المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

من الأمور التي أبرزتها الحرب الروسية على أوكرانيا بالنسبة إلى إسرائيل، تمسّك هذه الأخيرة بما يُعرف باسم "قانون العودة" والدفاع عن طابعه العنصري والتشبّث بأمراسه.

هذا الأمر تجسّد أكثر شيء في الإجراءات المتعلقة باستقبال الفارّين من جحيم الحرب في أوكرانيا الذين طلبوا حق اللجوء في إسرائيل، بقدر ما تجسّد في تصريحات المسؤولين الذين كرّروا أهمية القانون والخطورة المترتبة على عدم تطبيقه لمستقبل إسرائيل كدولة يهودية في المشرق العربي، ولا سيما في المنطقة الواقعة بين النهر والبحر، كما فعل مثلاً المسؤول عن سلطة السكان والهجرة التابعة لوزارة الداخلية، تومر موسكوفيتش، في سياق مقابلة أجرتها معه صحيفة "يديعوت أحرونوت" في نهاية الأسبوع الفائت اعتبر فيها نفسه أحد حراس حدود "الدولة اليهودية" التي لا وجود أي مستقبل لها من دون الالتزام الصارم بتطبيق "قانون العودة"، مشدّداً على أن إسرائيل أقيمت بالأساس من أجل هذه الغاية، ولا ينبغي أن تفقد بوصلتها.

و"قانون العودة" الذي سُنّ العام 1950، يتيح لكل يهودي في العالم إمكان الهجرة إلى إسرائيل والحصول على مواطنة إسرائيلية بصورة أوتوماتيكية. كما يمنح هذا الحق أيضاً لابن وحفيد اليهودي ولزوج/ زوجة اليهودي، ولزوج أو زوجة ابن وحفيد اليهودي. وظاهرياً بدا أن نص القانون واضح جداً، لكنه لم يحدد "من هو اليهودي"، ولذلك نشبت في إسرائيل، بمرور الأعوام، خلافات ونزاعات كثيرة بشأن هذه المسألة، أجريت في إثرها تعديلات على "قانون العودة" ذاته. وفي أعقاب قضيتين شهيرتين نظرت فيهما المحكمة الإسرائيلية العليا، جرى في العام 1970 إدخال تعديل على القانون بحيث أصبح ينص لأول مرة على التعريف الديني اليهودي الذي اعتُبر اليهودي بموجبه "مَن وُلد لأم يهودية أو اعتنق الدين اليهودي (تهوّد) ولا ينتمي إلى ديانة أخرى"، وقد أدى هذا التعديل إلى توسيع دائرة من يحقّ لهم الهجرة بحكم "قانون العودة"، إلا أنه وضعت قيود معينة لا تُمنح المواطنة بموجبها حتى لشخص يهودي، وذلك في الحالات التالية: إذا كان طالب المواطنة يعمل ضد الشعب اليهودي؛ إذا كان طالب المواطنة يمكن أن يعرّض إلى الخطر سلامة الجمهور أو أمن الدولة؛ إذا كان لطالب المواطنة ماضٍ جنائي ويمكن أن يعرّض سلامة الجمهور إلى الخطر.
طبعاً يمكن رصد الكثير من الأقوال والتصريحات على غرار ما نطق به موسكوفيتش المذكور أعلاه، مؤداها واحد ووحيد: إن بوابة الدخول إلى إسرائيل ينبغي أن تبقى إلى الأبد تمييزية وتفرّق بين مجموعة وأخرى وبين إنسان وآخر، نظراً إلى أن حاجتها إلى استمرار بقائها دولة قومية للشعب اليهودي تستوجب أكثرية يهودية!

بناء على هذا، ليس مبالغة القول إن الأعوام تلو الأعوام تمرّ وحال العنصرية في إسرائيل لا تتبدّل. وليس هذا فحسب إنما أيضاً تتفاقم وتطول فئات أخرى غير المواطنين العرب، الذين كانوا ولا يزالون ضحاياها الرئيسيين. فهذا ما أكدته مؤخراً، وإن بالتلميح وليس بالتصريح، عضو الكنيست السابقة من أصل روسي كسينيا سفيتلوفا من حزب "الحركة" المنحل (بزعامة الوزيرة السابقة تسيبي ليفني، المنشقة عن حزب الليكود ولاحقاً عن حزب "كديما")، وذلك في سياق مقابلة أجرتها معها صحيفة "هآرتس" قبل أكثر من عام في مناسبة صدور كتاب جديد لها بعنوان "على كعبٍ عالٍ في الشرق الأوسط"، تحكي فيه انطباعاتها عن أحداث مستجدة في عدة دول عربية من خلال قيامها بتغطيتها مباشرة كمراسلة لإحدى قنوات التلفزة الإسرائيلية على مدى أعوام طويلة. وتشير سفيتلوفا، من ضمن أمور أخرى، إلى العنصرية التي واجهتها بشكل شخصي لمجرّد كونها من أصل روسي وارتباطاً بالفكرة العامة السائدة في دولة الاحتلال بأن معظم الروس الذين هاجروا من الاتحاد السوفييتي السابق في تسعينيات القرن العشرين الفائت ليسوا يهوداً أصلّاء، وبناء على ذلك فحقوقهم تبقى منقوصة في دولة تعرّف نفسها دستورياً بأنها يهودية، وهي تجزم بأنها لم تعايش في حياتها عنصرية كتلك التي عايشتها خلال أعوام عضويتها في الكنيست الإسرائيلي.

يتعيّن أن نسجّل أن سفيتلوفا تستعمل كلمة عنصرية كي تصف في الوقت عينه سياسة إقصاء آخذة بالتصاعد في الآونة الأخيرة تسم العلاقات بين فئات السكان اليهود في دولة الاحتلال وتعكس، بكيفية ما، أطرافاً مُحدّدة في ما يمكن اعتبارها بمثابة صيغة جديدة للتصدّع الطائفي، جعلت من فئة اليهود المهاجرين من دول الاتحاد السوفييتي السابق ومن ثم فئة المهاجرين اليهود من أثيوبيا تشكلان أبرز أطراف هذا التصدّع، في حين وقف في صلب الصيغة القديمة التصدّع الطائفي بين اليهود الغربيين الأشكناز واليهود الشرقيين السفاراديم. تُضاف إلى هذا سياسة إقصاء ناجمة عن مفهوم جديد صار إلى رسوخ في عهد بنيامين نتنياهو في رئاسة الحكومة الإسرائيلية، بين الأعوام 2009-2021، وبموجبه كل من هو ضده عدو يجب إسكاته، وكل من هو معه يمكن مدّ اليد إليه حتى لو كان من "معسكر الأعداء"!

غير أن سفيتلوفا من خلال إشارتها هذه تغمز أيضاً من قناة عقيدة الحركة الصهيونية القائمة على العنصرية أصلاً، فتكشف أنها في أثناء دراستها الجامعية بدأت تدرك شيئاً فشيئاً أن القصة التي اختلقتها تلك الحركة وثقفت عليها كل الأجيال الإسرائيلية المتعاقبة، ومؤداها أن البلاد التي جاء اليهود إليها - فلسطين- كانت خالية وعاشوا فيها بهدوء وسكينة إلى أن هاجمهم القتلة العرب العام 1948، هي غير دقيقة بتاتاً في أحسن الأحوال. وعندها بدأت تعتقد بلزوم معرفة الحيّز الذي تحيا فيه وتعلم اللغة العربية بدافع الفضول والشغف وليس كلغة عدوّ تُستعمل لإملاء الأوامر في الحواجز العسكرية. وفي عرفها يشكّل كتابها محاولة لتقديم معرفة حول الإقليم من منطلق التعويل على أن المعرفة تكبح خطر الجهل، خصوصاً في أوساط "أناس وصلوا إلى هنا مع أفكار مسبقة معششة في رؤوسهم ولا تستند إلى أي معرفة"، كما تنعت جلّ الإسرائيليين.

وتدلّ شهادتها بخصوص اليهود الروس على مبلغ غلواء سياسة الإقصاء التي ينتهجها الحكم الإسرائيلي، بما يدفع أمثالها إلى إطلاق نبرة احتجاج عالية.

بيد أنه بموازاة كل ما تقدّم تظل في الخلفية حقيقة لا يجوز عدم استحضارها وهي أن من أبرز مظاهر تفاقم العنصرية الإسرائيلية خلال الأعوام الأخيرة سنّ "قانون القومية" الإسرائيلي (2018) الذي قيل فيه الكثير والكثير، ومنه أنه رسّخ المواطنة على أساس الدين، وبه تحوّلت إسرائيل إلى دولة شعب مُحدّد بتعابير دينية. ومع أنه موجّه بالأساس ضد السكان الفلسطينيين فإن فيه جانباً يتعلق بالسكان اليهود أيضاً، كون الدولة تمنح جناحاً صغيراً من هذا الشعب المحدّد بتعابير دينية- جناح اليهود الأرثوذكس- الحق في السيطرة على تصنيف الانتماء الديني. وهو موضوع يحتاج إلى متابعة منفردة في ظلّ عدد من التطورات المستجدّة المتعلقة به.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات