المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
المشهد الانتخابي 2021: تفكيك المفكك.
المشهد الانتخابي 2021: تفكيك المفكك.

للمرة الرابعة خلال عامين تذهب إسرائيل الى انتخابات تشريعية، حيث يأمل المتنافسون أن يتمكنوا هذه المرة من إنجاز ما فشلوا في إنجازه سابقاً. وتتنافس في الانتخابات المقبلة للكنيست 39 قائمة انتخابية، من بينها 14 قائمة يمكن، بحسب الاستطلاعات، أن تتجاوز نسبة الحسم. وعلى خلاف الانتخابات السابقة تجري هذه الانتخابات في ظل تفكك أكبر جسم معارض هو "أزرق أبيض" وتفكك القائمة المشتركة بعد انشقاق تيار الحركة الإسلامية الجنوبية (القائمة العربية الموحدة) بقيادة منصور عباس، وفي ظل عدم وجود قائمة معارضة قوية بل عدة قوائم لا تشكل أي منها حالة معارضة مهددة لوحدها.

وتأتي هذه الانتخابات على خلفية ما صار يُعرف إسرائيلياً بـ "الأزمة السياسية"؛ التي بدأت غداة الانتخابات للكنيست الحادي والعشرين التي جرت في 9 نيسان 2019 بعدما فشل نتنياهو في تشكيل ائتلاف يميني ضيق في إثر رفض أفيغدور ليبرمان الانضمام لحكومته. وتتجلّى في دخول إسرائيل في دوامة انتخابات متكررة

دون وجود أي أفق واضح لكيفية الخروج منها. وتنعكس الأزمة في عدم قدرة أي طرف على حسم الانتخابات أو تشكيل ائتلاف حكومي ثابت.

وكانت قد تشكلت عشية انتخابات الكنيست الحادي والعشرين قائمة "أزرق أبيض" التي أطلق عليها يومها اسم حزب الجنرالات. وقد شكّلت هذه القائمة أكبر قائمة معارضة لليكود في حينه واستطاعت أن تتساوى معه في عدد المقاعد (35 مقعداً لكل منهما) في انتخابات نيسان 2019، لكنها فشلت كما فشل نتنياهو في تشكيل ائتلاف حكومي، وهو ما أدى إلى الذهاب إلى انتخابات ثانية في 17 أيلول 2019 لتتكرّر نفس الأزمة ويتم مرة أخرى الذهاب إلى انتخابات ثالثة في 3 آذار 2020. لم تُحدِث الانتخابات الثالثة اختراقاً في الانسداد الانتخابي ولا انفراجاً في الأزمة السياسية، غير أن دخول عامل الكورونا على المشهد وحالة الضبابية التي أحاطت بانتشاره، لعبت لصالح نتنياهو الذي تمكّن من الضغط على غانتس من أجل الانضمام إلى حكومة طوارئ "لمواجهة الحالة المستجدّة" التي تسببت بها جائحة الكورونا. وقد أدّى انضمام غانتس إلى شطر قائمة "أزرق أبيض" (التي احتفظت باسمها)، ومن ثم تفكّكها واختفائها عن المشهد الحزبي. وجاء اتفاق نتنياهو- غانتس بعد أن تم وبشكل غير مسبوق تغيير قانون أساس الكنيست واختلاق مفهوم "رئيس حكومة بديل" إضافة إلى إدخال تعديلات أخرى ترتبط بتنظيم الانتخابات بعد ثلاث سنوات وليس أربع سنوات، وتضمّن اتفاق إقامة حكومة الوحدة بين غانتس ونتنياهو أيضاً مبدأ التناوب والمناصفة، وشمل الاتفاق المصادقة على الميزانية لعامي 2020-2021 مباشرة بعد تنصيب الحكومة، وحدّد الاتفاق أن يتسلّم نتنياهو رئاسة الحكومة في النصف الأول من المدة، ثم يليه غانتس بعد 18 شهراً (بعد عام ونصف العام).

لم تمض أيام على توقيع الاتفاق حتى بدأت الخلافات والصراعات والمناكفات تطغى على العلاقات بين أعضاء الليكود و"أزرق أبيض". وبدا واضحا من سير الائتلاف أن نتنياهو ومن ورائه أعضاء حزب الليكود لا يوفرون فرصة من أجل وضع العقبات أمام وزراء "أزرق أبيض". لم يفاجئ هذا السلوك أيا من المراقبين الذين اعتبروا منذ البداية أن نتنياهو تمكن من التلاعب بغانتس وتضليله من أجل تفكيك أكبر جسم معارض، وفي 23 كانون الأول ومع عدم المصادقة على الميزانية وبعد مماطلة مستمرة من قبل الليكود، تم حل الكنيست بشكل تلقائي لتذهب إسرائيل إلى انتخابات جديدة.

انعكاسات الأزمة واسقاطاتها

تعكس الأزمة الانتخابية ظهور حالة غير مسبوقة من الاستقطاب والاحتقان الداخلي، وتتجلّى في انقسام المشهد السياسي عمودياً بين معسكرين مركزيين متوازيين ينتظمان ظاهريا وفق موقفهما من نتنياهو وليس وفق مبادئ سياسية أو قضايا أيديولوجية؛ معسكر داعمي نتنياهو ومعسكر معارضيه. وتختلف أسباب الانضواء تحت معسكر معارضي نتنياهو ما بين أسباب شخصية وسياسية وأيديولوجية تقاطعت معاً وأصبح من الصعب الفصل فيما بينها. ويضم معسكر داعمي نتنياهو بشكل أساس، إضافةً الى الليكود، حزب شاس ويهدوت هتوراة وتحالف المستوطنين، فيما يضم حزب معارضي نتنياهو "يوجد مستقبل" (يش عتيد) بقيادة يائير لبيد، "أمل جديد" (تكفا حدشا) بقيادة جدعون ساعر الذي أقيم مؤخراً بعد أن انشقّ الأخير عن الليكود، قائمة "أزرق أبيض" بقيادة بيني غانتس، "إسرائيل بيتنا" (يسرائيل بيتينو) بقيادة أفيغدور ليبرمان، وكلا من قائمة ميرتس وحزب العمل، وتتموضع في هذه الانتخابات قائمة "يمينا" التي يقودها نفتالي بينيت، والقائمة العربية الموحدة (التي تمثل تيار الحركة الإسلامية الجنوبية) بقيادة منصور عباس، في منطقة رمادية بين المعسكرين بعد أن سعى بينيت إلى إخراج نفسه من "دائرة" الداعم المفهوم ضمناً لنتنياهو وطرح نفسه كمرشح لرئاسة الحكومة، فيما أخرج منصور عباس قائمته من دائرة معارضة نتنياهو التلقائية وفتح الباب أمام التعاون معه، وتتموضع القائمة المشتركة في المعسكر المعارض لنتنياهو دون أن تُعلن موقفا واضحا من التوصية أو عدمها على يائير لبيد في حال تكليفه بإقامة الائتلاف. وإضافة إلى بينيت يطرح كل من جدعون ساعر ويائير لبيد نفسيهما كمرشحين لرئاسة الحكومة، علماً أن فرص أي منهما لتشكيل ائتلاف دون التوصل إلى اتفاق اقتسام وتبادل لرئاسة الحكومة تبدو ضئيلة جداً.

يربط أفيغدور ليبرمان مثلا معارضته لنتنياهو بأسباب أيديولوجية ترتبط بموقفه من علاقة الدين والدولة ورفضه لما يسميه خضوع نتنياهو لشروط الأحزاب الحريدية، أما جدعون ساعر الذي انشق عن الليكود فيربط معارضته لنتنياهو برفض نهجه الاستبدادي بالحزب وفي الحالتين تتقاطع العوامل الشخصية والصراعات مع نتنياهو مع الأسباب التي يعلنها ساعر وليبرمان، ويتقاسم معهم جزء من الصراع الشخصي نفتالي بينيت الذي بات يطرح نفسه بديلا يمينيا لنتنياهو. وفي كل الحالات شكّلت محكمة نتنياهو وما يحيطها من صراعات حول مدى صلاحية تقلّد شخص متهم بقضايا فساد منصب رئيس الحكومة محورا مهما وأساسيا في الأزمة السياسية وفي المواقف المختلفة؛ حيث يخضع نتنياهو لمحاكمة جنائية بثلاثة ملفات تضم تهما بالفساد وخيانة الأمانة وتلقي الرشوة وفي حال ثباتها يُمكن أن ينتهي به الأمر إلى السجن. يدّعي معارضو نتنياهو أنه لا يمكنه أن يكون رئيس حكومة لعدة أسباب؛ أولاً بسبب ما ينطوي عليه ذلك من عطب أخلاقي، إذ لا يمكن أن يكون رئيس الحكومة الذي يجب أن يشكّل نموذجاً للمواطن من يخضع لمحاكمة ومتّهم بقضايا فساد ويستمر بالقيام بدوره كرئيس للحكومة. ثانياً بسبب المسّ بالحوكمة؛ إذ يرى المعارضون أن نتنياهو غير قادر على تحييد محاكمته عن دوره الرسمي وقراراته، بل يرون أن كل تحالفاته وسلوكه يخضع لحساباته الشخصية التي ترتبط برغبته بالإفلات من المحكمة وأن ما يهم نتنياهو في المرحلة الحالية هو نتنياهو فقط ولذلك لا يمكن الثقة به. وثالثاً البعد العملي؛ إذ أن نتنياهو سيكون مُضطّراً للتواجد ثلاث مرات في الأسبوع في قاعة المحكمة التي من المقرّر أن تبدأ في نيسان 2021 وهو ما يعني أنه سيكون مشغولا بشكل كبير بقضيته الشخصية وسيأتي ذلك على حساب دوره كرئيس للحكومة. وتعبّر حركة الاحتجاجات الواسعة التي تشهدها إسرائيل منذ إعلان إقامة الائتلاف بين غانتس ونتنياهو في نيسان 2020 عن هذا الخطاب، وتقود هذه الاحتجاجات حركة الرايات السوداء التي تنظم مظاهرات أسبوعية في مفارق الطرق والمدن ومن أمام بيت نتنياهو في القدس وانضمت لها حركات مختلفة منها أيضاً من تضرّرت من انتشار جائحة الكورونا، وتتفق جميعها على مطالبة نتنياهو بالاستقالة.

يدّعي مؤيدو نتنياهو بالمقابل أن المحكمة هي محاولة للالتفاف على الديمقراطية والإطاحة بنتنياهو من قِبل المؤسسة العميقة، ومن خلفه الفئات التي يُمثّلها، ويطرح المدافعون عنه القضية في إطار الصراع بين إسرائيل الأولى (الأشكنازية اليسارية) التي يدّعون أنها ما زالت تتحكّم في مفاصل مؤسسات الدولة (محكمة العدل العليا، المستشار القانوني، جهاز الشرطة) وإسرائيل الثانية (اليمينية والشرقية) والتي تضم الفئات المهمشة. ضمن هذا السياق، وبالارتباط بمحكمته، يُدير نتنياهو وداعموه حملة شعواء ضد المؤسسة القضائية والشرطية؛ حيث تبنّى نتنياهو استراتيجية خطابية شعبوية تقوم على موضعة نفسه ممثلاً للشعب مقابل المؤسسة، واتّهام التيار المُعارض له بمحاولة سرقة إرادة الشعب (الذي يمثّله هو) واتهام مؤسسات الدولة بالتعاون مع النخب اليسارية من أجل الإطاحة به والإطاحة بحكم الليكود.

شكّلت استراتيجية نتنياهو الشعبوية هذه، ومن وجهة نظر معارضيه، مسّا عميقا بأحد أهم المبادئ التي تقع في لبّ النظام الإسرائيلي وتميزه وتشكل ضمانة للمراقبة والمساءلة والحكم الرشيد التي تسمى "المملختيوت/ الدولانية" (statisim) التي صكّها بن غوريون بعد إقامة إسرائيل والتي يتم وفقها تحييد مؤسسات الدولة وكل ما يتعلّق بشكلها وجوهرها وأدوار أجهزتها عن الحزبية والأهواء والمصالح الشخصية. ويشير معارضو نتنياهو إلى أن الأخير ضرب بعرض الحائط فكرة الدولانية هذه من خلال التعرّض بشكل ممنهج لموضوعية مؤسسات الدولة أو التشكيك بنواياها وأسبابها ووضعها بذلك في قلب الصراعات السياسية، ومسّ بالقيم الديمقراطية من خلال إعادة شرعية حركة "كاخ" الإرهابية وتحويلها إلى شريك سياسي ممكن في ائتلافه الذي يمكن أن يُشكّله.

ورغم أن الأزمة الانتخابية التي تعيشها إسرائيل تبدو نتاجاً لصراعات آنية مرتبطة بشكل أساس بشخص نتنياهو وتهم الفساد الموجّهة له، إلا أن قراءة معمّقة للمشهد الإسرائيلي وللخطاب المرافق لها تُظهر أن الأزمة هي انعكاس لمجموعة من المتغيرات والعوامل العميقة والبنيوية التي تخمّرت في العقود الفائتة ووصلت ذروتها في هذه الأزمة. ويمكن تلخيص أهمها بالتالي:

1. التحولات الديموغرافية والاجتماعية؛ التي ترتبط ببنية المجتمع الإسرائيلي كمجتمع مهاجرين وتنعكس في انتهاء هيمنة جيل المؤسسين العلماني- الأشكنازي- العمالي وضمور قوته المستمر، مقابل صعود قوة الجماعات التي كانت تُشكّل هوامش وأطراف نظام الهيمنة من شرقيين، وسكان مدن التطوير وحريديين ومستوطنين ومتدينين ومواطنين فلسطينيين، وفي الوضع المستجدّ لم تعد هناك كتلة تعتبر أغلبية كما كان مثلاً مع إقامة إسرائيل، هذا الواقع تغير بشكل مثابر وتدريجي مع الهجرات المختلفة بدءاً من الدول العربية والإسلامية وثم من دول الاتحاد السوفييتي السابق لاحقاً؛ تزايد حجم كتلة الحريديين بسبب ارتفاع نسبة الخصوبة؛ وظهور كتلة المستوطنين بعد احتلال 1967 وتضخّمها المستمر. في هذا السياق، تفتّت كتلة الأغلبية الاشكنازية أولاً والعلمانية ثانياً وظهرت جماعات متمايزة أيديولوجيا وثقافياً تحمل وجهات نظر متباينة. وقد عبّر رئيس إسرائيل رؤوفين ريفلين عن هذا التغيير بشكل واضح فيما صار يعرف باسم خطاب الأسباط الذي ألقاه في العام 2015 في مؤتمر هرتسيليا، حين لخّص أنه لم يعد هناك أغلبية في إسرائيل بل أربع "أسباط"؛ يحمل كل منها وجهة مغايرة تماماً عن الأخرى حول النظام الاجتماعي والسياسي، ولا يلتقي أعضاؤها في أي تجربة "مشتركة" ويتعلمون في مدارس منفصلة ووفق مناهج مغايرة. تنعكس هذه الصورة في ديموغرافيا الصفوف الأولى في المدارس الابتدائية، وبحسب معطيات مركز البحث والمعلومات التابع للكنيست حول التوزيع الديموغرافي للطلاب في 2018/2019، كان 20.3% من تلاميذ الصف الأول في المدارس حريديين، مقابل 14.5% في 2000، وشكّل التلاميذ العرب 22.9% من المجموع الكلّي، فيما درس 15.3% في المدارس الدينية القومية و41.5% في المدارس الرسمية العلمانية. ومقابل هذا التقسيم، فإن المجموعة العلمانية تنقسم بدورها بين يمين ويسار ووسط، وفيما يصوت الحريديون بشكل شبه كامل لأحزابهم، يصوت المتدينون القوميون لأحزاب الاستيطان والليكود، بالمقابل يصوت العرب عادةً للقوائم العربية. يعني هذا فعلياً عدم وجود كتلة مهيمنة ومسيطرة تشكل الأغلبية من جهة، ويشير إلى وجود أغلبية للتيار اليميني بحكم التغيير الديموغرافي، نظراً لانضواء الحريديين والمتدينين تحت جناح اليمين، ويشير هذا أيضاً إلى أن إسرائيل ستستمر بالاتجاه نحو مزيد من تعمّق سيطرة اليمين وبالتالي ترسيخ مساعيه الاستيطانية. كما يشير أيضا إلى أن إسرائيل ستذهب نحو مزيد من الاستقطاب بين بقايا النخب العلمانية الوسطية واليسارية الى جانب العرب وبين تيارات مجتمعية يمينية ودينية واستيطانية.

2. انتقال الحريديم من أحزاب فوق أيديولوجية وقطاعية الى أحزاب قطاعية يمينية؛ وينعكس هذا في تحالف أحزاب الحريديين مع نتنياهو وتحولهم إلى جزء أساس من معسكره بعد أن كانوا حتى سنوات التسعينيات يتنقلون بين ائتلافات الليكود والعمل وفق ما يحققون من مصالح لجمهورهم، هذا الوضع تغير تدريجياً، ويمكن أن نعزوه جزئياً إلى الصراع العلماني الديني خاصة المواجهة بين تيار "يوجد مستقبل" الذي رفع راية تجنيد الحريديم من جهة، وإلى سياسات التوطين الحكومية للحريديين من جهة أخرى، حيث تم في هذا الإطار بناء مستوطنات خاصة بهم بحيث باتوا يشكلون اليوم أكبر كتلة استيطانية (حوالي 35%). إلى جانب ذلك؛ فقد أسهم صعود قوة المتدينين الحريديم والتيار الديني القومي في زيادة معسكر اليمين من جهة، وفي تحويل الشرخ الديني العلماني الى شرخ أساس في المشهد الإسرائيلي من جهة أخرى.

3 . طبيعة النظام الانتخابي المبني على التمثيل النسبي؛ وفق النظام الانتخابي الإسرائيلي يمكن لأي حزب أو قائمة تتجاوز نسبة الحسم، والتي تساوي 3.25% من الأصوات الصالحة، أن تدخل البرلمان، وهو ما يعني كثرة الأحزاب الصغيرة والمتوسطة وعدم تناسب قدرتها على التأثير مع حجمها الحقيقي. وإذا ما أخذنا بالحسبان أن أي ائتلاف يتشكّل يجب أن يحظى على الأقل بـ 61 مقعداً من 120 وأن الأحزاب الكبرى لم تعد كبرى بالمعنى الحقيقي، فإننا نكون أمام واقع يمكن لأي حزب مهما بدت مواقفه غريبة أو متطرفة أن يقرر مصير الدولة.

السياق العام الذي تجري فيه الانتخابات

تأتي الانتخابات الإسرائيلية على خلفية صيرورات متناقضة في المشهد الإسرائيلي تظهر فيها إسرائيل على المستوى الدولي كقوة إقليمية من جهة، ومن جهة أخرى تواجه أزمة داخلية سياسية عميقة. وترتبط صورة إسرائيل الخارجية بعوامل مختلفة منها تفوقها العسكري في سياق إقليم هش مُتنازع ومُتحارب وعدم وجود إزعاج حقيقي لسياستها الاستعمارية والاحتلالية في ظل انقسام فلسطيني ووجود سلطة ضعيفة لا تشكل تحديا حقيقيا. وقد عزّز وجود إدارة دونالد ترامب في السنوات الأربع الماضية وتماثلها المُطلق مع حكومة نتنياهو ووجهتها اليمينية الاستيطانية، صورة إسرائيل كقوة إقليمية تتصرّف تجاه محيطها وتجاه الفلسطينيين دون أي ضوابط أو محددات أو رادع، لكن هذه الصورة تتناقض مع الصورة الداخلية وحالة الانسداد والاستقطاب العميق التي تسود المشهد الإسرائيلي والأزمة السياسية المستمرة فيه منذ عامين. وينعكس هذا التناقض في القراءات الاستراتيجية التي نشرها معهد الأمن القومي الإسرائيلي للعام 2020 والتي خلصت إلى أنه ونتيجة تقاطع جائحة الكورونا وإسقاطاتها والأزمة السياسية المستمرة، فإن إسرائيل تواجه خطراً استراتيجياً داخلياً يُمكن أن يؤدي إلى إضعاف مؤسسات الدولة وفقدان الثقة بها، وبحسب هذا التصوّر، فإن "النظام الإسرائيلي الداخلي" تحول ولأول مرة إلى مصدر للتهديدات والمخاطر التي قد تمسّ بالأمن القومي وتنخر "المناعة" الجماعية.

وعلى عكس الانتخابات السابقة، تأتي هذ الانتخابات على خلفية انتهاء عهد ترامب حليف نتنياهو، وصعود صعود إدارة بايدن التي تُظهِر بروداً واضحاً تجاه نتنياهو، حيث يشكل سقوط ترامب خسارة سياسية وشخصية لنتنياهو؛ إذ لعب ترامب خلال الدورات الانتخابية الثلاث الماضية دور الصديق والحليف الأكبر لنتنياهو، وتجنّد بشكل واضح لصالح نتنياهو عبر تقديم "العطايا والهدايا" من قبيل الاعتراف بالسيادة على الجولان، وطرح صفقة القرن في أوج المعارك الانتخابية من أجل تعزيز فرص نتنياهو في الفوز. كما لعب دوراً حاسماً في إنجاز اتفاقيات التطبيع- "اتفاقيات أبراهام"- التي شكّلت نجاحاً لنهج نتنياهو من حيث قلب معادلة التسوية الإقليمية، من الأرض مقابل السلام إلى السلام مقابل التطبيع، وتذييل القضية الفلسطينية في العلاقات الإقليمية بعد أن كان حلّها يعتبر شرطاً لاتفاقيات السلام والتطبيع كما جاء في المبادرة العربية للسلام.

ومع خسارة نتنياهو لترامب، والإسقاطات المترتبة على ذلك خاصة فيما يتعلق بانتهاء عصر التماثل المطلق مع الإدارة الأميركية، يسعى نتنياهو إلى الاستفادة من مصدر قوة بديل لتعزيز صورته كقائد استثنائي، وهو دور من نجح في توفير لقاح فايزر وأسهم في وضع إسرائيل على خطى الخروج من الجائحة قبل غيرها من دول العالم، وقد وضعت حملة التطعيمات التي بدأت إسرائيل بتنفيذها منذ كانون الأول 2020 إسرائيل في مقدمة الدول الغربية في مواجهة الجائحة. يُشار إلى أن الاتفاق مع فايزر جاء بعد تحدّث نتنياهو مع رئيس شركة فايزر ألبرت بورلا والاتفاق على أن يتم توفير اللقاح لإسرائيل- رغم أنها لم تكن من الدول التي تعاقدت مسبقاً مع الشركة- في مقابل استخدامها كمختبر تجريبي لنجاعة التطعيم وتطويره، وفي هذا السياق، هناك من ادّعى أن نتنياهو استعاض عن خسارة ترامب بألبرت بورلا، رئيس فايزر، من أجل تعزيز حملته الانتخابية.

اختلاط المشهد الحزبي

إلى جانب مستجدّات المشهد الدولي من حيث انتهاء عهد ترامب وصعود إدارة بايدن؛ اتفاقيات التطبيع ومعانيها؛ ومسعى نتنياهو لاستخدام دوره في توفير اللقاح لتعزيز حملته الانتخابية، تجري هذه الانتخابات على خلفية مستجدّات مهمة في المشهد الحزبي- السياسي الداخلي ستلعب دوراً في تحديد نتائج الانتخاب. أهم هذه المستجدات تتمثّل في تفكّك تحالفات مركزية وصعود قوى منافسة من اليمين، وإعادة تموضع بعض القوى بما يخلط الأوراق تماماً.

بالنسبة للأولى، فإن أهم التحالفات التي تفككت هي "أزرق أبيض"، والقائمة المشتركة بعد خروج القائمة الموحدة برئاسة منصور عباس منها، وانفصال جدعون ساعر عن الليكود وخوض الانتخابات بقائمة يمين منافسة (أمل جديد). في المقابل تخوض عدّة أحزاب الانتخابات وحدها ما يضعها في دائرة خطر عدم تجاوز نسبة الحسم وهو ما سيؤثر بشكل مباشر على فرص تشكيل ائتلاف حكومي. وتقع في دائرة الخطر هذه كل من أحزاب ميرتس، "أزرق أبيض"، القائمة الموحدة من جهة، وقائمة التحالف الاستيطاني الذي يجمع قائمة بن غفير الكهانية وسموتريتش الذي يُحسب على الاستيطان الديني المتزّمت (الحردليم *).

أهم مستجدات المشهد الانتخابي

1. تفكّك تحالف "أزرق أبيض" وانفصال ساعر عن الليكود: لاحقاً لتوافق غانتس على الدخول في ائتلاف حكومي مع نتنياهو بعد الانتخابات الأخيرة، تفكّك تحالف "أزرق أبيض" الذي شكل أكبر جسم معارض وأكثر القوائم تهديداً لحكم نتنياهو. وقد جاء تفككه بعد انسحاب غابي أشكنازي وموشيه يعلون من المشهد السياسي، وعودة قائمة "يش عتيد" بزعامة يائير لبيد لخوض الانتخابات وحدها، إضافة إلى خوض "أزرق أبيض" بزعامة بيني غانتس الانتخابات منفرداً. وفيما تتوقع الاستطلاعات المختلفة أن تتحول "يش عتيد" إلى أكبر الأحزاب في المعارضة وهناك من يتوقع أن تحصل على 18-20 مقعداً، فإن الاستطلاعات تتوقع ألا تحصد قائمة "أزرق أبيض" بزعامة غانتس أكثر من ستة مقاعد أو حتى ألا تعبر نسبة الحسم. ومقابل تفكّك "أزرق أبيض" يخوض جدعون ساعر الذي انشقّ عن الليكود الانتخابات في قائمة تنافس نتنياهو من يمينه، ويمثّل ساعر التيار اليميني الأيديولوجي الصلب في الليكود ومن المتوقع أن يحصل على مقاعده من مصوتي اليمين الذين يُعارضون نتنياهو لأسباب تتعلّق بنهجه وبكونه يخضع لمحاكمة في قضايا فساد. بالإضافة إلى ذلك، يطرح نفتالي بينيت من خلال قائمة "يمينا" نفسه بوصفه مرشحاً لرئاسة الحكومة، ويرفض الالتزام بالذهاب إلى ائتلاف يقوده نتنياهو. ويمكن التلخيص أن من أهم ارهاصات تفكّك "أزرق أبيض" وإقامة "أمل جديد" وخروج "يمينا" من معسكر نتنياهو، وظهور قوى معارضة لنتنياهو متوزعة على تكتلات صغيرة ومتوسطة، تراجع قوة الليكود مع توقع بقائه الحزب الأكبر.

2. في حين تميزت جولات الانتخابات الثلاث السابقة بوجود منافسة على رئاسة الحكومة بين مرشحين اثنين هما غانتس ونتنياهو، فإن هذه الانتخابات تتميز بوجود عدّة مرشحين، كل يطرح نفسه بديلا لنتنياهو دون أن يكون بالفعل لأي منهم رصيد انتخابي يُمكّنه وحده من تهديد حكم نتنياهو؛ حيث يطرح كل من يائير لبيد الذي يعتبر ممثلاً للوسط و"اليسار"، ونفتالي بينيت (ممثل اليمين الاستيطاني)، وجدعون ساعر (ممثل اليمين الصلب الجابوتنسكي)، أنفسهم كمرشّحين منافسين لرئاسة الحكومة يرغبون في استبدال نتنياهو. وهذه هي أول مرة يتم فيها تحدي نتنياهو من منافسين من اليمين بشكل مباشر، وطالما أن الصراع الأساس في هذه الانتخابات يدور بين معارضي ومؤيدي نتنياهو وليس حول أسئلة مرتبطة بقضايا أيديولوجية، فإنه من ضمن السيناريوهات الممكنة هو أن تتحالف قوائم من اليمين والوسط واليسار من أجل استبداله، ويرتبط الأمر بشكل كامل هنا بحجم ما يُمكن أن تحقّقه هذه التكتلات وبإمكانية تجاوز أحزاب كميرتس و"أزرق أبيض" نسبة الحسم.

3. تفكّك المشتركة؛ خروج الموحدة وفتح آفاق لتحالفها مع نتنياهو: على الجانب الآخر من المشهد خلط تفكّك القائمة المشتركة بعد انسحاب القائمة الموحدة منها الأوراق في مشهد التحالفات الممكنة. إذ أن التوقعات من الكتل العربية سواءً في قائمة مشتركة أو أحزاب منفصلة إما أن تمتنع عن التوصية على أحد المرشحين أو توصي في حالات معينة لصالح المعارضة وهو ما حدث حين أوصت المشتركة في الانتخابات السابقة على غانتس لتشكيل الحكومة، وقد جاءت التوصية هذه نتيجة لرغبة المشتركة في المساهمة في إسقاط نتنياهو، وبمثابة اختيار الأقل سوءاً.

لقد قلب إعلان القائمة الموحدة المشهد رأساً على عقب مع إبداء رغبتها بتبني نهج "جديد" يعتمد على فتح الباب أمام التعاون مع نتنياهو بحجّة تحقيق إنجازات للمواطنين العرب بغضّ النظر عن القضايا القومية، معلّلةً ذلك بأن الموحدة ليست في جيب أحد، كما يستتر خطاب انسحاب الموحدة خلف قضايا مرتبطة بمعارضتها موقف المشتركة من قضايا اجتماعية كدعم بعض أعضائها لقانون يمنع علاجات التحويل لجماعة الميم (LGBT). ويعلّل عدّة مراقبين قطع منصور عباس رئيس القائمة الموحدة الخطوط الحمراء التي التزمت بها القوائم العربية برفض التعاون مع اليمين بوجود تفاهمات مع نتنياهو. وفي حال نجحت القائمة الموحدة في عبور نسبة الحسم، فإن دعمها لحكومة برئاسة نتنياهو كما يبدو لم يُعد مجرّد تكهنات خيالية، ويمكن أن يؤدي إلى أن تقام حكومة يمين ولأول مرة بدعم قائمة عربية؛ هذا الدعم لن يتم بالضرورة من خلال انضمام أو تصويت الموحدة على ائتلاف بزعامة نتنياهو، بل امتناعها عن التصويت ضده. وهنا، لا بدّ من التوضيح أن إقامة الائتلاف الحكومي يشترط أغلبية عادية ولكن إسقاط الحكومة بتصويت نزع الثقة يشترط أغلبية 61 عضو على الأقل، في هذا السياق، إذا كان للموحدة 4 مقاعد وتمكّن نتنياهو من تأمين 57 صوتا لحكومته فإن مجرد عدم تصويت الموحدة ضد الائتلاف يعني إنجاحه.

4. انتقال نتنياهو من استراتيجية التحريض على العرب إلى مغازلتهم: تميّزت الحملات الانتخابية السابقة لنتنياهو بالتحريض الشديد ضد المواطنين العرب ونزع شرعيتهم ومهاجمة القائمة المشتركة، في المقابل تتميز حملة نتنياهو الحالية بالانتقال من استراتيجية التحريض التي تهدف لرصّ اليمين وراءه عبر موضعة نفسه بمواجهة التهديد الذي يمثّله المواطنون العرب واتهام كل من يعارضه بأنه يساري (بما في ذلك ليبرمان) إلى تبنّي استراتيجية مغازلة الصوت العربي من خلال القيام بزيارات متتالية إلى قرى ومدن عربية وإعلان أنه لا يعادي العرب بل يعادي تيارات معينة تقف ضد "دولة إسرائيل"، وحوّل التواصل مع القائمة الموحدة إلى مطية للتدليل على أنه لا يعادي القيادات العربية. وتشير القراءات المختلفة إلى أن نتنياهو استنتج أن استمرار استراتيجية التحريض على العرب يأتي بثمار عكسية كما حدث في الانتخابات الأخيرة؛ حيث أسهم تحريضه بارتفاع نسبة التصويت عند العرب وحصول القائمة المشتركة على 15 مقعداً، لذلك، فان استراتيجيته الحالية تعتمد على إضعاف القوة التمثيلية للعرب من خلال: أولا، تفكيك المشتركة وقد نجح في ذلك عبر التواصل مع القائمة الموحدة من خلال منصور عباس؛ ثانياً، خفض نسبة التصويت عند العرب عبر الامتناع عن التحريض؛ وثالثاً، الحصول على مقعد (وهناك من يعتقد اثنين) لصالح الليكود من الأصوات العربية عبر الوعود التي يوزعها من حيث مواجهة العنف الذي يشكّل أكبر قضية حارقة تقلق المصوت العربي ورفع الميزانيات والاستثمار بالاقتصاد. من المهم الاشارة هنا إلى أن سعي الأحزاب الصهيونية إلى وضع مرشحين عرب، ومن النساء بشكل خاص، في قوائمها الانتخابية يأتي من أجل استمالة أصوات العرب من جهة، ومن أجل الظهور بمظهر ليبرالي من جهة أخرى. وقد برز بشكل خاص هذا التوجه في ميرتس وحزب العمل وسبقهم في ذلك "يش عتيد".

خاتمة

يدّعي البعض أن بنيامين نتنياهو الذي يواجه محاكمة في قضايا فساد، وفي ظلّ عدم قدرته على حسم الانتخابات لصالحه، وعدم نجاحه في تمرير القانون الفرنسي الذي يضمن عدم محاكمة رئيس حكومة خلال شغله لمنصبه، قد حول الانتخابات المتكررة إلى أداة تضمن بقاءه رئيساً لحكومة انتقالية، ومن غير المتوقع أن تحقق الانتخابات المُقبلة اختراقاً حاسماً في الانسداد السياسي الحزبي.

ومما لا شك فيه أن عوامل عديدة ستحدّد شكل الائتلاف الممكن وفرصه؛ من بينها نسبة التصويت العامة ونسبة التصويت بين العرب؛ عدد المقاعد التي سيحصل عليها كل من بينيت وساعر، وهل ستكون أقل من عشرة أم أكثر؟ الأحزاب التي ستتجاوز نسبة الحسم والتي لن تتجاوزه، خاصة في طرفي الخارطة؛ قائمة بن غفير- سموتريتش الكهانية من اليمين، وميرتس و"أزرق أبيض" والموحدة على الطرف المقابل.

بالإضافة إلى ذلك، من المهم ألا نُسقط إمكانية زعزعة معسكر بنيامين نتنياهو من حيث موقف أحزاب الحريديين؛ إذ أن هناك ايماءات خاصة من حزب يهدوت هتوراة تُشير إلى أنه لا يلغي إمكانية التحالف مع ساعر إن كان ذلك سيمنع الذهاب إلى انتخابات خامسة.

إجمالاً، فإن الانتخابات الإسرائيلية الحالية تتمحور حول نتنياهو أساساً، وينقسم المشهد الحزبي وفق الموقف منه، ما بين مؤيد ومعارض له، وفي ظلال هذه المعركة الأساسية تجري تحالفات وتُعقد صفقات مختلفة، وتغيب عن النقاشات للوهلة الأولى وبشكل كامل تقريباً مسألة الاحتلال والصراع والتسوية، لكن المتمعن في خارطة الأحزاب المتنافسة يستشعر حضورها الطاغي الذي لم يعد يحتاج إلى الخطابة، وذلك عبر تحول الفكر الاستيطاني الى جزء من الفكر المكرس لليمين الذي يتوقع أن يحصد 80 مقعداً، وتحول القضايا التي كانت مرّة خلافية إلى محلّ إجماع؛ الإجماع بين الأوساط المركزية على أن القدس الموحدة هي عاصمة إسرائيل الأبدية، وعلى معارضة تفكيك المستوطنات، وعلى التوافق على ضمّ منطقة الأغوار، وعلى بنية إسرائيل كدولة يهودية، وعلى رفض عودة اللاجئين. في هذا السياق، فإن عجلة الاستيطان وفرض الوقائع الاستعمارية على الأرض وحدها تستمرّ بالعمل دون أي عائق على الرغم من كل الصراعات الداخلية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات