المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

كتب: محمد دراغمة
مثلما في كل مرة، وسواء كانوا مظلومين أم.. مظلومين، توجب على أهالي الخليل يوم الاحد 19 كانون الثاني أيضاً أن يدفعوا الثمن، فأخذ قطعان المستوطنين يتدفقون عليهم بكل ما وصلت إليه أيديهم من أدوات الموت والخراب، وكانت الحصيلة قبل انتهاء النهار: 40 جريحاً و 50 بيتاً مدمراً و 30 سيارة محطمة.

كان المشهد سوريالياً ، فالجيش الإسرائيلي الذي يعلم بأمر العدوان المرتقب من المستوطنين على أهالي الخليل، أقدم على فرض حظر التجول على المدينة، واكتفى بتحذيرهم من احتمال تعرضهم لشغب المستوطنين الغاضبين على سقوط قتيل منهم، وترك الباقي لمشية القدر، و "تسامح" المستوطنين..

والأمر ذاته كان الجيش سيفعله لو أن القتيل أو القتلى – كما دائماً - كانوا فلسطينيين، حيث سيعمد أيضاً إلى فرض حظر التجول على أهالي الخليل، لحمايتهم من أنفسهم، ومن شر أعمالهم، هذه المرة، وليس من المستوطنين.

فهذا هو بالتمام ما فعله الجيش الإسرائيلي عقب مجزرة غولدشتاين في شباط عام 94، عندما فرض حظر تجول شامل على جميع الأراضي الفلسطينية ولمدة طويلة: حوالي الشهر، وذلك خشية من: ردود الفعل.

ولأن المستوطنين من عرق غير العرق، ولأن ضحاياهم من غير الجنس أيضاً، فإن الجيش لا يخشى من ردود فعلهم.

اعتقد كثيرون – خاطئين – في تلك الفترة أن رئيس الوزراء المغدور اسحق رابين سيقدم على ترحيل المستوطنين عن الخليل منتزعاً بذلك فتيل قنبلة دائمة الانفجار، أعاقت، وستظل تعيق أي تسوية سياسية تاريخية بين الجانبين.

وطالب كثيرون رابين بالإمساك بتلك اللحظة السياسية الكثيفة كثافة دماء أهل الخليل الركّع السجّد التي أريقت في الحرم الإبراهيمي على يد مستوطن لا يختلف عن باقي مستوطني المدينة ومحيطها في درجة هوَسِهِ بالدم والعرق والأسطورة.

لكن زعيم حزب العمل آنئذ، ملك إسرائيل المتوج لحل الصراع التاريخي بين شعبه والفلسطينيين، شأنه في ذلك شأن قادة هذا الحزب في مختلف الأوقات والظروف، بما انفطروا عليه من تحصن دائم وراء صخرة المساومات السياسية، وتخوف من حمل خطيئة التفريط بـ "أرض إسرائيل"، أضاع فرصة لا تتكرر مرتين لحل معضلة سياسية على هذه الدرجة من التعقيد والبؤس.

وفي النهاية غير السعيدة تمخض الجبل الإسرائيلي - كما هو دائماً، وولد فأر المراقبين الدوليين الذين لم يتمكنوا من حماية أنفسهم من اعتداءات المستوطنين، ولا الجيش فعل لهم ذلك، فأنّى لهم بتوفير الحماية للفلسطينيين؟

ولأن الجنرال رابين لم يجرؤ على استغلال اللحظة المواتية، فإن ورثته سينأَون بأنفسهم عن ما نأى معلمهم بنفسه عنه، ليظل بضع مئات من المستوطنين المهووسين بعقيدة يعتقدون أن التقرب إلى منزلها لا يتم إلا من خلال طرد الآخر وإلحاق كل صنوف الأذى به، يظلون يمسكون بخناق أكثر من 170 ألف فلسطيني لا وطن لهم سوى مدينتهم هذه المجبول ترابها بالدم والدموع والألم.

ولأن المستوطنين هم الطفل المدلل لإسرائيل، على اختلاف ألوان ومسميات حكوماتها، ولأن رعاية اليهودي وطرد العربي كان على الدوام واحداً من الأسس التي قامت واستمرت عليها الدولة العبرية، فلا بأس إن يواصل مستوطنو الخليل وأكناف الخليل، حربهم، باسم الله والأسطورة، على أهالي المدينة العزل، مؤملين أنفسهم بحول يوم لا يكون فيه في المدينة وحرمها سواهم.

ولأن العناد صفة إنسانية طبع بها المقهورون والمظلومون في الأزمان وكل الأمكنة، وليست صفة زائدة في الخليل دون غيرها، كما يعتقد الكثيرون، فإن أهالي هذه المدينة يواصلون تلقي سياط المستوطنين بصبر أحياناً، وبنفاذ صبر أحايين..

واليوم الأحد، الذي كان أسوداً في الخليل، ليس سوى واحد من الأيام السوداء الكثيرة التي تعيش هذه المدينة المعذبة تحت وطأتها، والتي تنتقل فيها من هجوم جماعي يشنه المستوطنون على أهالي المدينة وبيوتهم ومتاجرهم وسياراتهم وغيرها مما يملكون، إلى هجوم يشنه الجيش على ذات الأهداف…

وفي هذا اليوم الأسود الجديد في مدينة الخليل المحتلة، تجلت الصورة السوريالية للاحتلال الإسرائيلي على أبشع ما تكون، ففي هذا اليوم الذي كان فيه أهالي المدينة مذعورين في بيوتهم يترقبون ما سيكون عليه عذابهم على أيدي المستوطنين الهائجين، كانت إسرائيل منشغلة بمكان دفن مستوطن "كريات أربع" القتيل الذي خلد صاحب المجزرة "غولدشتاين" بكتابه الشهير الرائج في أوساط اليمين، فهل يدفن في المستوطنة إلى جانب غولدشتاين حيث المقابر مبرر ديني كاف لتخليد الوجود الاستيطاني في المكان، أم في القدس حيث أرد له أهله أن يكون، ولهم في ذلك أيضاً أسبابهم التي لا تخلو من السياسية والدين أو كليهما؟

وربما كان أدق وصف على هذه الحالة هو ذلك الذي أطلقته أكثر من صحيفة إسرائيلية عليها وهو: المهزلة.

المصطلحات المستخدمة:

كريات أربع

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات