المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • كلمة في البداية
  • 703
  • أنطوان شلحت


أنجز المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار وضمن سلسلة "أوراق إسرائيلية" كراسة جديدة بعنوان "الحرس القومي في إسرائيل: قراءة في الجذور، الأسس الفكرية والعلاقة مع اليمين الجديد"، من إعداد وترجمة الزميل وليد حبّاس، الباحث في المركز. ومن المتوقع أن تصدر بعد أيام معدودة. وفي ما يلي التقديم الذي كتبته لهذا الإصدار غير المسبوق بالعربية.

 
تستحضر هذه الورقة، وهي الأولى من نوعها باللغة العربية، خلفيات إنشاء ما بات يُعرف باسم الحرس القومي (أو الوطني) في دول مختلفة من أنحاء العالم والتي يحلو لإسرائيل أن تحذو حذوها أو أن تتشبّه بها، بغية أن تضع يدها على العوامل الواقفة وراء القرار الذي اتخذته الحكومة الإسرائيلية مؤخراً والقاضي بإنشاء مثل هذا الحرس. ويتعيّن التنويه بأن هذا الاستحضار لا يأتي فقط من الرغبة في إجراء المقارنة، وذلك من منطلق أن لكل فترة مُحدّداتها، إنما أيضاً من ضرورة توكيد أنه على الرغم من اختلاف الظرف التاريخي، فلا يمكن عدم رؤية التشابهات والتقاطعات ما بين الحرس القومي في الولايات المتحدة مثلاً ومفهوم الحرس القومي في إسرائيل في الوقت الحالي، نظراً لأنها تؤكد، من ضمن أمور أخرى، أن الصراع بين المستوطن الصهيوني والأصلاني الفلسطيني يفرض نفسه على سياق الحرس القومي الآخذ بالتشكّل في إسرائيل.
وبغية التمهيد لقراءة هذه الورقة ينبغي أن نشير، من ناحية الوقائع الصرفة، إلى أنه بعد نقاش حادّ شهده اجتماع الحكومة الإسرائيلية المنعقد يوم 2 نيسان 2023 صوّت الوزراء لمصلحة تشكيل حرس قومي جديد تحت قيادة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير (رئيس حزب "عوتسما يهوديت" الكهانيّ)، إلى جانب إجراء تقليصات كبيرة في ميزانيات جميع الوزارات من أجل تمويله. ووزارة الأمن القومي بديلة عن سابقتها وزارة الأمن الداخلي، مع صلاحيات أوسع.
ومن المتوقع، بحسب تقارير وسائل إعلام إسرائيلية، أن يضمّ هذا الحرس القومي ألفي عنصر، سيكونون مسؤولين بشكل مباشر أمام الوزير، وسيتم تكليفهم، كما جاء في نصّ القرار، بمعالجة "الجريمة القومية" و"الإرهاب" و"استعادة السلطة عند الحاجة". وينصّ القرار على أن قوة الحرس القومي الجديدة ستتألف من قوات نظامية وألوية تكتيكية متخصصة، وستكون منتشرة في جميع أنحاء البلد.
ولم يتم الاتفاق على جدول زمني مُحدّد لتشكيل مثل هذا الحرس، ومن المحتمل أن يستغرق أشهراً. وقالت مصادر سياسية إسرائيلية رفيعة المستوى إن لجنة من المختصين من الأجهزة الأمنية ووكالات الحكومة المختلفة ستناقش السلطة الممنوحة إلى الحرس القومي، ومَن سيكون مسؤولاً عنه، وستسلّم استنتاجاتها في غضون تسعين يوماً، وهذا يعني أن القضية ستبقى مفتوحة، ورُبمّا ستكون متدحرجة أيضاً.
وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وعد بن غفير بأنه سيطرح القضية للتصويت عليها في جلسة الحكومة، وذلك في مقابل بقاء هذا الأخير في صفوف الحكومة، على الرغم من معارضته الشديدة لقيام نتنياهو بتجميد "تشريعات الإصلاح القضائي" لفسح المجال أمام إجراء حوار مع المعارضة التي تتظاهر ضد هذه التشريعات منذ إعلانها، وتعتبرها انقلاباً على الجهاز القضائيّ بغية إضعافه. 
وأعرب عدد من الوزراء، خلال اجتماع الحكومة المذكور، عن معارضتهم لاقتطاع 1.5 بالمئة من ميزانيات جميع الوزارات، وهو ما سيمنح وزارة بن غفير نحو مليار شيكل (278 مليون دولار)، وقالوا إن هذه الخطوة غير مسؤولة، وستثير انتقادات عامة، لكنهم مع ذلك صوّتوا لمصلحتها. وقال مسؤولون في وزارة المالية الإسرائيلية إنهم يستطيعون إيجاد حلول تمويل بديلة في غضون عدة أشهر لتجنُّب تقليصات في الميزانيات وصفوها بأنها كاسحة، وانتقدوا بن غفير من جرّاء مطالبته بالمال على الفور. وخلال الاجتماع نفسه، اتهمت وزيرة شؤون الاستخبارات غيلا غمليئيل (الليكود) بن غفير بالرغبة في كل شيء هنا والآن، على حساب الوزارات الأُخرى.
في الجانب المقابل، شجب رئيس حزب "يوجد مستقبل" وزعيم المعارضة الإسرائيلية عضو الكنيست يائير لبيد أولويات الحكومة، ووصفها بأنها سخيفة وبغيضة، وانتقد الوزراء لتصويتهم لمصلحة تمويل جيش خاص من البلطجية لمن نعته بأنه "مهرج التيك توك".
وقال لبيد في بيان صادر عنه، إن الشيء الوحيد الذي يهمّ الحكومة الحالية هو سحق الديمقراطية والدفع قدماً بنزوات وهمية لأشخاص متوهمين.
وفي سياق متصل حذّرت مجموعة كبيرة من القادة السابقين للشرطة من مغبة هذه الخطوة، وكان من ضمنهم القائد العام السابق للشرطة، موشيه كرادي، الذي قال إن بن غفير قد يستخدم القوّة لشنّ انقلاب.
كما أعربت منظمات حقوق مدنية، وشخصيات من المعارضة، عن قلقها العميق حيال اقتراح وضع مثل هذه القوة تحت سيطرة وزير في الحكومة، وأكد البعض، وعلى رأسهم "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، أن من شأن ذلك تسييس عمل الشرطة، وتقويض مبدأ المساواة في إنفاذ القانون.
وكان القائد العام الحالي للشرطة الإسرائيلية، الجنرال يعقوب شبتاي، حذّر في رسالة وجّهها إلى بن غفير قبل قرار الحكومة، من أن فصل هذه القوة الأمنية الجديدة عن الشرطة سيضرّ بشدة بالأمن العام، ويسبب فوضى في تطبيق القانون، مُحذّراً من عواقب وخيمة. وقال إنه لا يوجد هناك سبب لتشكيل هيئة جديدة لها صلاحيات ومجالات مماثلة لتلك التي تتمتع بها شرطة إسرائيل، مضيفاً أنه لم يتم تحديد مزايا ملموسة، في حين أنه يمكن أن تكون للخطة تكاليف باهظة للغاية، قد تصل إلى إلحاق الضرر بالأمن الشخصي للمواطنين. وحذّر شبتاي من أن الوضع الجديد قد يؤدي إلى عدم وضوح في ما يتعلق بتقسيم السلطة بين الجهازين، وقال إن الخطوة ليست إلّا مضيعة للموارد ومضاعفة لعدد المقرّات ورهان على نموذج غير مثبت ولا فائدة منه.
كما أعربت المستشارة القانونية للحكومة الإسرائيلية، غالي بهراف - ميارا، عن قلقها من تشكيل القوة، وقالت خلال اجتماع الحكومة إن هناك عائقاً قانونياً أمام النسخة الحالية من الاقتراح، وأن الشرطة يمكنها التعامل مع التحديات التي تواجهها، من دون الحاجة إلى هيئة منافسة.
وأفادت تقارير إعلامية، نقلاً عن مسؤولين أمنيين، بأن رئيس جهاز الأمن الإسرائيلي العام ("الشاباك") رونين بار أعرب هو أيضاً في اجتماعات مغلقة عن معارضته لتشكيل الحرس القومي.
مهما يكن، لا بُدّ من الإشارة إلى أن جمعيّة حقوق المواطن كانت الأكثر حدّة من بين منظمات المجتمع المدني الإسرائيلية، حيث وصفت الحرس القومي المنوي إقامته بأنه ميليشيا خاصة لبن غفير. ومما جاء في بيان صادر عن هذه الجمعية أنها بعد الاتفاق الذي توصل إليه رئيس الحكومة ووزير الأمن القومي بتشكيل ميليشيا خاصة بهذا الأخير تحت المُسمى الرسمي الحرس القومي، توجهت إلى المستشارة القانونية للحكومة وحذّرت من أنه على الرغم من عدم وضوح ماهيّة وشكل تركيبة هذا الحرس القومي فإنّ إقامة قوّة مسلّحة تابعة لوزير الأمن القومي بشكل منفصل عن الشرطة هي في حدّ ذاتها بمثابة تجاوز لخطّ أحمر ومرفوضة من أساسها.
وجاء في البيان أيضاً: أكدنا في توجّهنا أنّ الشرطة التابعة لكيان سياسي تقوّض أحد أسس الديمقراطية في إسرائيل، وتشكل خطراً حقيقياً على حقوق الإنسان. والشرطة، بصفتها الهيئة التي تحتكر استخدام القوة ضد المواطنين والمسؤولة عن إنفاذ القانون، يفترض أن تتصرّف بطريقة محايدة ومهنية تماماً بمعزل عن الاعتبارات السياسية أو التحيّزات. ولا يطمح بن غفير إلى تأسيس حرس قومي، بل إلى تشكيل حرس قومي متطرّف يتألف من ميليشيات مُسلحة تخضع لإمرته ولمخططاته وأجنداته العنصرية. وهو يُصرح بذلك علناً بالقول إن هدف هذه الميلشيات هو إعادة "سطوة الدولة"، وما هذه إلا مسميات مُخادعة لفكرة تأسيس قوة قمع للمواطنين الذين لا يتماشون مع هوى الحكومة، وهو يعني بالأساس المتظاهرين ضد الحكومة، أو المواطنين العرب في إسرائيل. وإن تشكيل الحرس القومي والذي سيعمل بشكل رئيس، بحسب تصريحات بن غفير، في المجتمع العربي، سوف يخلق جهازي شرطة في الدولة: الشرطة الزرقاء لخدمة المواطنين اليهود، والحرس القومي، شبه العسكري، لقمع المواطنين العرب. وهذه الخطوة هي ترجمة مباشرة للتعامل العنصري والنمطي تجاه المجتمع العربي، وسوف تُساهم في تأجيج الوضع وفي تعميق عدم ثقة الجمهور العربي بجهاز الشرطة. 
فضلاً عن المقارنة التي تجريها هذه الورقة مع سيرورات تشكيل الحرس القومي في أنحاء مختلفة منالعالم، فهي تعرض بقدر وافٍ لكل الجدل الدائر بهذا الشأن في إسرائيل من خلال الاستعانة بترجمة مقالاتوتحليلات ومواقف بصورة حرفية تتيح للقارئ إمكان الاطلاع على جوانب هذا الجدل من مصادره الأولىمباشرة.
وثمة تركيز خاص مقصود على مسألتين ذواتي صلة:
الأولى، تقديم جينيولوجيا حول تشكيل الحرس القومي الإسرائيلي ولا سيما من الفترة القليلة الفائتةوالمحدّدة منذ هبة أيار 2021 وما عنته من علاقة عضوية بين الفلسطينيين في الداخل والقضية الفلسطينيةفي كل ما يرتبط بقضية مواطنتهم في إسرائيل وحقوقهم المدنية.
الثانية، مسألة علاقة المسعى لإنشاء حرس قومي في إسرائيل مع تصاعد قوة اليمين الجديد الذي باتاليمين الفاشي المتمثل في حزب "عوتسما يهوديت" الكهانيّ أحد أنشط الفاعلين فيه. وفي هذا الخصوص تشير الورقة إلى أنه في بعض الحالات خارج إسرائيل تم اختيار الحرس القومي من طرف جماعات سياسية يمينية متطرفة كرمز للقوة القومية، ما أدى إلى زيادة شرعية مقترحاتها السياسية وإضفاء الصدقية على مواقفها، وتؤكد أن هذا هو السياق العام الذي يفسر ولادة فكرة الحرس القومي في إسرائيل من جانب أحزاب وأعضاء كنيست تابعين لليمين الجديد. 
وفي ما يتعلق بالمسألة الأولى تستفيض الورقة، على وجه التحديد، في استعراض خلفيات إنشاء حرس قومي من طرف الحكومة الإسرائيلية السابقة (حكومة بينيت- لبيد) في حزيران 2022، غير أن الأهم من ذلك يبقى كامناً في إشارتها إلى أنه قبل هذه الخطوة اتسم حزب "عوتسما يهوديت" وهو في المعارضة بكونه من أكثر الجهات التي تبنّت فكرة الحرس القومي وقامت بتشكيل أطر ذات طابع ميليشياتي قلباً وقالباً. فمثلاً، في تشرين الأول 2021، أسّس ألموغ كوهين، منسق حزب "عوتسما يهوديت" في منطقة النقب (جنوب إسرائيل)، ميليشيا مسلحة بمسوّغ "حماية سكان الجنوب من الجريمة المنتشرة". وتم إطلاق هذه الميليشيا رسمياً في آذار 2022 في بئر السبع تحت اسم "دورية بارئيل"، على اسم الجندي الإسرائيلي بارئيل حداريا شموئيلي الذي قُتل في منطقة الحدود مع قطاع غزة في آب 2021. بعد ذلك أعلن أفراد من حزب "عوتسما يهوديت" عن تأسيس ميليشيا ثانية في منطقة بات يام المجاورة لمدينة يافا. وتلقت "دورية بارئيل" تأييداً ودعماً من بلدية بئر السبع ومعظم المجالس المحلية بالإضافة إلى قيادة الشرطة الإسرائيلية في المنطقة الجنوبية. وضمّت هذه الميليشيا ما يقرب من 300 متطوع بعد إعلان تأسيسها. وأرجع مؤسسوها سبب إنشائها إلى نقص الأمان وتآكل تطبيق القانون في منطقة النقب، حيث تزايدت جرائم الاحتيال وتجارة المخدرات والاعتداءات وأعمال المقاومة. وتقوم الميليشيا بربط الجريمة المنظمة بأعمال المقاومة معتبرة أنها عنف مُنظم من جانب السكان العرب أو الفلسطينيين.
وتتألف "دورية بارئيل" من ثلاث كتائب: 1) كتيبة النخبة، التي تخضع لتدريبات متقدمة في "مكافحة الإرهاب"، 2) كتيبة التجوال، التي تتجول في الشوارع ولديها سلطة إطلاق النار، 3) كتيبة التكنولوجيا، التي تدير العمليات "من الأعلى". وتختلف "دورية بارئيل" عن الحرس القومي حيث إنها قوة شرطية مدنية مستقلة لا تتبع إلى أي مؤسسة رسمية وقادرة على فرض نفوذها على الشوارع بدون الحاجة إلى إذن من مؤسسات الدولة. وعلى الرغم من أن مؤسسيها يصرّون على أنهم غير تابعين إلى أي حزب سياسي أو توجّه أيديولوجي، فإنهم في الواقع يتلقون دعماً مباشراً وواضحاً من عناصر متطرفة جداً في تيار الصهيونية الدينية والكهانية الإرهابية. ويظهر بوضوح أن تأسيس "دورية بارئيل" يهدف إلى مواجهة الفلسطينيين تحديداً وليس إلى مكافحة الجريمة أو تحسين الأمان. وقد وجّه كوهين، المؤسس، رسالة إلى المتطوعين في الميليشيا قال فيها: "عندما تكون حياتك في خطر، أي عندما تكون أنت فقط في مواجهة الإرهابي، فإنك تصبح الشرطي والقاضي والجلاد... عندما تكون حياتك في خطر أقتل، الأمر بسيط وسهل". وعلى الرغم من ادعاء الميليشيا بأنها تأسست لمواجهة الجريمة المنظمة في منطقة النقب، إلا أن تدريباتها وتصريحات قادتها تشير بوضوح إلى أنها أُنشئت لتشكيل قوة مسلحة صهيونية في مواجهة الفلسطينيين. وقد دانت لجنة التوجيه العربيّة العليا في منطقة النقب هذه الميليشيا واعتبرتها "قوة مسلحة يمينية متطرفة وفاشية عنصرية من شأنها أن تشعل النقب بأكمله"!
أخيراً تؤكد الورقة أنه على الرغم من دعم بن غفير وأعضاء حزبه لإقامة "دورية بارئيل" كميليشيا غير مرتبطة بالشرطة الإسرائيلية ولكنها محمية من قبلها، فإنها لم تكن المشروع الأهم بالنسبة إلى خليفة كهانا. وفي ضوء ذلك، بعد أن فاز حزب بن غفير في الانتخابات الإسرائيلية في تشرين الثاني 2022، وأصبح وزيراً للأمن القومي، وقع حزبه مع الليكود اتفاقية ائتلافية مكوّنة من 168 بنداً. ومع أن السياق الذي وقعت فيه هذه الاتفاقية والمفاوضات ما بين الكتل البرلمانية المشاركة في الائتلاف الحكومي أوحت، وفقما تنوّه الورقة، بأن تشكيل الحرس القومي هو مشروع "عوتسما يهوديت" بشكل عام، وبن غفير بشكل خاص، إلا أن الكثير من الوقائع والمواقف التي ترد في مواد الورقة تثبت أن الحرس القومي بات من ناحية مبدئية مقبولاً على معظم أطياف المشهد السياسي الحزبي في إسرائيل.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات