المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

على نحو شبه دائم كانت الأنظار متجهة نحو المحكمة الإسرائيلية العليا، بصفتها السلطة الأعلى لتجسيد العدل (حين تعترضه عقبات سلطوية)، وكذلك حين يوضع مبدأ المساواة على المحكّ.. وحين.. وحين.. إلخ.

وفي هذه الأيام تتجه الأنظار نحوها مجدّداً وتجعلها "في عين العاصفة" مرة أخرى، أولاً في ضوء قرب تعيين 4 قضاة في هيئة هذه المحكمة، ما قد يقلب موازين القوة فيها. وثانياً، لكون هذا التعيين يأتي على ركام حملات اتهام لهذه المحكمة ولا سيما من طرف جهات يمينية ومحافظة، بأنها تقف حجر عثرة أمام ما توصف بأنها الحوكمة، عبر تدخلها في عمل الحكومة والكنيست. وكان آخرها، عند كتابة هذه السطور، حملة شنّها أحد أعضاء الكنيست من حزب الليكود المحسوبين على الضاربين بسيف رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو (دافيد أمسالم). وقبله تواترت حملات تحت غطاء غاية إعادة السلطة القضائية إلى "وظيفتها المُهمة للغاية"، وهي تفسير المعايير التي أقرها المُشرّع لا تغييرها. وتشير هذه الحملات، كما أكدنا في الماضي مرات عديدة، إلى أن معسكر اليمين في إسرائيل يعتقد أنه آن الأوان لتنفيذ مشروع أكبر يتطلع إليه منذ أعوام كثيرة، ومؤداه تكبيل يدي المحكمة العليا، ووقف ما سمي قبل نحو ثلاثة عقود بـ"الثورة الدستورية"، وبالأساس من خلال تعيين قضاة جدد محسوبين على التيار المحافظ. ويتهم اليمين هذه المحكمة بالتدخل في قضايا ليست لها، وبالتمادي في إلغاء قوانين سنّها الكنيست وتراها المحكمة غير دستورية. غير أن التهمة الأنكى هي أن المحكمة العليا تناصر الفلسطيني الذي يتوجه إليها مشتكياً من ممارسات الاحتلال أو المستوطنين في أراضي 1967، بالرغم من كونها تهمة لا تستند إلى أي قرائن جادّة. ويعمل اليمين على حصر دور المحكمة في تفسير القانون، لا في النظر في قضايا تخص السلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (الكنيست). ويجادل عدد من قادة اليمين بأن المحكمة العليا أخذت لنفسها دوراً غير منصوص عليه في أي قانون، واستغلت عدم وجود دستور في إسرائيل وباتت تحكم على هواها، معتمدةً على "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته" من العام 1992 والذي ترى فيه المحكمة بمثابة دستور بديل، فيما يراه اليمين "أساس الشرّ" الذي اعتمدت المحكمة عليه لتلغي قوانين عاديّة للكنيست.

إذا كان اليمين في إسرائيل يعتقد أن هذه المحكمة تعتدي على حقوق السلطتين التنفيذية والتشريعية المُنتخبتين، فهذا لا يعني بأي حال أنها كذلك في كل ما يتعلق بالقضايا التي تندرج تحت مُسمّى "الأمن".

ولعلّ ما يستحضر الالتفات إلى هذا الأمر في الوقت الحالي هو الشهادة التي نشرها محلل الشؤون الاستخباراتية والأمنية، يوسي ميلمان، في صحيفة "هآرتس" يوم 2/1/2022 على خلفية ما بات يُعرف باسم "قضية بيغاسوس" (برنامج التجسس على الهواتف الخليوية التابع لشركة "إن. إس. أو" الإسرائيلية)، وذكر فيها أنه بعد نحو قرن من العمل الصحافيّ أيقن بما لا يدع مجالاً لأيّ شكّ بأن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تعمل مثل دولة داخل دولة، وتفعل كل ما يحلو لها من دون رقابة برلمانية ناجعة، وبتعاون وثيق ودعم من الجهاز القضائي وعلى رأسه المحكمة العليا. وأكّد أنه يشعر بأن قوته نفدت، وبأنه يحارب ضد طواحين الهواء مثل دون كيشوت.

ومما كتبه ميلمان حرفياً: أنا صحافيّ منذ 47 عاماً، منها 38 عاماً كنت فيها مختصاً في تغطية شؤون الاستخبارات والأمن. وفي جزء كبير من هذه الفترة وإلى جانب الكتابة في المجال القانوني، عملت في عشرات محاولات رفع أوامر منع النشر عن قضايا أمنية. ولكن في أواخر سنوات حياتي، أُدرك بأن الوضع آخذ في التدهور، وأن جهاز المناعة لدى القضاة وقدرته على مواجهة المؤسسة الأمنية آخذان في التلاشي. راكمتُ تجربة من طلبات الالتماس التي قدمتها إلى جميع الهيئات القضائية في إسرائيل، مثل محكمة الصلح والمحكمة المركزية والمحكمة العليا. وقد مثلت أمام قضاة ليبراليين، وأمام قضاة محافظين أيضاً، ولا توجد بينهم أي فروقات في كل ما يتعلق بشؤون الأمن. جميعهم يقفون بصمت عند سماع كلمة أمن. جميعهم قضاة لجهاز الأمن. هم مستعدون لتطهير أي ظلم يرتكبه جهاز الأمن، وإبعاد أي استئناف أو طلب لوسائل إعلام أو محامين أو ناشطي حقوق إنسان أو أي شخص يحب العدالة، بسرعة وبدون نقاش معمق ومن خلال إظهار مزاج قضائي مستخف ومتهوّر.

ومثلما ينوّه ميلمان، ففي الأعوام الأخيرة وافق القضاة وبرروا قرارات وزارة الدفاع وجهاز الموساد بشأن تسليح زعماء يخرقون حقوق الإنسان ودكتاتوريين في عدة دول، وقرارات منع نشر وثائق من أرشيف الدولة عن مذابح وعمليات اغتصاب وطرد في حرب 1948 وعن قتل أسرى في الحروب، أو عن عمليات استخباراتية شارك فيها تجار مخدرات. وبالطبع كل ذلك تم باسم الأمن القومي.

ويصل ميلمان إلى بيت القصيد حين يكتب أن مصطلحDeep State أو الدولة العميقة هو من مجال العلوم السياسية ويصف وضعاً تتكوّن فيه مجموعة سرية من شبكات خفية للقوى تعمل بصورة مستقلة خارج القيادة السياسية المنتخبة في الدولة وتحاول الدفع قدماً بأجندتها أو أهدافها. وبرز هذا المصطلح وحصل على الشرعية في عهد ولاية دونالد ترامب في الولايات المتحدة وبدأت تستخدمه أوساط اليمين المتطرف هناك وفي إسرائيل، وأخذ هؤلاء ينشرون نظريات تآمرية كاذبة بهدف ضرب دوائر اليسار والليبرالية وإضعاف القضاء والإعلام والمس بالديمقراطية، غير أن هذا المصطلح في السياق الإسرائيلي يناسب جهاز الأمن الذي يعمل مثل دولة داخل دولة، مثلما سلفت الإشارة.

أمّا عن دور المحكمة العليا في شرعنة احتلال 1967 فحدّث ولا حرج. وهنا يجدر التذكير بأن كتاب المحامية سوسن زهر "قرارات المحكمة العليا الإسرائيلية بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967" الصادر مؤخراً عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، يقدّم صورة موثقة عن هذا الأمر. يشتمل الكتاب على الكثير من الوقائع المرتبطة بالموضوع المبحوث. وهو يشير على نحو خاص إلى أنه على الرغم من اعتبار أراضي 1967 بموجب القانون الدولي الإنساني أراضي محتلة، فإن المحكمة الإسرائيلية العليا لم تعترف مُطلقاً بكونها محتلة وفقاً لاتفاقية جنيف الرابعة، ولم تعترف أبداً بأن إسرائيل "دولة محتلة". بدلاً من ذلك استخدمت المحكمة مصطلحات غايتها التهرّب من الاعتراف بوجود احتلال إسرائيلي. وهكذا، على سبيل المثال، فإن عبارات مثل "قوة محتلة" أو "قوة عظمى محتلة" ترِد على الدوام في قرارات القضاة بصيغة "القوة المسيطِرة" أو "الجهة المُسيطرة". وبدلاً من الإشارة إلى الضفة الغربية كأرض محتلة، استخدمت المحكمة مصطلح "المناطق" أو "المناطق المُدارة" أو الاسم التوراتي "أراضي يهودا والسامرة"، وبدلاً من "احتلال" انتهجت المحكمة استخدام مصطلح "حيازة". وسوّغ أحد رؤساء هذه المحكمة الموقف حيال عدم تطبيق معاهدة جنيف الرابعة على الأراضي المحتلة بكون هذه المعاهدة تسري على أراضٍ احتلتها دولة سيادية شرعية، وبما أنه لم يتم الاعتراف بسيادة الأردن ومصر على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة قبل أن تحتلها إسرائيل في العام 1967، واعتبرت أغلبية دول العالم سيطرتهما هذه غير شرعية، فإن هذه الأراضي لم تكن تحت سيادة أي دولة من قبل، ما يعني أن إسرائيل لا تُعتبر قوة محتلة!

كما يؤكد الكتاب أن رفض الغالبية العظمى من طلبات الالتماس التي قدمها فلسطينيون من أراضي 1967 أو قدمتها منظمات حقوقية باسمهم بالنيابة عنهم، كما يتضح من قرارات الحكم التي أصدرتها المحكمة العليا، يدلّ على أن هذه المحكمة قامت بتوفير ختم/ مسوّغ قانوني لا لتعزيز الاحتلال وإدامته فقط إنما أيضاً لتنفيذ العديد من الإجراءات المختلفة التي تشكل انتهاكات صارخة للقانون الدولي الإنساني، وتعتبر في جزء كبير منها "جرائم حرب"، كما جرى تحديدها وتعريفها في نصوص معاهدة روما. وكما هو معروف، اتخذ المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، مؤخراً، قراراً يقضي بفتح تحقيق جنائي في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في الأراضي المحتلة، بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية (تلفت مؤلفة الكتاب إلى أن هذا القرار هو جزء من خطاب جديد آخذ بالتعزّز سواء بين منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية أو بين العديد من الأكاديميين الذين يسعون لدراسة التطورات السياسية والقضائية بما يتجاوز تعريف قوانين الاحتلال التقليدية). ومن المتوقع أن يشمل التحقيق المذكور الجرائم التي وقعت منذ حزيران 2014 فصاعداً. ولكن ما من شك في أن قرارات الحكم التي أصدرتها المحكمة الإسرائيلية العليا قبل هذا التاريخ وصادقت من خلالها على ممارسات وإجراءات دولة إسرائيل كقوة محتلة، سيكون لها وزن جادّ في فحص الوضع القضائي من وجهة نظر السلطات الإسرائيلية، وستكون لها إسقاطات محلية إسرائيلية على مسألة توفير الحصانة الإسرائيلية المحلية لممارسات الجيش بما يخالف أحكام القانون الدولي.

ومع أن هذا الكتاب المرجعيّ ينفض الغبار عن دور المحكمة الإسرائيلية العليا في توفير غطاء لاحتلال أراضي 1967 وممارسات إسرائيل في الضفة والقطاع، وهذه غايته المحدّدة، فإن من شأنه أيضاً أن يعيد إلى الأذهان ما يُوصف حتى من طرف باحثين إسرائيليين ليبراليين بأنه دور مفقود لهذه المحكمة في كل ما يتعلق بموضوع احترام حقوق الإنسان حتى داخل "الخط الأخضر"، حيث اعتبرت هذه الحقوق وما زالت تعتبر بمثابة عائق أمام الدولة وأمام قدرة أدائها، وكما لو أنها تقوّض "حقوق الدولة"، ما أفضى إلى عدم رسوخ حقوق الإنسان كجزء من مفهوم إسرائيل للديمقراطية، وإلى بقائها هشّة وغير مضمونة إلى حدٍّ كبيرٍ.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات