشر. غير ان حذره لم يُجدِ نفعاً. فملك الاردن اغتيل، الا انه كان مُثمراً. فاوروبا بعد الحرب كانت محملة بعقدة الذنب ومعادية اللاسامي. وطوال عقدين من الزمان كان دعم اسرائيل يشبه التبرع لاعمال خيرية عملياً في اوروبا. وباستثناء بريطانيا، كانت خطوط الهدنة، العام 1948، تعتبر في معظم اوروبا وفي اميركا شيئاً مقدساً يشبه التقسيم في اوروبا إلى شرق وغرب بعد الحرب العالمية الثانية بين القوى الغربية والاتحاد السوفييتي. لكن العرب بالطبع رفضوا هذه الخطوط. لكنه سيكون شيئاً بناء لو قارنا المواقف في الغرب تجاه حدود اسرائيل بعد 1948 مع تلك المواقف بعد ذلك بثلاثين عاماً تجاه حدود اسرائيل التي فرضتها بالقوة العام 1967.

اذ حتى ستالين خلال سنواته الاخيرة المليئة بالعداء للسامية لم يقترح انسحاب اسرائيل من خطوط هدنة 1949 إلى ما اعطته خطة التقسيم الدولية الاصلية لليهود. ولا حتى خلف ستالين في الكرملين طلب ذلك. لقد كانت الخمسينيات والستينيات عصر تفكك الاستعمار. ستالين ومن اتى بعده امتدحوا كل حركة مضادة للاستعمار تقريباً (باستثناء تلك التي كانت تحدث داخل امبراطوريتهم السوفييتية في القارتين الاوروبية والآسيوية طبعاً).

وهؤلاء انتقدوا اسرائيل باعتبارها صنيعة الرأسمالية الاميركية، وليس لكونها قوة استعمارية. والعديد من الدول المستقلة حديثاً والشعوب الاستعمارية سابقاً فضلت اقامة علاقات وثيقة مع اسرائيل، على الرغم من ادانتهم للحكومات الاستعمارية الاخرى، مثل تلك الموجودة في كينيا او جنوب افريقيا او الجزائر. وحتى اليسار الفرنسي والايطالي كان يفتقد اية خطابة معادية لاسرائيل من مثل تلك التي اصبحت معتادة بعد 1967، فعل سبيل المثال قال ازيكو بيرلنفوير الزعيم الشيوعي الايطالي ان اسرائيل هي حالة خاصة. واضاف انه في عالم منصف وعقلاني لربما كان من <المنطقي> أكثر وحتى من <العدل> اكثر لو ان اسرائيل اقيمت في بافاريا مثلاً او في شرق بروسيا، كما كان وزير الحربية البريطاني لورد موين قد اقترح سابقاً، من اجل الجدل اساساً. غير ان بيرلنفوير يضيف ان من المؤسف كون العالم الذي نعيش فيه ليس عالماً عقلانياً تماماً.

لقد كانت اقامة اسرائيل فكرة ينظر اليها عموماً، في ذلك الوقت، على انها نتيجة حتمية لحرب خاضها اليهود، كما كان ينظر اليها قبل اي شيء آخر على انها ملاذ للناجين من المحرقة ولأسرى معسكرات الاعتقال النازية الذين رفض معظهم العودة إلى بولندا او المانيا. فالعديد منهم بعد ان رفضتهم اوطانهم ارادوا الذهاب إلى اسرائيل وإلى اسرائيل حصراً. اما اعادة توطين 600 الف لاجئ فلسطيني فقد نظر اليها اساساً باعتبارها مهمة انسانية، وليس استراتيجية سياسية. وكان من المفترض ان تتحمل اسرائيل المسؤولية عن مستقبلهم مادياً ومالياً في حال احلال السلام وهذا ما يتوجب ان تفعله اذا ما اردنا الانصاف، اذ ان الفلسطينيين ليسوا مسئولين عن جرائم اوروبا غير انهم كانوا الطرف الذي اوقعت به عقوبة هذه الجرائم.

كما كان الغرب يتوقع من الدول العربية المجاورة، ان تساند في استيعاب اللاجئين الفلسطينيين داخلها، فالكثيرون في الغرب اعتبروها مسئولة جزئياً عن نتائج حرب هم من شنوها العام 1948 لافشال قرار الامم المتحدة.

وقد حث الاميركيون والاوروبيون وحتى السوفييت العرب على التوصل لسلام مع اسرائيل على اساس الواقع الراهن على الارض بعد حرب 1948، وفي مجلس الأمن الدولي، ضرب مندوب الولايات المتحدة الطاولة بيده قائلاً ان الحكومة الاميركية ترى ان الوقت مناسب جداً لليهود والعرب للجلوس معاً وحل خلافاتهم بروح مسيحية حقة.

* الانفجار الكبير

غير ان حرب 1967 كانت الانفجار الكبير، فقد اوقفت فجأة عقداً من التقارب التدريجي بين مصر واسرائيل كان قد رفع مستوى الآمال بأن الصراع العربي الاسرائيلي يمكن حله على الاقل جزئياً، فعلى الرغم من ان قناة السويس ظلت مغلقة في وجه السفن الاسرائيلية، استطاعت هذه السفن عقب حرب 1956 ان تتحرك بحرية في مضيق العقبة. وهذا ما جعل حركة التجارة مع الشرق الاقصى وشحنات النفط الايراني تصل بحرية الى ميناء ايلات الجنوبي، في البداية حصلت اسرائيل على المديح في الغرب لانتصارها الكبير في الحرب غير اننا نعرف الآن انه كان انتصاراً جعل المنتصر في حالة اسوأ مما كان عليه في السابق فهذه الحرب لم تغير موقف اسرائيل في المنطقة فحسب، بل وغيرت ايضا من صورتها عن ذاتها، فاسرائيل التي وصفها ايزايا برلين بأن لديها >تاريخاً اكثر من الجغرافيا< اصبح لديها الآن فجأة التاريخ والجغرافيا معاً، كما انها ولأول مرة اصبح لديها نظرياً على الاقل ما يكفي من الارض لمقايضته بالسلام. كان ديفيد بن غوريون الشخصية الاسرائيلية البارزة الوحيدة بين النخبة السياسية يفجر مشاعر النشوة العامة باقتراح ان تنسحب اسرائيل مباشرة، من جانب واحد لو اقتضى الأمر، من كل الاراضي المحتلة، ومثلما فعل، العام 1948، عارض بن غوريون تماماً ضم الضفة الغربية بشكل نهائي.

غير ان بن غوريون كان عجوزاً ومتقاعداً ومعزولاً سياسياً.. وقد صارع حزب العمل بضراوة. اما ايغال آلون، الجنرال ذاته الذي حرض بن غوريون على اكمال <التحرير> كما قال، فقد اصبح حينها وزيراً بارزاً يتصارع على رئاسة الوزراء مع موشيه دايان الجنرال السابق ايضا، ومع ان آلون تحدث بغموض عن السماح باقامة دولة للفلسطينيين، فقد وضع خطة للاستيطان والضم في الضفة الغربية لاتترك لهم سوى جيبين في جبال الضفة وغزة محاطين بالقواعد العسكرية الاسرائيلية والمستوطنات المقترحة، ولن يكن لهم اي وجود سياسي في القدس، وما سميت بخطة آلون هذه تنامت الى حد كبير مع الزمن بفعل تأزم المأزق السياسي وهكذا بدأت تقضم المزيد والمزيد من الاراضي وتلحقها باسرائيل.

اما خطط دايان فكانت اكثر غموضا واكثر طموحاً ايضا بكثير. فقد كان اول سياسي علماني رفيع يحمل خطابته السياسية بالكثير من الصور التوراتية الايحائية: لقد عدنا الى شيلو، لقد عدنا الى بيت لحم ولن نرحل عنها ابدا، وغير ذلك الكثير، كان دايان المنتصر في حرب مجيدة ولبضع سنوات اليهودي الاكثر شهرة منذ زمن المسيح، وكما اعتقد فإن لقب <أيام الخلق الستة> قد اطلق على هذه الحرب بتحريض منه، وقد استغل التيار اليميني والاصوليون اليهود حرب الايام الستة في عهد غيبي شبه بعثي. وقد دفع هؤلاء نحو الضم الرسمي الفوري لكل <الاراضي المحررة> لكن في ذلك الوقت كانوا لايزالون اقلية صغيرة نسبياً.

هذا السباق بين جنرالين علمانيين على زعامة الحكومة كان اكثر شؤماً وبعواقب كارثية حتى هذا اليوم، فكلاهما لم يكن يفكر إلا بنفسه شأن السياسيين عادة وأعميان عن وجود الفلسطينيين في المنطقة، فقد انكر طموحات اكثر من مليون فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة باعتبارها ذات اهمية سياسية محدودة، كما لم تكن لديهما النية في منحهم الجنسية الاسرائيلية. يذكر ان هناك حوالي 300 الف فلسطيني كانوا يعيشون حينها داخل اسرائيل ويعانون المرارة من معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية.

كان تعداد اليهود في اسرائيل العام 1967 يبلغ 2ر7 مليون اما عدد كل السكان العرب الذين يعيشون غرب نهر الاردن فكان 1ر3 مليون، كان الامر يشبه مثلا ان تستوعب فرنسا العام 1938 حوالي 20 مليون الماني داخل حدود لها محاطة بأكثر من 100 مليون الماني معاد مسلحين بكثافة.

واليوم، بعد 35 سنة يعيش 4ر1 ملايين فلسطيني بين نهر الاردن والبحر المتوسط (3،1 ملايين في الضفة الغربية وقطاع غزة ومليون آخر داخل اسرائيل) ورغم الهجرة اليهودية المكثفة منذ العام 1967 لم يرتفع عدد اليهود اكثر من 5 ملايين وبالتالي فإن معدلات ولادات فلسطينية اعلى من اليهودية بمعدل 1،2 الى 1 ستؤدي بالتأكيد الى ان يصبح الفلسطينيون اغلبية بين النهر والبحر في غضون 10 الى 15 سنة. كانت اجتماعات الحكومة الاسرائيلية دوما شأنا مطولاً ومحتدماً لكنها لم تكن ابداً بمثل ذلك التوتر الذي كانت عليه صيف العام 1967، كان الوزراء يفكرون بما سيفعلونه بعد انتصارهم الكبير كانت الجلسة الحاسمة لتقرير واقع الضفة الغربية المحتلة قد بدأت صباح احد الايام الى حد منتصف حزيران واستمرت بتوقفات قصيرة للطعام والنوم حتى يوم الاربعاء التالي، والقرار النهائي الذي خرجت به هو عدم اتخاذ قرار، وفي غياب اي قرار كان دايان الذي اصبح معبود اليهود، وآلون ومجموعة من اليمينيين والاصوليين اليهود ومتملكي الارض بوضع اليد قادرين على النجاح في ارساء حقائق شيطانية على الارض تمثلت في المستوطنات والمواقع العسكرية التي تضاعفت دون توقف على مدى السنوات من خلال ترتيبات رسمية وشبه رسمية.

وتدريجيا اصبح اليهود الذين استولوا على الممتلكات بوضع اليد عليها اصحاب ملكيات شرعية ويحصلون على معونات حكومية وفيرة بل واصبحوا ابطالاً وطنيين، لقد قيل عن الامبراطورية البريطانية انها ولدت في نوبة غياب للعقل، والوجود الاستعماري العسكري في الضفة الغربية ولد في ظروف مماثلة، فقلة من الناس اخذته على محمل الجد في أيامه الاولى، والبعض الآخر ضلل نفسه بالقول انه سيكون مؤقتاً. اما اولئك الذين كانوا يقفون وراءه فقد دعموه دون كلل، ومن بينهم بضعة وزراء ممن اعتقدوا ان العرب يمكن ان يندفعوا نتيجة ذلك لتحقيق سلام عاجل بدلاً من آخر آجل قبل ان يرسي الاسرائيليون كثيراً من الحقائق الاخرى <غير القابلة للازالة> على الارض.

احد وزراء الاسكان من <العمل> الحمائميين وهو يصور نفسه بأنه معارض للاستيطان مع انه موله بسخاء كبير ـ قال على نحو ساخر، انه بعد اجلاء المستوطنين ـ كما كان متأكداً من حصوله ـ فإن الولايات المتحدة ستعوض اسرائيل بدولار عن كل ليرة انفقتها على الاستيطان.. اما القلائل الذين عارضوا الاستيطان لاسباب سياسية أو ديمغرافية فكان مصيرهم التجاهل، فلم يكن هؤلاء انداداً للتحالف الناشيء بين الاصوليين السياسيين والدينيين، والكنيست لم يصوت ابداً على المشروع الاستيطاني، فالمستوطنون كانوا يحصلون على التمويل اول الامر من وكالات غير حكومية ومنظمة النداء اليهودي الموحد والوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي، اما الحكومة الاميركية فلم تقم سوى بالقليل للاحتجاج على المشروع الاستيطاني. اذ لم تتخذ اي اجراء قانوني او اجراءات اخرى من التي تستطيع اتخاذها لوقف تدفق الاسهامات المالية المعفية من الضرائب للاستعطاف اليهودي الموحد والصندوق القومي اليهودي من الولايات المتحدة والتي مولت مستوطنات على اراض مصادرة >لاسباب امنية< من ملاكها الفلسطينيين. بل ان الولايات المتحدة ولكل الاسباب العملية كانت شريكاً جاهزاً لتمويل المشروع الاستيطاني اليهودي. وحكومة الائتلاف الوطني التي شكلت على عجل عشية حرب 1967 ظلت تحكم حتى وقت طويل بعد الحرب وكان يتولى رئاستها في البداية ليفي اشكول وهو رئيس وزراء ضعيف مات مباشرة بعد الحرب لتخلفه المتشددة غولدا مائير التي اشتهرت بزهوها بسياستها وبقولها دوما <من هؤلاء الفلسطينيون؟>.

* الاحجام الأميركي عن التدخل

وقد ابلغت تلك الحكومة الولايات المتحدة انها مستعدة للانسحاب من الاراضي المصرية والسورية المحتلة مقابل السلام لكنها رفضت صراحة الانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة، لكن ليس هناك على ان الدبلوماسيين الاميركيين قد ابلغوا القاهرة ودمشق فعليا بأي صفقة تعتمد على انسحاب اسرائيلي، وقد باءت بالفشل محاولة قامت بها مجلة <نيويورك ريفيو اوف بوكس> لاقناع مؤسسة الارشيف القومي الاميركي للكشف عن الوثائق الدبلوماسية ذات الصلة بهذه المبادرات تحت قانون حرية المعلومات وليس هناك ولو برقية او تقرير او رسالة شفهية واحدة نهائياً تشير الى ان الولايات المتحدة قد بذلت اي محاولة سلمية في صيف 1967، ونتساءل عن اسباب هذا الاحجام الاميركي، فالى جانب سعادتها الواضحة لكون اسرائيل قد وجهت اهانة كبيرة لحلفاء الاتحاد السوفييتي لم تكن الولايات المتحدة مستعجلة لانهاء الصراع العربي الاسرائيلي. فهذا الصراع كان قد تحول الى حرب بالوكالة بين القوتين العظميين وارض تجارب لعتادهما العسكري، اما قناة السويس فظلت مغلقة بما لا يزعج الاميركيين، اذ كانت لدى ادارة الرئيس الاسبق لندون جونسون اسباب وجيهة لابقائها مغلقة قدر المستطاع وبالتالي اجبار شحنات الامداد السوفييتية الى فيتنام الشمالية للارتحال عبر طريق بحري طويل حول افريقيا.

بعد ذلك بوقت وجيز، اعلن العرب في قمتهم في العاصمة الخرطوم <لاءاتهم لا للاعتراف باسرائيل ولا للتفاوض معها ولا للسلام معها>، واستمر الركود اللاحق عدة سنوات، واذكر ان كاتبا من عرب 1948 قد استعار صورة مشرقية لوصف المعضلة الاسرائيلية: <بدلا من ان يدوس الاسرائيليون على الافعى التي تهددهم فقد ابتلعوها>، وقال: <الآن عليهم ان يعيشوا معها، او يموتوا معها>، ان كلمة <المعضلة> من حيث تعريفها هي صراع بين بديلين متساويين في مكروهيتهما، لكن هل كانت هذه هي المعضلة التي تواجه اسرائيل بالفعل؟ اننا الآن نعلم انها لم تكن كذلك، لقد كان السلام احتمالا ممكنا جدا ـ مع الفلسطينيين منذ اوائل صيف 1967 ومع مصر والاردن منذ العام 1971 والعام 1972، اذ بعد حرب 1967 مباشرة التقى ضابطان رفيعان في الاستخبارات الاسرائيلية ـ احدهما كان ديفيد كيمشي الذي اصبح لاحقا نائب رئيس الموساد ثم المدير العام لوزارة الخارجية الاسرائيلية ـ التقيا بزعامات مدنية وسياسية بارزة في الاوساط الفلسطينية في كل الضفة الغربية بينهم مفكرون ووجهاء ومحافظون وعلماء دين، وكتب كيمشي تقريراً بعد ذلك جاء فيه ان معظمهم عبروا عن استعدادهم لقبول دولة فلسطينية غير منزوعة السلاح في الضفة الغربية توقع اتفاق سلام منفصل مع اسرائيل، وفي ذلك الوقت كانت منظمة التحرير الفلسطينية جماعة هامشية.

غير ان تقرير كيمشي هذا، بقدر ما يتوفر لدينا من معلومات، انتهى على يد دايان على الرف. بل ولم يقدم للحكومة الاسرائيلية للنظر فيه ابدا.ً

عن <نيويورك ريفيو أوف بوكس>

يتبع القسم الثاني والأخير

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, ايلات, الموساد

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات