المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
يائير لابيد.. تصويب "فوهة" الاقتصاد على غزة! (إ.ب.أ)
يائير لابيد.. تصويب "فوهة" الاقتصاد على غزة! (إ.ب.أ)

أشرنا في السابق، وبشكل خاص في تقرير مدار الاستراتيجي 2022: المشهد الإسرائيلي 2021، إلى أن هناك استراتيجية إسرائيلية جديدة في التعامل مع قطاع غزّة، كان قد صرّح بها وزير الخارجية ورئيس الحكومة المُقبل (بموجب اتفاق التناوب الحكومي) يائير لابيد. وهي استراتيجية تختلف عن تلك التي اتّبعها بنيامين نتنياهو خلال فترة حكمه الممتدة ما بين عامي 2009-2021. في هذه المساهمة، سنحاول قراءة القرارات الإسرائيلية الأخيرة تجاه قطاع غزة ضمن هذا النهج، واستشراف ما إذا كانت تنوي إسرائيل بالفعل تفعيل هذه السياسة كسياسة بديلة في إطار "إدارة الصراع" مع القطاع، على المدى البعيد، حتى وإن لم يتم الإعلان، بشكل صريح، عن تبنّي هذه الاستراتيجية من قِبَل الحكومة الإسرائيلية.

بدايةً؛ تتعامل إسرائيل مع قطاع غزة منذ الانقسام الفلسطيني وفقاً لاستراتيجيتين متداخلتين ومتناقضتين تُفعّلهما بشكل متكامل؛ الأولى (القطاع حيزاً جغرافياً منفصلاً)، ويقع في صُلبها "الهدوء الأمني"، لمحاولة تقويض/ منع أي تصعيد مع فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، وذلك من "خلال إعادة النظر المستمرة في معادلة الردع التي تتآكل مع مرور الزمن، وتتطلّب إعادة "تنشيط" إما من خلال الانخراط بحروب أو حملات عسكرية ضدّ القطاع، أو من خلال التلاعب بسياسات الإغلاق وإعادة هيكلة الحصار لخدمة معادلة الردع". أما الثانية فتتمثّل في التعامل مع غزة باعتبارها جزءاً لا يتجزّأ من الكيان الفلسطيني، حيث تنسج سياسات تسعى من خلالها لتعزيز الانقسام الفلسطيني والإبقاء على القطاع ككيان منفصل.للاستزادة، أنظر/ي:
وليد حبّاس وعبد القادر بدوي، إسرائيل والمسألة الفلسطينية. في: تقرير مدار الاستراتيجي 2022: المشهد الإسرائيلي 2021. رام الله: مدار، 2022، 30-40.


في أعقاب تسلّم "حكومة التغيير" الحكم في إسرائيل، وبخلاف استراتيجية نتنياهو السابقة في التعامل مع القطاع القائمة وفق مبدأ "الهدوء مقابل الهدوء"، أعلن وزير الخارجية لابيد عن استراتيجية "الهدوء مقابل الاقتصاد"، وبحسب هذه الاستراتيجية فإن على إسرائيل الشروع بخطوات اقتصادية كبيرة متعدّدة السنوات من أجل تحقيق الأمن، حيث أن الغرض من هذه الخطوات، بحسب خطاب لابيد، هو "تحقيق الاستقرار على جانبي الحدود، من ناحية أمنية ومدنية؛ سياسية واقتصادية، وسيتعيّن على المجتمع الدولي وسكّان القطاع معرفة أن "إرهاب حماس" هو الحاجز الفاصل بينهم وبين الحياة الطبيعية والاستقرار الأمني والمدني- الاقتصادي".للاستزادة حول خطاب يائير لبيد، أنظر/ي: https://www.gov.il/he/Departments/news/fm_lapid_ict. وأضاف "يجب علينا إخبار سكّان القطاع في كل مرحلة أن حماس تقودكم إلى الهلاك، وأنه لن يأتي أحد للاستثمار أو يُسهم في بناء اقتصاد القطاع ما دامت حماس تُطلق النار باتجاه إسرائيل... لذلك يجب حمل سكّان القطاع للضغط على حماس...".المرجع السابق.

ولترجمة هذه السياسات على الأرض، أقدمت الحكومة الإسرائيلية خلال العام المنصرم على منح عمال قطاع غزة تصاريح للعمل داخل الخط الأخضر بحوالي 12 ألف تصريح، أعقبتها زيادة مقدارها 8000 آلاف تصريح لتصل إلى 20 ألف تصريح عمل، في إطار ما أطلق عليه رئيس الحكومة نفتالي بينيت تسهيلات للفلسطينيين في لقاء جمعه بوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن. كما صرّح "منسّق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية" غسّان عليان قائلاً: "لأول مرة منذ العام 2005 قرّرنا الموافقة على توظيف ما يصل إلى 20 ألف عامل من قطاع غزة في مجالي البناء والزراعة"، مُشيراً إلى أن هذا القرار صدر عن وزير الدفاع بيني غانتس. في المقابل، تم الإعلان في قطاع غزة، عن خطة لتوفير نحو 30 ألف تصريح عمل داخل الخط الأخضر، في أعقاب التفاهمات التي أفضت إلى وقف إطلاق النار في 20 أيار المنصرم بين حماس وإسرائيل، تلا ذلك الإعلان عن فتح "وزارة العمل" في غزة باب التسجيل الإلكتروني للحصول على تصريح عمل داخل الخط الأخضر.

وعلى الرغم من أن السياسة الإسرائيلية هذه تجاه قطاع غزة ليست جديدة، أي منح تسهيلات اقتصادية محدودة مع إطباق الحصار على القطاع، فإن عملية استحداثها- من ناحية خطابية على الأقل كما ورد في تصريح لابيد- وما تبعها من خطوات عملية تتمثّل في منح، وزيادة، حصّة عمال قطاع غزة من تصاريح العمل داخل الخط الأخضر تأتي في إطار محاولة تثبيت معادلة جديدة بموجبها تحاول إسرائيل تعميق سياسة "العصا والجزرة" تجاه القطاع، والدفع قدماً باتجاه خلق ضغط داخلي مدني على فصائل المقاومة لا سيّما في ظلّ تعمّق الأزمة التي تواجهها حركة حماس، وزيادة الأعباء المدنية تجاه سكّان القطاع، مع استمرار الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ العام 2007.

ضمن هذه الرؤية؛ أعلن بيني غانتس عن إغلاق "معبر إيرز"- معبر بيت حانون، أمام العمال الفلسطينيين بدءاً من يوم الأحد (24.04.2022)، والشروع بفرض رزمة "عقوبات اقتصادية" على القطاع، وذلك بعد مشاورات أجرتها المستويات الأمنية والجيش في أعقاب إطلاق 3 صواريخ من قطاع غزة رداً على الاعتداءات الوحشية للشرطة والأجهزة الأمنية الإسرائيلية على الفلسطينيين والمصلّين في ساحات المسجد الأقصى، وما تشهده المدينة من تصعيد إسرائيلي بالتزامن مع شهر رمضان. ووفقاً للمصادر الإسرائيلية، فإن الجيش الإسرائيلي أوصى المستوى السياسي في أعقاب إطلاق الصواريخ، بعدم الردّ عسكرياً على القطاع- كما حدث في الأيام الماضية، وكما فعلت إسرائيل على مدار العقد المنصرم- وفرض رزمة "عقوبات اقتصادية" تتمثّل بدايةً في إغلاق "معبر إيرز" أمام العمال الفلسطينيين، مع استمرار التصريح بـ "جهوزية الجيش" الدائمة، والقصوى، لمواجهة أي تصعيد عسكري محتمل مع القطاع، والتأكيد على أن للجيش "بنك أهداف كبير" في القطاع سيقوم باستهدافها عسكرياً في حال تم استئناف عملية إطلاق الصواريخ من القطاع.أمير بوحبوط، استعدادات على حدود غزة: تخوف لدى المستوى الأمني من عمليات إطلاق للصواريخ من القطاع، موقع واللا، 23 نيسان 2022، https://news.walla.co.il/item/3502089.

وعلى الرغم من أن هذه الخطوة تأتي في إطار الترجمة العملية للاستراتيجية المُشار إليها، "الهدوء مقابل الاقتصاد"؛ فإن هناك إدراكاً في أوساط المستويين الأمني والسياسي في إسرائيل بأن هذه الاستراتيجية لا يُمكن أن تكون نهائية وكافية في التعامل مع القطاع، وأن اندلاع مواجهة عسكرية أمر غير مُستبعد، لا سيّما في ظل التصعيد الإسرائيلي في القدس والضفة الغربية، والذي وصل ذروته في الاعتداءات المتكرّرة على المصلين، واقتحام ساحات المسجد الأقصى خلال الأيام الماضية. من ناحية أخرى، تسعى إسرائيل، وعبر الوسيط المصري، إلى الضغط على حركة حماس (بصفتها المسؤولة عن إدارة القطاع) من أجل منع إطلاق الصواريخ، بالتزامن مع إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت عن قراره منع عضو الكنيست المتطرّف إيتمار بن غفير من الوصول إلى باب العامود في إطار ما يُعرف بـ "مسيرة الأعلام" التي تُنظّمها جمعيات يمينية متطرّفة في إطار احتفالات اليهود بـ "يوم القدس"- الذي يُصادف يوم احتلال القدس إبّان حرب حزيران 1967.

إجمالاً؛ تُدرك المستويات الأمنية والسياسية الإسرائيلية أن فرض عقوبات اقتصادية على القطاع، لا يُمكن أن يمنع اندلاع مواجهة عسكرية مع القطاع، سيّما وإن استمرّت الاعتداءات والاقتحامات المتكرّرة لساحات المسجد الأقصى، والاعتداء على المصلين فيها، حيث أن العقد المنصرم أثبت أن مثل هذه التفاهمات، مهما بلغت، سرعان ما تنهار في حال واصلت إسرائيل، وصعّدت، من سياساتها تجاه الفلسطينيين في التجمّعات الفلسطينية المختلفة بين النهر والبحر. من ناحية أخرى؛ تُدرك إسرائيل أن مسألة منح تسهيلات اقتصادية محدودة لا يُمكن أن يُشكّل حلّاً نهائياً لقطاع غزة- باعتبارها مشكلة "إنسانية" كما تُحاول إسرائيل تسويقها- بل هي قضية سياسية من الدرجة الأولى، مرتبطة بشكل رئيس بغياب الحلّ السياسي مع الفلسطينيين. وإن استمرار التعامل مع القطاع، بوصفه قطاعاً منفصلاً عن التجمّعات الفلسطينية الأخرى، وإن "نجح" ذلك لبعض الوقت، لن يُشكّل، بأي حال من الأحوال، بديلاً للحل السياسي الذي يفرض على إسرائيل استحقاقات سياسية، حتى وإن كانت الأخيرة غير مستعدّة، أو لا تريد تقديمها، في ظلّ ظروف إقليمية ودولية لا تُشكّل ضغطاً عليها، لذلك، تحاول إسرائيل كسب مزيد من الوقت في اتباع مثل هذه السياسات في إطار توجّهها القاضي بالاستمرار بـ "إدارة الصراع" مع الفلسطينيين وليس حلّه، طالما تسمح الظروف الفلسطينية، والإقليمية، والدولية بذلك.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات