المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بصرف النظر عن التفصيلات المهمة التي تتضمنها ورقة تقدير الموقف الجديدة الصادرة عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب فيما يتعلق ببنود صفقة ترامب- نتنياهو المعروفة باسم "صفقة القرن"، فإن الاستنتاج الذي تخلص إليه يظل الأكثر أهمية، وفحواه أن فرص تحقيقها ضئيلة جداً وتوازي الصفر.

وتشير الورقة إلى أنه على صعيد التصريحات، ترسم الخطة "رؤية لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، من خلال احترام التطلعات الوطنية الفلسطينية. وهي تشدّد في الوقت عينه على عدم المسّ بأمن إسرائيل، ومنع تحويل الضفة الغربية إلى نوع من قطاع غزة ثان"، لكن في الوقت ذاته تؤكد أنه توجد فجوة كبيرة بين الرؤية وطريقة تحقيقها كما هو مفصل في الخطة. فشروط الاعتراف بدولة فلسطينية تفرض اعترافاً فلسطينياً بالدولة اليهودية، أي: تسوية متفق عليها لدولتين قوميتين - إسرائيل كوطن قومي للشعب اليهودي، وفلسطين كوطن قومي للشعب الفلسطيني، انطلاقاً من إلغاء حق العودة للاجئي 1948 إلى دولة إسرائيل. وثمة مطالب أساسية أُخرى، هي تأسيس حكم فلسطيني سليم، ديمقراطي، يحترم حقوق الإنسان، بمعايير عالية لا يوجد مثلها في أي دولة عربية؛ قبول مطالب إسرائيل الأمنية؛ نزع سلاح حركة "حماس" وسائر التنظيمات التي توصف بأنها "إرهابية"؛ استعادة السلطة الفلسطينية السيطرة على قطاع غزة الذي سيكون منزوعاً من قدراته العسكرية؛ وقف التحريض الفلسطيني ضد إسرائيل في المنظومة السياسية، والعامة، والتعليمية. ومن الواضح أن هذه الشروط كلها من الصعب جداً على الجانب الفلسطيني قبولها، كما تنوّه.

وكانت أوراق تقدير موقف سابقة صادرة عن معهد الأبحاث السالف نفسه ومعاهد أبحاث أخرى أشارت إلى أن الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، كشرط مسبق لإقامة دولة فلسطينية، كان غائباً حتى الآن عن كل المقترحات التي قدمتها الولايات المتحدة، وهو يشكل مركِّباً جديداً في مقترَح أميركي رسمي يسند المطلب الإسرائيلي المطروح بتواتر غير مسبوق خلال الأعوام الأخيرة.

بناء على ذلك فالخلل غير كامن في الفجوة القائمة بين الرؤية وطريقة تحقيقها فحسب إنما أيضاً في الرؤية نفسها، ولا سيما فيما يتعلق بـ"حقوق" الدولة اليهودية، كما جرى التعبير عنها مثلاً قبل إطلاق الصفقة في ما بات يُسمى في إسرائيل بـ"عقيدة بومبيو"، ويُقصد بها إعلان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، يوم 18 تشرين الثاني 2019، أن الولايات المتحدة لم تعد تعتبر أن المستوطنات الإسرائيلية في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) تتعارض مع القانون الدولي. وحتى هذا الإعلان كانت السياسة الأميركية تعتمد، من الناحية النظرية على الأقل، على رأي قانوني صادر عن وزارة الخارجية العام 1978، ويعتبر أن إقامة المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة يتعارض مع القانون الدولي.

ولا بُدّ من أن نشير هنا إلى أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو رحّب بهذا التحول في الموقف الأميركي، واعتبر أن ذلك "يصحّح خطأ تاريخياً". وبرأيه فإن هذه السياسة تعكس حقيقة تاريخية بأن اليهود "ليسوا مستعمرين أجانب في يهودا والسامرة".

وأشار نتنياهو إلى أن اليهود يدعون يهوداً لكونهم "شعب يهودا". وهو ما كرّره على نحو ببغائيّ السفير الأميركي لدى إسرائيل ديفيد فريدمان في خطاب ألقاه أمام مؤتمر عُقد على خلفية تصريحات بومبيو المذكورة، نظمته مجموعة "منتدى كوهيلت" اليمينية في "مركز بيغن للتراث" في القدس يوم 8 كانون الثاني الفائت. وقد نشرت عدة منابر يمينية ترجمته تحت العنوان "وثيقة: لإسرائيل حق غير قابل للنقض في الاستيطان في يهودا والسامرة"، مشيرة على نحو خاص إلى أن فريدمان اعتبر الفلسطينيين في الضفة مجرد مقيمين لا سكان أصليين.

وفيما يلي الفقرات التي وردت في خطاب فريدمان بهذا الصدد، وتنطوي على ما يشفّ عن الرؤية المختلة المذكورة:
"يهودا والسامرة- الاسم "يهودا" يقول عملياً كل شيء- هما منطقة جغرافية كان فيها عبر التاريخ وجود يهودي مهم. وكما اعتدنا القول فهي لبّ الأرض التوراتية. إنها تشمل الخليل، حيث امتلك إبراهيم مغارة المكفيلا (الحرم الإبراهيمي الشريف) ليدفن فيها سارة زوجته، وشيلو حيث كان "الميشكان" قبل 369 عاماً من قيام سليمان ببناء الهيكل في القدس، وبيت إيل حيث حلم يعقوب بالسلم الذي يصل رأسه إلى السماء، وقصر اليهود حيث قاد يهوشع بني إسرائيل إلى أرض الميعاد وقام يوحنا المعمدان بمعمودية المسيح، وأماكن معروفة كثيرة أخرى ("الميشكان" المعروف أيضاً باسم خيمة الاجتماع، هو المسكن الأرضي المحمول للرب والذي استخدمه بنو إسرائيل من الخروج حتى غزو كنعان).

"بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية أودعت السيادة في يهودا والسامرة- سوية مع سائر ما سُمي آنذاك فلسطين- في أيدي البريطانيين من أجل أن يطبقوا في تلك المنطقة وعد بلفور، وقرارات مؤتمر سان ريمو، وانتداب عصبة الأمم. بكلمات بسيطة، كان البريطانيون ملزمين بإتاحة الاستيطان اليهودي في كل أنحاء تلك البلاد. وليس المقصود بهذا أن المنطقة معدّة للاستيطان اليهودي فقط، أو أنه يُحظر على آخرين العيش فيها، ولكن حق اليهود في الاستيطان فيها كان غير قابل للنقض أو الشك.

"لنتحرك بسرعة في التاريخ نحو 1967 وحرب الأيام الستة. بعد أن تعرّضت إلى الهجوم، استعادت إسرائيل من الأردن يهودا والسامرة. سيطر الأردن على يهودا والسامرة 19 عاماً فقط، في وقت لم يعترف أي طرف بحقوقه على هذه المنطقة.

"لمن يوجد إذاً من ناحية حدسية ادعاء جيد حيال هذه المنطقة؟ لإسرائيل التي اعترف بحقوقها التاريخية والقانونية من طرف عصبة الأمم، أو للأردن الذي استمر وجوده هناك- عملياً من دون أي شرعية- 19 عاماً فقط، وفي الأحوال جميعاً أزال مطالبته بالمنطقة الواقعة غربي نهر الأردن العام 1995، أو ربما للعثمانيين الذين نفضوا أيديهم من فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى؟ الجواب واضح ومفهوم ضمناً، مع كل الاحترام للخبراء كافة.

"ولكون ذلك كله مفهوماً ضمناً، شُرع بتغيير قواعد اللعب، وتحريك خطوط الهدنة من العام 1949.. إن عقيدة بومبيو لا تحل النزاع بشأن يهودا والسامرة لكنها تحدّد من جديد الأهداف في الملعب نفسه!".

سبق لنا أن ذكرنا أن أهم سمة يخلعها صهاينة إسرائيليون كثيرون على الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب وإدارته أنهما متماهيان حتى النخاع مع الرواية التاريخية الصهيونية، لناحية الجزم أن فلسطين هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي. وفي هذا الصدد يُشار، كما يُستشف من عدة تعليقات، إلى ما يوصف بأنه انقلاب على طروحات للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما فيما يتعلق بـ"جوهر الحق اليهودي في فلسطين"، وردت بادئ ذي بدء في الخطاب الذي ألقاه في جامعة القاهرة، يوم 4 حزيران 2009، وألمح في ثناياه إلى أن إقامة إسرائيل لا تعدو كونها أحد استحقاقات "العذابات اليهودية" التي بلغت ذروتها في المحرقة النازية.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات