ما زالت العناصر التي تتألف منها السردية الإسرائيلية حول الانسحاب الأميركي من أفغانستان آخذة في التبلور، ومع ذلك بالوسع أن نشير إلى سيرورتين يبدو من الآن أنهما سترافقان مسار تبلورها: الأولى، عرض وتحليل المصالح الإسرائيلية في ضوء هذا الحدث الكبير، وارتباطاً بآخر الأوضاع الإقليمية والعالمية، والثانية، تجيير الحدث كمسوّغ لمواجهةٍ مواربةٍ مع الحكومة الإسرائيلية الحالية، كما يفعل محللون وساسة سابقون محسوبون على نهج الحكومات السابقة بزعامة بنيامين نتنياهو، وذلك لغايات عديدة في مقدمها تحقيق حلم استعادة الحكم.
ولعل أبرز عناصر هذه السردية المرتبطة بالسيرورة الأولى، وحسبما تراكم إلى الآن، عنصر التشديد على أنه في كل ما يتعلق بأمن إسرائيل في الوقت الحالي، وإلى الأبد، لا يمكنها سوى أن تعتمد على نفسها وعلى قوة ذراعها العسكرية. وبموجب كتابات كثيرة بشأن هذا العنصر، توقفنا عند أبرزها الأسبوع الفائت، فإن هذه الخلاصة كانت بمثابة فنارٍ اهتدى به جميع زعماء إسرائيل، بدءاً من ديفيد بن غوريون وصولاً إلى نتنياهو.
كثيرة هي الأسباب التي تدعو إلى الاعتقاد بأن أول اجتماع بين الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، والرئيس الجديد للحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت، الذي عقد في البيت الأبيض يوم الجمعة الفائت بعد أن تم تأجيله بسبب هجوم كابول، جاء لخدمة كليهما على حدّ سواء، ما يفترض أنه تركز في تحقيق هذا الغرض، لا في ما قد يحول دونه أو يضع عقبات أمامه.
ووفقاً لمعظم التقارير ركّز الزعيمان على ما يوحد أكثر مما على ما هو مختلف عليه، وكان همهما أكثر شيء أن يثبتا للعالم أن الخلافات في الرأي لا تفسد للودّ قضية. وقال بايدن إنه ناقش مع بينيت "عملية السلام" بين الإسرائيليين والفلسطينيين وبحث سبل تحقيق سلام فلسطيني- إسرائيلي بدون أن يذكر حل الدولتين كعادته، مشيراً إلى أن علاقة بلاده مع إسرائيل في أفضل أحوالها. من جهته لم يذكر بينيت أي شيء في الشأن الفلسطيني، ولكنه طلب في الاجتماع عدم إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس المحتلة خوفاً من تفكك ائتلافه وسقوط حكومته. وفي سياق آخر قال بايدن إنه ناقش خططاً للتأكد من عدم تطوير إيران أسلحة نووية، مضيفاً أنه إن لم تنجح الدبلوماسية مع طهران سيتعين اتخاذ إجراءات أخرى، مؤكداً التزام واشنطن الثابت بأمن إسرائيل، بما في ذلك تجديد مخزون منظومة "القبة الحديدية" للدفاع الجوي.
شهدت الفترة المنقضية منذ الهبّة الفلسطينية الأخيرة في أيار الفائت عدّة تطوّرات داخل المجتمع الإسرائيلي من شأنها أن تلقي بظلالها على علاقة هذا المجتمع مع المواطنين العرب، بقدر ما يمكن أن تنعكس أيضاً على سياسة الدولة حيالهم. وهي تطوّرات تتقاطع مع ما شملته حملة الاعتقالات التي قامت بها الشرطة- بأداء فاعل من طرف جهاز الأمن العام ("الشاباك")- في صفوف المواطنين العرب من مظاهر جديدة في استخدام آليات القمع بما في ذلك القمع السياسي، وتعطي صورة عامة عن أهم جوانب هواجس المؤسسة السياسية الإسرائيلية فيما يتعلق بالسياسة الواجب انتهاجها إزاء الفلسطينيين في الداخل.
سنكتفي بالإشارة إلى تطورين تراكمت بشأنهما بعض الوقائع خلال الفترة القليلة الماضية.
الأول يكمن في ما أشار إليه التقرير الذي ظهر في صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية التابعة لـ"هآرتس" يوم 18 آب الجاري، وأشار إلى ازدياد كميات طلبات الحصول على تراخيص حمل السلاح منذ الحرب الإسرائيلية الرابعة على قطاع غزة والهبة التي أطلقها الفلسطينيون في الداخل ولا سيما في ما يُعرف باسم "المدن المختلطة". ووفقاً لمعطيات وزارة الأمن الداخلي الإسرائيلية، فمنذ بدء الحرب على غزة يوم 11 أيار 2021
شكلّت الهبّة الفلسطينية في شهر أيار الفائت، من بين أمور أخرى، بمثابة محكٍ لإخضاع العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة إلى الفحص والتحليل على صعيد التحوّلات التي طاولت موقف الإدارة الجديدة في البيت الأبيض من جهة، وموقف الجالية اليهودية الأميركية من جهة أخرى. وفي الوقت عينه فإن هذه التحوّلات بدورها كانت بمنزلة إيذان ببدء حملة هجوم يمينية سرعان ما استعرت ضد تلك الجالية، كما سبق أن نوهنا في أكثر من مناسبة في الماضي القريب.
ويمكن القول إن الدور التدريجي الذي تقوم به جهات راديكالية أو ليبرالية في صفوف اليهود في الولايات المتحدة، إلى ناحية تغيير مواقف الحزب الديمقراطي الحاكم حيال إسرائيل، ويبدو أنه دور مُرشّح للاتساع، هو ما يُؤجّج زيادة وتيرة الهجوم اليمينيّ على هذه الجهات، التي تشمل في ما تشمل تصعيداً في حدّة اللهجة، وفي كيل الاتهامات.
تقف في رأس حملة الهجوم هذه صحيفة "يسرائيل هيوم"، التي لا تنفك تركّز هجومها على ما ترى أنه مُستجدّ ومثير للقلق على مستوى الخطاب العام، أو على صعيد السردية، وبشكل خاص في محور ما يوصف بأنه "تبدّل المصطلحات"، الذي يؤول إلى طرح فحوى جديد لا سابق له، على غرار عدم الاكتفاء مثلاً بالحديث عن احتلال إسرائيلي بدأ في العام 1967، إنما أيضاً عن تكوّن نظام أبارتهايد، وكيف أن بعض من
ما زالت قضية تصدير شركة NSO الإسرائيلية لبرمجية التجسس "بيغاسوس" إلى أنحاء مختلفة من العالم واستخدامها على نحو واسع، ولا سيما من جانب أنظمة استبدادية، لملاحقة نشطاء في الدفاع عن حقوق الإنسان وخصوم سياسيين وصحافيين، تتفاعل وتلقي مزيداً من الضوء على كل موضوع علاقات إسرائيل بهذه الأنظمة، وعلى حجم تجارتها الأمنية بما في ذلك صادرات السلاح.
ويمكن القول إن هذا التفاعل اكتسب زخماً على خلفية إشارة التحقيق الدولي بشأن برنامج "بيغاسوس" إلى استخدامه للتجسس على زعماء بمن في ذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ما جعل هذا الأخير يتحادث مع رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت وتبليغه أن فرنسا فتحت تحقيقاً بهذا الصدد. ووفقاً لتقارير إسرائيلية، لدى الفرنسيين كل الأسباب لمطالبة الحكومة الإسرائيلية بتقديم توضيحات لأنها هي التي سمحت للشركة الإسرائيلية ببيع تكنولوجيا تُستخدم كسلاح للتجسس على رئيس دولة صديقة مثل فرنسا. ولا تستطيع إسرائيل التهرب من تحمّل المسؤولية مثلما لا يمكنها أن تفعل ذلك عندما تسلح شركة إسرائيلية حكومات ببنادق وصواريخ تستخدمها ضد مواطنيها.
يشير أحد مقالات هذا العدد من "المشهد الإسرائيلي" إلى "ولادة" مصطلح جديد يتعلّق بقضية فلسطين في الخطاب السياسي الإسرائيلي العام منذ أعوام قليلة، هو "تقليص الصراع"، إلى جانب مصطلحين سابقين هما "تسوية الصراع"، و"إدارة الصراع". كما يتوقف المقال عند هوية من سكّ هذا المصطلح، وعند ما يمكن أن يمهّد له ويجعله مُطبقاً ميدانياً. ولعل الأهم من ذلك أنه مصطلح لقي، عند ظهوره، هوًى لدى رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي نفتالي بينيت، المنتمي إلى الصهيونية الدينية، بحسب ما سبق أن صرّح هو بنفسه.
وما يهمنا حقيقة هو أن المصطلحات السابقة كلها، إذ تستخدم تعبير الصراع (مع الفلسطينيين) فهي تقصد، على نحو مسبق البرمجة والأدلجة، ذلك الدائر على مستقبل الأراضي المحتلة منذ العام 1967، كما لو أن قضية فلسطين بدأت في إثر هذا الاحتلال، ولم تكن قائمة قبله.
وهذا القصد ليس جديداً الآن، بل إنه ملازم لكثير من المقاربات الإسرائيلية المتعلقة بالتسوية، على الأقل منذ انطلاق قطار ما يسمى بـ"التسوية" في طريق لم تكن مشقوقة من قبل في بداية تسعينيات القرن العشرين الفائت. ومنذ ذلك الوقت راجت كثير من المقولات المرتبطة بالموضوع ذاته، لعل أشهرها أن 1967، هذه الأرقام الأربعة، هي "كلمة السرّ" لإنقاذ "دولة إسرائيل" على أساس التخلي عن مطامعها الجغرافية في "أرض إسرائيل الكبرى". وعندما كان يتم التداول في ماهية التسوية المطلوبة للصراع، سرعان ما كانت تتشكّل أغلبية تؤكد أنه لا بديل عن "حل الدولتين" على أساس حدود 1967 مع تعديلات فائقة، مثل الإبقاء على القدس موحدة، والاحتفاظ بالكتل الاستيطانية الكبرى، وذلك في مقابل ترتيبات أمنية صارمة (في مقدمها سيطرة إسرائيل أمنياً على منطقة غور الأردن)، وتجريد الدولة
الصفحة 29 من 52