المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
أثر الاشتباكات في مدينة خاركيف الأوكرانية. (أ.ف.ب)
أثر الاشتباكات في مدينة خاركيف الأوكرانية. (أ.ف.ب)

في اليوم الأول لبدء الحملة العسكرية الروسية على أوكرانيا، أصدر يائير لبيد، وزير الخارجية الإسرائيلي، تصريحا صحافيا دان فيه الهجوم العسكري الروسي معتبرا إياه مخالفا للقانون الدولي. هذا تصريح دبلوماسي منمق، كما سوف نرى، لا يرتقي إلى موقف صريح يجعل إسرائيل متماهية بشكل قاطع مع الولايات المتحدة وحلف الناتو ضد روسيا. ومع ذلك، كان من الطبيعي أن يصل الرد الروسي على هذا التصريح، حيث سارع نائب مندوب روسيا في الأمم المتحدة إلى تذكير إسرائيل بأن ضمها للجولان يعتبر أيضا مخالفا لمعاهدة جنيف من العام 1949، وأن روسيا ترى في الجولان أرضا لا تتجزأ من أراضي سورية.يونتان ليس، بعد التصريحات الداعمة لأوكرانيا- روسيا تعترض على الاحتلال الإسرائيلي في هضبة الجولان، هآرتس، 24 شباط 2022. أنظر الرابط التالي: https://www.haaretz.co.il/news/politics/1.10631971 على ما يبدو، فإن إسرائيل تجد نفسها في موقف دبلوماسي حرج، إذ إنها لا تستطيع أن تقف لا مبالية تجاه حرب تتحدى فيها روسيا كلاً من الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية. لكنها في المقابل، لا تستطيع أن تدين بعبارات أكثر شدة الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا بسبب حاجاتها الراهنة إلى الحفاظ على العديد من التفاهمات الاستراتيجية والأمنية التي تربطها مع روسيا، خصوصا في ملفات تتعلق بهجمات إسرائيل ضد مواقع محددة في سورية (أو ما يعرف إسرائيليا بـ "حرية العمل" في سورية) والمفاوضات النووية مع إيران. كلا الملفين يعتبران مسائل حيوية في الأمن القومي الإسرائيلي بحيث أن إسرائيل لا تستطيع أن تتنازل، على الأقل في الوقت الراهن، عن علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا.

تحاول هذه المقالة أن ترصد "التلبك" الإسرائيلي المتعلق باتخاذ موقف واضح فيما يخص الحملة العسكرية الروسية في أوكرانيا، وتنظر في أسبابه وتبعاته.

في بداية شباط 2022، تصاعدت التوترات ما بين روسيا وأوكرانيا ورافقتها تقديرات دولية بارتفاع احتمالية حصول هجوم عسكري روسي على أوكرانيا يشمل اجتياحا بريا. لكن وعلى العكس من كل التقديرات، صرح يائير لبيد بأنه لا يرى أي فرص لحصول تصعيد عسكري روسي فيما يخص "الصراع الروسي- الأوكراني". أثارت عبارة "الصراع" حنق السفير الأوكراني في إسرائيل، وانتقد بعبارات شديدة موقف لبيد الذي تجاهل "العنجهية" الروسية واعتبر أن الخلاف هو "صراع" بين بلدين وليس تلويحا بالقيام بـ"حرب عدوانية" ضد بلد ضعيف. لقد توقع سفير أوكرانيا أن تتخذ إسرائيل موقفا أكثر حزما، سيما وأن العلاقات ما بين إسرائيل وأوكرانيا تعتبر علاقات حميمية، على الأقل منذ انتهاء الأزمة الإسرائيلية- الأوكرانية والتي استمرت ستة اشهر (كانون الأول 2016- أيار 2017) بعدما صوتت أوكرانيا مع قرار مجلس الأمن 2334 والذي اعتبر المستوطنات الإسرائيلية في الضفة مخالفة للقانون الدولي.إيتمار أيخنر، نتنياهو أمر بإلغاء زيارة رئيس الوزراء الأوكراني إلى إسرائيل. يديعوت أحرونوت، 25 كانون الأول 2016. أنظر الرابط التالي: https://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4897879,00.html

فبعد أن انتهت هذه الأزمة الدبلوماسية، وأوضحت أوكرانيا لإسرائيل بأن الأمر قد لا يكون موقفا سياسيا ضد احتلال أراضي 1967، تبادلت إسرائيل وأوكرانيا زيارات على مستوى الرؤساء ورؤساء الوزراء، وفي كانون الأول 2021، أعلن السفير الأوكراني لدى إسرائيل (وهو نفسه الذي انتقد تصريحات لبيد في وقت لاحق) بأن بلاده تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وأنها تنوي نقل السفارة الأوكرانية إليها قريبا.      يونتان ليس، سفير أوكرانيا: القدس هي عاصمة إسرائيل وسنفتح بها سفارة، هآرتس، 17 كانون الأول 2021. أنظر الرابط التالي: https://www.haaretz.co.il/news/politics/1.10474741

بغض النظر عن التذبذب في العلاقات الدبلوماسية ما بين إسرائيل وأوكرانيا خلال العقد الأخير، وصولا إلى علاقات ودية متينة في العامين الأخيرين، فإن هذه العلاقات قد لا تشكل أساس موقف إسرائيل من الحملة العسكرية الروسية على أراضي أوكرانيا. إذ إن الاعتبارات الإسرائيلية قد تتجاوز حدود المصالح الدبلوماسية أو الاقتصادية مع أوكرانيا، لتشمل اعتبارات استراتيجية تتعلق بعلاقة إسرائيل الحيوية مع كل من الولايات المتحدة (التي تدعم نظام زيلينسكي، الرئيس الأوكراني الشعبوي، وترى فيه امتداداً لـ "العالم الحر") ومع روسيا (التي تنظر إلى نظام زيلينسكي باعتباره نظاما "نازيا جديدا" يقوم بحملات إبادة جماعية في شرقي أوكرانيا). ثمة ثلاثة اعتبارات تضعها إسرائيل في حسابها ومن شأنها مجتمعة أن تجعل موقفها من الحملة العسكرية الروسية فضفاضا وغير حاسم، أو موقفا قد "لا يقطع شعرة معاوية" بين كل الأطراف المتعاركة في أوروبا.

الاعتباران الأولان يدفعان إسرائيل إلى عدم إغضاب روسيا، وهما:

1. تعتبر روسيا الأب الروحي لنظام الأسد في سورية، وتربطها مع إسرائيل سلسلة معقدة من التفاهمات المعلنة والسرية فيما يتعلق بقدرات إسرائيل في التدخل العسكري داخل سورية.يونتان ليس، بوتين الى بينيت أثناء لقائهما: على إسرائيل أن تحسن تنسيقها معنا أثناء عملها في سورية، هآرتس، 23 تشرين الأول 2021. أنظر الرابط التالي: https://www.haaretz.co.il/news/politics/.premium-1.10318242 تعتبر هذه التفاهمات استراتيجية بالنسبة إلى إسرائيل وجزءاً من "أمنها القومي" لأنها تحتاج إلى "حرية عمل" داخل الأراضي السورية لمنع أي إمدادات عسكرية إلى حزب الله، ولمنع تواجد إيراني قوي على حدودها الشمالية. مثلا، في العام 2014 طلبت الولايات المتحدة من إسرائيل أن تحضر جلسة لمجلس الأمن كضيف شرف (لأن إسرائيل ليس لديها حق تصويت في مجلس الأمن) وذلك لإدانة روسيا التي اجتاحت شبه جزيرة القرم، وضمتها إلى أراضيها بعد أن كانت تحت السيادة الأوكرانية. لكن إسرائيل لم تحضر هذه الجلسة، وتجاهلت المطلب الأمريكي كي لا تغضب روسيا.إيتمار أيخنر، على الرغم من طلب أميركا: إسرائيل لم تصوت ضد روسيا في مجلس الأمن، يديعوت أحرونوت، 2014. أنظر الرابط التالي: https://www.ynet.co.il/news/article/bjpxolwe9 فقد استخلصت إسرائيل العبر من تجربة سابقة، عندما اندلعت حرب ما بين روسيا وجورجيا في العام 2008، في سيناريو يكاد يكون شبيها بالسيناريو الحالي أمام أوكرانيا. في حينها كانت التفاهمات الإسرائيلية-الروسية على المحك بسبب تدخل إسرائيل المباشر في هذه الحرب وتسليحها المستمر للجيش الجورجي، وهو أمر تم تجاوزه لاحقا بين روسيا وإسرائيل بعد سلسلة لقاءات على مستوى الرؤساء ورؤساء الحكومة، لعب فيها نتنياهو دورا بارزا لترميم العلاقات مع روسيا، والحفاظ عليها. وفق هذا الاعتبار، لا تجد إسرائيل نفسها قادرة حاليا على الاصطفاف إلى جانب الدول الغربية التي تعتبر نفسها جزءا لا يتجزأ منها في مواجهة الحملة الروسية.

2. تعتبر روسيا أهم حلفاء إيران وتلعب دورا أساسيا في المفاوضات الأممية المتعلقة بالملف النووي الإيراني. على ضوء اتهامات روسيا إلى إسرائيل بأنها قامت بتسليح الجيش الجورجي قبيل وأثناء الحرب بين روسيا وجورجيا عام 2008، أعلن الكرملين أن روسيا تنوي بيع صواريخ S300 إلى النظام الإيراني، وهي صواريخ قد تهدد التفوق الجوي الإسرائيلي بشكل واضح. ومع أن إسرائيل وروسيا قد توصلا مجددا إلى تفاهمات بهذا الشأن، وتم إيقاف صفقة بيع الأسلحة إلى إيران، الا أن روسيا تلعب حاليا دورا أكثر حيوية فيما يخص الملف النووي الإيراني. فقد عادت المفاوضات الأممية في فيينا لوضع صيغة جديدة للاتفاق النووي، ومن المرجح أن يتم التوقيع على صيغة أولية في الأشهر القادمة. وكما أن روسيا قامت بالرد على تصريحات لبيد التي تضامن فيها مع الأوكرانيين واعتبرت أن الجولان السوري هو أرض محتلة، فإنها أيضا من المتوقع أن تلعب دورا فاعلا في تغيير موازين القوى أثناء المحادثات النهائية المتعلقة بالملف النووي الإيراني، وربما تفرض معادلة جديدة قد تكون لصالح البرنامج النووي الإيراني ومتضاربة مع المصالح الإسرائيلية.

في مقابل هذين الاعتبارين، اللذين يدفعان إسرائيل إلى التريث من اتخاذ موقف أكثر حزما ووضوحا من الحملة العسكرية الروسية، ثمة اعتبار آخر يجعل إسرائيل مضطرة إلى معارضة الحملة العسكرية الروسية الحالية. فإسرائيل ترى نفسها جزءاً من "العالم الحر" و"الدول الديمقراطية" والتي تقف على رأسها الولايات المتحدة. مع أن التفاهمات الإسرائيلية- الروسية سواء فيما يتعلق بإيران أو بحرية العمل داخل سورية تعتبر تفاهمات أساسية، الا أنها لا ترتقي إلى المستوى الاستراتيجي الذي يجمع ما بين إسرائيل والإدارة الأميركية بشكل خاص، والدول الغربية بشكل عام.هآرتس، "مع الجانب الأكثر عدلا في التاريخ- مقال افتتاحي،" هآرتس، 25 شباط 2022. أنظر الرابط التالي: https://www.haaretz.co.il/opinions/editorial-articles/.premium-1.10633567 تأتي هذه المقالة في الوقت الذي لم تضع الحرب بعد أوزارها، وليس واضحا كيف ستتفاقم الأمور في الميدان وما إذا كان حلف الناتو والإدارة الأميركية سينتقلان في ردهما من مستوى الإدانة وخطاب العقوبات إلى المستوى العملي الذي قد يشمل تدخلا ميدانيا. لكن في حال تورطت دول أخرى في الحرب الجارية ما بين روسيا وأوكرانيا، سوف يكون من الصعب الحسم كيف ستتفاعل العوامل الثلاثة المذكورة أعلاه وتصوغ موقف إسرائيل من الحرب.

لكن حتى هذه اللحظة، فإن الإدانة التي وجهها لبيد للحملة العسكرية الروسية كانت إدانة "ذكية" وتمت الموافقة على نصها من قبل رئيس الحكومة نفتالي بينيت، ووزير الدفاع بيني غانتس، وبالتشاور مع مستويات أمنية إسرائيلية أخرى. يونتان ليس، بعد التصريحات الداعمة لأوكرانيا- روسيا تعترض على الاحتلال الإسرائيلي في هضبة الجولان، هآرتس، 24 شباط 2022. أنظر الرابط التالي: https://www.haaretz.co.il/news/politics/1.10631971 على الرغم من أن إسرائيل دانت الحملة العسكرية الروسية واعتبرتها منافية للقانون الدولي، فإنها في المقابل أكدت، في نص التصريح، على علاقاتها القوية، المتينة، وطويلة الأمد مع روسيا. وقد صاغت إسرائيل هذا التصريح مستندة إلى خطاب "إنساني" أكثر منه سياسي.Yair Lapid, “Israel Condemns Attack in Ukraine | Ministry of Foreign Affairs” (Jerusalem: Ministry of Foreign Affairs, 24 Feb, 2022), https://www.gov.il/en/departments/news/israel-condemns-attack-in-ukraine-24-feb-2022. فهي أوضحت أنها جاهزة لتقديم كل أنواع العون للمواطنين الأوكرانيين وليس إلى النظام الحاكم في أوكرانيا. ولأن إسرائيل وجدت نفسها، وبحكم علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، مضطرة إلى ابداء رأي أولي ضد روسيا، فإنها حاولت أن تصوغ التصريح بطريقة تدين التدخل العسكري الروسي ليس من منطلقات سياسية- تحالفية وإنما من منطلق أنها دولة اليهود وهي قلقة على الإسرائيليين القاطنين في كل من روسيا وأوكرانيا (في أوكرانيا لوحدها هناك حوالي 8000 إسرائيلي)، بالإضافة إلى المجتمع اليهودي الأوكراني (ويقدر عددهم بحوالي 200 ألف). ولهذا شمل التصريح الصحافي الذي أطلقه لبيد تخوفات تتعلق بمصير اليهود الأوكرانيين، وأعضاء الوكالة اليهودية والمدارس الدينية المنتشرة في العديد من أرجاء أوكرانيا. وفق هذا الصيغة التي تصور إسرائيل كدولة قلقة على رعاياها أكثر من كونها دولة ذات موقف سياسي واضح، هو ما دفع روسيا إلى "هضم" هذا التصريح وإن كان على مضض. ففي النهاية، وضعت روسيا إسرائيل في موقف حرج عندما اعتبر بوتين حربه على أنها حرب ضد النازية الجديدة في أوكرانيا. إسرائيل التي تعتبر نفسها "ضحية النازية" الأولى، قد لا تكون قادرة على الاصطفاف إلى جانب روسيا ضد "النازيين الجدد"، حسب التوصيف الروسي، وقد لا تكون قادرة على دحض الرواية الروسية بشكل علني ومباشر.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات