المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

عندما تتبع العمليات الانتحارية الفلسطينية ضد المدنيين عمليات اسرائيلية عسكرية ضد الفلسطينيين، من السهل على بقية العالم ان يكتفي بالتفرج ووصف ما يجري بأنه "دورة عنف". ولكن هذا التحليل المبسط يتجاهل التاريخ. ازمة الحكومة الاسرائيلية التي أدت الى تقديم موعد الانتخابات، قد تؤدي لتعقيد العلاقات الفلسطينية ـ الاسرائيلية، ولكنها لن تغير الحقائق الاساسية للصراع.وحتى نفهم الازمة الحالية علينا مراجعة اتفاقية اوسلو. كانت الامال انذاك تعبق الاجواء، فقد تبادلت اسرائيل والمنظمة الاعتراف ببعضهما، والتزمت اسرائيل بالانسحاب من معظم اراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما تنازل الفلسطينيون عن اللجوء للعنف. والاهم ان عرفات عاد من تونس واسس حكماً ذاتياً كان سيؤدي مع نهاية التسعينات الى حكم ثمانين في المائة من السكان الفلسطينيين. لقد بدا الحال وكأن حلاً توافقياً اصبح قيد الممكن. لكن ما تبع هو فشل مفاوضات كامب ديفيد 2000 في حل معضلة الفشل التفاوضي الاسبق، ثم فشلت مفاوضات طابا. كان ايهود باراك، بدعم من الرئيس كلينتون، قد طرح على الفلسطينيين عدة عروض ظن المراقبون انه يصعب رفضها. الواقع ان ما جرى في كامب ديفيد وطابا صار علامة مميزة في تاريخ الشرق الاوسط الحديث، كما اصبحت لاحقاً احداث 11 سبتمبر علامة في التاريخ الاميركي.

لقد وافق رئيس الوزراء الاسرائيلي انذاك، ايهود باراك، على اقامة دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل، وهذا ما لم يعرضه أي زعيم اسرائيلي قبل ذلك. واستعد باراك للانسحاب من حوالي ثلاثة وتسعين في المائة من الضفة والقطاع، وهو ما كان سيؤدي الى تفكيك ثلاثين مستوطنة واعادة اسكان ثلاثين الف مستوطن. وفي مقابل المستوطنات التي ستبقى مع الاسرائيليين عرض باراك التنازل عن ارض اسرائيلية. وهذا ايضاً لم يفكر به احد قبل باراك. وبعكس التأكيد الاسرائيلي بأن القدس ستبقى العاصمة الابدية غير المقسمة لاسرائيل، وافق باراك على اعادة تقسيم المدينة بشكل يسمح بأقامة عاصمة لدولة فلسطين في القسم العربي، كما عرض على الفلسطينيين الاشتراك في السيطرة على الحرم القدسي الشريف. واخيراً، كان باراك مستعداً لاعادة عدد محدد من لاجئي 1948.

هذه العروض كان لها ثمن دفعه باراك، اذ انسحب شريكان من تحالفه الحاكم، وفي النهاية فقد الاغلبية البرلمانية واضطر لانتخابات مبكرة خسرها باراك، وفاز شارون.

الرفض الفلسطيني لعروض باراك جاء على شكل المطالبة بالمزيد مما لا تستطيع اسرائيل قبوله. فقد طالب عرفات اسرائيل بقبول حق عودة اللاجئين واحفادهم، وهذا سيعني نهاية اسرائيل كدولة يهودية، واعتبر الاسرائيليون اصرار عرفات على هذا الطلب بمثابة عدم اقرار من القيادة الفلسطينية بحق اسرائيل في الوجود. أي ان الفلسطينيين لا يسعون للتعامل مع نتائج حرب 1967وانما الى الغاء نتائج حرب 1948.

وقد تزامن رفض عرفات لعروض طابا مع العودة الى العنف والعمليات الانتحارية. لا شك ان زيارة شارون للحرم القدسي الشريف في سبتمبر (ايلول) 2000 كانت استفزازاً لا لزوم له، وكان الاسرائيليون سيتفهمون بضعة ايام من الاحتجاج الفلسطيني، ولكن زيارة شارون تلك لم تكن السبب الفعلي لكل العنف الذي تبعها، ويبدو الان لمعظم الاسرائيليين ان العنف هو جزء من استراتيجية عرفات لينتزع من اسرائيل بهذا الاسلوب ما فشل به عبر المفاوضات.

بالطبع عرفات لا يقف خلف العمليات الانتحارية، او يصدر الاوامر بتنفيذها، فالامر اكثر تعقيداً. ولكن ممارسات السلطة الفلسطينية تزيل الشكوك حول موقفها. فعندما تعاد رفات أي انتحاري للفلسطينيين يودعونه للقبر بحرس شرف رسمي، ويتم اشهاره شهيداً او شهيدة، وفي اليوم التالي للدفن يصل للمدارس فاكس يتضمن سيرة حياة الشهيد وصورته ليتم اطلاع التلاميذ عليها كنموذج يحتذى به.

ان هذه الحقيقة تواجه الاسرائيليين منذ عامين، مما جعلهم عاجزين عن التفكير في طرح بديل، حتى ولو من الاسرائيليين غير المؤيدين لردود الفعل الاسرائيلية العنيفة. لقد عرض باراك على الفلسطينيين الاستقلال والسيادة وجزءا من القدس، ولهذا استنتج سبعون في المائة من الاسرائيليين ان الرفض الفلسطيني لتلك العروض يعني انهم لا يسعون الى حل وسط قابل للتطبيق، بل يريدون رؤية نهاية اسرائيل.

ما العمل اذاً ؟ ان اعادة احياء عملية سلام فاشلة اصعب من بداية جديدة تماما،ً اذ لا يمكن اعادة تركيب ما تكسر. اما مطالبة الطرفين بالعودة لطاولة المفاضات فتبدو شيئاً معقولاً، ولكنها على الاغلب ستكون عملاً اجوف. الواقع ان الكراهية وانعدام الثقة بين الطرفين بلغا اعلى درجاتهما، ولم يعد هناك منافسون لعرفات الا حركة حماس، لان سياسته المضادة لاسرائيل تلقى قبولاً فلسطينياً.

الطريق المعقول الان هو "اللا حل"، كما هو الحال في البوسنة وكوسوفو وقبرص، اذ لم يتم التوصل لاي حل في تلك المناطق، ولا يعرف احد كيف سيكون الوضع في أي منها بعد خمس سنوات من الان. ولكن رغم عدم التوصل الى حل في تلك المناطق، هناك استقرار، وقد توقفت اراقة الدماء يوميا. ان استقرارا مشابها هو اكثر ما يمكن توقعه في المستقبل المنظور بين الفلسطينيين والاسرائيليين.

لقد ارتكب الفلسطينيون في كامب ديفيد وطابا خطأ جسيماً يشابه خطأ الشيشان عام 1999عندما رفضوا قبول الاستقلال الذي منحه اياهم الاتفاق الروسي الشيشاني عام .1996 كان كامب ديفيد وطابا لحظة نعمة ديبلوماسية رفضها الفلسطينيون، وعلينا الان الانتقال الى الخيار الثاني، وهو مسلسل ملء الفراغات. ومن هنا، على اسرائيل الان ان تتحرك من طرف واحد للانسحاب من المناطق الفلسطينية المحتلة، ويجب عليها تفكيك عدد كبير من المستوطنات واقامة حدود فعالة بينها وبين المناطق الفلسطينية لوقف العمليات الانتحارية. وبعد فترة من الاستقرار وبرود الاعصاب يمكن العودة الى طاولة المفاوضات.

ان الطرفين يحتاجان الى الوقت، مثلما هو الوضع بين الصرب والالبان. نحن نميل دوماً لرؤية خيارين: السلام او الحرب. علينا الان البحث عن خيار ثالث. لقد تعود العالم على تقبل وضع الازدواجية في مناطق متعددة، وعليه تقبل ذلك في الشرق الاوسط ايضاً. ان اية محاولة اخرى للسعي الى حل مثالي قد تؤدي الى نتائج عكسية، تكراراً لما حدث في محاولة كامب ديفيد وطابا.

09 نوفمبر 2002

* بروفيسور في العلوم السياسية في الجامعة العبرية بالقدس

المصطلحات المستخدمة:

اوسلو, باراك

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات