المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
حقل لفياثان للغاز.  (فلاش 90)
حقل لفياثان للغاز. (فلاش 90)

منذ شهور تعاني دولة لبنان من أزمة طاقة مستفحلة، ومن نقصان حاد في توريد الغاز الطبيعي والنفط، وهما من المواد الأساسية التي تقوم بتشغيل محطات الكهرباء الرئيسة فيها. في تشرين الأول 2021، توقفت محطتا الكهرباء الأساسيتان في لبنان عن العمل، وخيم الظلام على الدولة. أما الفرقاء السياسيون في لبنان فبدأوا، كل على طريقته، بتهريب الغاز عن طريق السوق السوداء.

ثمة خياران أمام لبنان، إذا ما استثنينا الحل الجذري المتعلق بإصلاح النظام السياسي، وهما: إما توريد الغاز عن طريق إيران وسورية، أو عن طريق مصر والأردن. بالنسبة للخيار الأول، فإن العقوبات المفروضة على إيران وسورية تحول دون تحقيقه. ولقد قام حزب الله بهذا الأمر بحماية عدة سفن قادمة من إيران إلى سورية ومنها إلى لبنان خلال العام 2021، بحيث أن أميركا وإسرائيل غضتا الطرف، بشكل مؤقت، عن هذا الاختراق الواضح للعقوبات الأميركية. بيد أن هذا الخيار قد لا يكون عملياً على المدى البعيد، إذ إنه قد يحول حزب الله إلى اللاعب الرئيس في إضاءة لبنان، وهذا بنظر الفرقاء السياسيين هناك أمر غير مقبول. تسفي برئيل، حنفية الغاز والوقود التي تورد إلى لبنان موجودة بيد إسرائيل، هآرتس، 10 تشرين الأول 2021. أنظر الرابط التالي: https://www.haaretz.co.il/news/zvibarel/.premium-1.10282433 في كانون الثاني 2022، استطاعت الولايات المتحدة التوصل إلى اتفاقيات أولية لتوريد الغاز إلى لبنان من خلال تعاون أردني- مصري- سوري، وهو ما رحبت به كل الأطراف. أما حزب الله فلم يعارض هذا الخيار البديل والذي يبدو عملياً في ضوء أوضاع لبنان الاستثنائية والتي تقربها من الانهيار أكثر من ذي قبل. وعلى ما يبدو، فإن ازمة الطاقة اللبنانية ستنتهي عما قريب بفضل هذا الاتفاق. غير أنه لا يوجد هناك غاز "عربي" خالص، بل إن تعقيدات البنى التحتية في أعماق البحر الأبيض المتوسط، وشبكة الأنابيب المعقدة هناك، تدل على أن الغاز الذي سيصل إلى لبنان عبر مصر، ثم الأردن، ثم سورية، هو في قسم كبير منه غاز إسرائيلي. هذه المقالة تلقي الضوء على ما يجري في أعماق البحر المتوسط، وعلى دور إسرائيل الاستعماري في أعماق المياه والذي يجعلها لاعبا رئيسا لا يمكن تجاهله مع أن كافة الأطراف لا تحبذ ذكره.
*****

بدأت إسرائيل باستهلاك غاز طبيعي من إنتاجها في العام 2004 بعد أن اكتشفت الطاقة الكامنة والمدفونة في أعماق البحر الأبيض المتوسط. بداية بدأ مشروع "يم تطريس" الإسرائيلي، والذي يبعد حوالي 25 كم عن مدينة عسقلان. ويضم هذا المشروع ثلاث آبار هي: نوعا، ميري بي، وبينكيس، والتي مجتمعة وفرت حوالي 17 مليون طن من الغاز الطبيعي. في العام 2013، بدأت إسرائيل بإنتاج الغاز الطبيعي من بئر تمار، والذي تقدر كمية الغاز فيه بحوالي 203 ملايين طن. ولاحقا تم اكتشاف بئر لفياتان والذي يحتوي على كمية مضاعفة لتلك الموجودة في بئر تمار. ثم تم اكتشاف بئر "كريش وتنين" والذي يحتوي على حوالي 47 مليون طن من الغاز. كل هذه الآبار دفعت إسرائيل إلى التوسع في مشروعها الاستعماري لتستوطن المياه وأعماقها لما فيها من موارد طبيعية تعتبر حيوية للحياة المدنية الحديثة. لكن الاستعمار المائي الإسرائيلي لم يتوقف عند اكتشاف الآبار والسيطرة عليها وسرقة مواردها. فالاستعمار ينطوي، وهذا هو الأهم من وجهة نظر سوسيولوجية، على علاقات قوة، وهرميات تراتبية تحتل إسرائيل فيها موقع المهيمن في مقابل دول أخرى أو شعوب أخرى تتم ممارسة الهيمنة الاستعمارية عليها. من هنا، توظف هذه المقالة مفهوم "الاستعمار المائي" للدلالة على علاقات القوة وليس فقط على سرقة الموارد المائية. فبعد أن كانت إسرائيل تستورد الغاز المصري وتعتبره شريان حياة، وجزءاً من مفهومها للأمن القومي، تحولت مصر إلى مستورد رئيس للغاز الإسرائيلي، خصوصا بعد اكتشاف بئري تمار ولفياتان، اللذين يحتويان على غاز ذي جودة عالية وكميات مهولة.

ومن هنا أيضاً، يمكن فهم علاقة إسرائيل الصراعية مع لبنان والتي تتركز في جزء أساس منها حول الحدود المائية. فبحسب تقدير الخبراء، لدى لبنان احتياطي من الغاز يصل إلى حوالي 1.8 مليار طن من الغاز، إضافة إلى حوالي 865 مليون برميل من النفط. بيد أن هذه الطاقة ما تزال مدفونة في أعماق البحر المتوسط وبالتحديد في المياه الاقتصادية للبنان، وهي ذات المنطقة المختلف عليها ما بين إسرائيل ولبنان وتشكل أساس كل الصراعات المتعلقة بترسيم الحدود المائية بين البلدين. في نهاية العام 2018، وافقت لبنان على تفويض مجموعة شركات فرنسية وإيطالية وروسية للقيام بمشروع مشترك للبدء باستخراج الغاز من بلوك 4 وبلوك 9 من المياه الاقتصادية للبنان. وبسبب الخلافات مع إسرائيل، قررت الشركات الأجنبية البدء ببلوك 4 والذي يقع خارج المنطقة المائية المتنازع عليها. وبناء على تطور أعمال الحفر والاستخراج، سيتم الانتقال إلى بلوك 9 والذي يحتوي على الكميات الأكبر لكنه يقع في عمق المنطقة المتنازع عليها مع إسرائيل. من المتوقع أن يتم الحفر في بلوك 9 اللبناني على مرحلتين، الأولى في شباط 2021، والمرحلة الثانية خلال 2022-2023، على أن يتم البدء باستخراج الغاز في وقت لاحق غير معلوم بعد.

في سياق التفاوض غير المباشر حول الحدود المائية، اقترحت إسرائيل تسوية مائية استناداً على أمكنة توزيع الغاز الطبيعي في المياه المتنازع عليها. حسب اقتراح إسرائيل، فإن لبنان تحصل على 55% من الغاز بينما تحصل إسرائيل على 45%، وهي قسمة لا تحق لإسرائيل بتاتاً حسب وجهة النظر اللبنانية. والأمر لا يتعلق فقط بالأموال الطائلة التي ستجنيها إسرائيل من خلال الاستيلاء على آبار نفطة وغازية تعتبرها لبنان تابعة لها، بل إن الأمر، ومرة أخرى من وجهة نظر مفهوم "الاستعمار المائي"، سيجعل طاقة لبنان مرهونة بعلاقات غير متكافئة مع إسرائيل. بمعنى أن إسرائيل ستكون شريكة في استخراج مصدر الطاقة الأهم لدى اللبنانيين، وبالتالي قد يوفر لها الأمر هامشاً عريضاً من المناورة، والتحكم غير المباشر في شؤون لبنان القومية، بالإضافة إلى ما يترتب على الأمر من ليّ ذراع الأحزاب اللبنانية التي تتصارع مع إسرائيل. هذا السيناريو الذي تم اقتراحه قبل حوالي سبع سنوات، والذي لاقى اعتراضاً صريحاً من أقوى اللاعبين في الساحة اللبنانية، مثل حزب الله، يعود في العام 2022 بنسخة مختلفة نوعاً ما.  هدار شوارتس، الخلاف الإسرائيلي- اللبناني حول الغاز (القدس: شركة يلين لابيد، شباط 2022). أنظر الرابط التالي: https://www.yl-invest.co.il/?CategoryID=673&ArticleID=757

أما الصيغة التي توصل إليها وزير الخارجية الأميركي، والتي حتى الآن تبدو مقبولة على كل من إسرائيل ولبنان، فتضع نصب عينيها الضائقة المالية المستفحلة في لبنان منذ شهور. ولأن أزمة لبنان الراهنة لا يمكن لها أن تنتظر ريثما يتم ترسيم الحدود المائية بشكل نهائي، فإن وزير الخارجية الأميركي اقترح أن يتم نقل الغاز من مصر إلى الأردن، ثم فيما بعد إلى سورية ومنها إلى لبنان. وبالتالي يتم ربط كل الدول المحيطة بإسرائيل من خلال شبكة توريد طاقة واحدة. بيد أن الامر يبدو أكثر تعقيداً إذا ما علمنا أنه لا يمكن الفصل، حالياً، ما بين الغاز المصري والغاز الإسرائيلي. إن إحدى أهم المسائل التي يمكن أن تلقي الضوء على مفهوم "الاستعمار المائي" ودور إسرائيل في الهيمنة على البحر، لا تكمن فقط في مواقع الآبار المكتشفة، وانما أيضا في شبكة خطوط الأنابيب التي تمتد تحت أعماق البحر، وتربط الآبار فيما بينها.

بداية هناك خطوط أنابيب العريش- عسقلان، والتي تعرف باسمها المختصر EMG، وهي تمتد على طول 90 كم وبدأ العمل بها العام 2008 لتوريد الغاز من مصر إلى إسرائيل. غير أنها تعمل اليوم في الاتجاه المعاكس أي من إسرائيل إلى مصر. ثم هناك مشروع أنابيب "إيست ميد" والذي يمتد على طول 2100 كم ويربط ما بين قبرص وإسرائيل واليونان وبدأ العمل به في العام 2020. ومهما يكن من أمر، فإن شبكات الأنابيب هذه تعتبر "وريداً" قد يمكن الدولة التي تقع في أوله من التحكم بالدولة التي تقع في نهايته، ومن هنا تنشأ علاقات القوة الاستعمارية التي ترغب إسرائيل في مدها عبر البحار لتوطيد هيمنتها على الدول المحيطة. وبالنسبة إلى مصر، والتي حسب مقترح وزير الخارجية الأميركي من المتوقع أن تكون هي المحطة الأولى التي يتدفق منها الغاز إلى الأردن وصولاً إلى لبنان، فإنها (أي مصر) كانت وقعت اتفاقيات غاز مع إسرائيل خلال الأعوام السابقة. في كانون الأول 2019، وافقت وزارة الطاقة الإسرائيلية على مشروع تصدير الغاز إلى مصر لمدة 15 عاما، بحيث تحصل مصر سنويا على 41 مليون طن من بئر لفياتان الإسرائيلية بالإضافة إلى 17 مليون طن من بئر تمار الإسرائيلية. لا يمكن التكهن فيما إذا كانت مصر وإسرائيل ستعيدان النظر في هذا الاتفاق ورفع نسبة الصادرات الإسرائيلية من الغاز لتلبية حاجات لبنان والتي ستحصل على الغاز من مصر، إلا أن الغاز الذي سيتم إرساله إلى الأردن ثم إلى لبنان، حسب المعطيات الحالية، يحتوي على غاز إسرائيلي بنسب ليست بسيطة. NS-energy, “Leviathan Gas Field, Leviathan Basin, Mediterranean Sea, Israel,” accessed February 19, 2022, https://www.nsenergybusiness.com/projects/leviathan-gas-field-mediterranean-sea/.

حسب الإعلام الإسرائيلي، فإن المحللين خلال الأيام السابقة لا يتوانون للحظة عن التفاخر بأن الغاز الإسرائيلي سيضيء لبنان قريباً، بما يشمل ملاجئ حزب الله العسكرية. وسواء تم توريد الغاز إلى لبنان من مصر وفق الصيغة المقترحة أو لم يتم، فإن الأمر يعكس الدور الحيوي الذي بدأت إسرائيل بلعبه في مياه المتوسط منذ حوالي عقدين، والذي من شأنه أن يعيد اصطفاف العلاقات الإقليمية استناداً إلى مفاهيم الأمن القومي، وأمن الطاقة، وطبيعة علاقات القوة التي تجمع كافة دول المنطقة.

 

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات