المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
 من تسليح ميليشيات المستوطنين المسلّحين خلال الهبّة
من تسليح ميليشيات المستوطنين المسلّحين خلال الهبّة

"نحن نستبدل الشرطة والجيش"؛ "... نحن في حرب الاستقلال"- هكذا عبّر قائد عصابة من المسلّحين بمسدسات وأسلحة رشاشة مكونة من مستوطنين يهود جاؤوا من المستوطنات الإسرائيلية المقامة على الأراضي الفلسطينية بين النهر والبحر، مع اختفاء واضح للخط الأخضر، لـ "استعادة الردع اليهودي" و"مهاجمة العرب" و"لمساندة وحماية اليهود من الهجمات العربية"، خلال أحداث هبّة أيار من العام الماضي، والتي اندلعت على خلفية عمليات التطهير العرقي في حيّ الشيخ جرّاح في القدس وحيّ العجمي في يافا والضفة الغربية وغيرها من ممارسات المستوطنين وسياسات الدولة الإسرائيلية الاستعمارية الاستيطانية بحقّ الفلسطينيين في تجمّعاتهم الأربعة على امتداد فلسطين التاريخية، ووصلت ذروتها في اندلاع الحرب على غزة، ومواجهات مع الاحتلال ومستوطنيه عمّت كل التجمّعات الفلسطينية، التي باتت وحدة واحدة في مواجهة منظومة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلية، وتجلّى ذلك بصورته الأوضح في إضراب يوم 17 أيار الذي عمّ أرجاء فلسطين بين النهر والبحر.

نركّز في هذه المساهمة على ظاهرة برزت خلال الهبّة: ظاهرة الميليشيات المسلّحة لقطعان المستوطنين الذين هاجموا العرب وممتلكاتهم في مدن اللّد والرملة ويافا وغيرها من المدن والبلدات الساحلية، وجاء جزء كبير منهم من مستوطنات شمال الضفة الغربية، وأقاموا في مقرّات ومبان تم توفيرها لهم من قِبَل الدوائر الرسمية الإسرائيلية (مبنى رئاسة بلدية اللّد مثلاً) والتي شهدت عملية شبيهة بـ"التعبئة الحربية"، لكن على شكل ميليشيات وعصابات مسلّحة، استخدمت وسائل التواصل الاجتماعي للحشد والتعبئة والتحريض على قتل العرب وحرق ممتلكاتهم، في إطار ما عُرف بعمليات "حماية يهود اللّد من العرب" و"تطهير اللّد من العرب"، وانتظمت في مجموعات انطلقت إلى الشوارع بحماية ومساندة قوات الشرطة وحرس الحدود الإسرائيلية التي شاركت هذه الميليشيات- كما ظهر في مقاطع فيديو مصوّرة نشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي- في مهاجمة العرب والاعتداء على منازلهم بوحشية وإحراق البيوت والممتلكات العربية على مدار فترة الهبّة، التي ارتقى خلالها الشابان محمد كيوان من أم الفحم وموسى حسونة من اللد شهيدين برصاص المستوطنين والوحدات الخاصة التابعة للشرطة والجيش.

تُشير بعض التقارير الإسرائيلية، وهي محدودة، إلى أن ضبّاط احتياط- قادة وحدات وكتائب في الجيش الإسرائيلي- أشرفوا على عمليات هذه المجموعات التي ينحدر غالبية أعضائها من تيار الصهيونية الدينية ووصلوا إلى اللّد من المستوطنات الإسرائيلية الجاثمة على أراضي الفلسطينيين شمال الضفة الغربية، أو ما يُعرف بـمستوطنات "سفوح الجبال"، بشكل حول هذه المباني لما يُشبه "القلاع اليهودية"، يتم فيها تحديد الأهداف العربية التي سيتم مهاجمتها وفق خطط وتعليمات شبيهة بالخطط العسكرية.

تُصنّف مستوطنات "سفوح الجبال" إسرائيلياً على أنها مستوطنات أيديولوجية، تضم تيار المستوطنين الأكثر تطرّفاً وعنصرية؛ إذ يتبنّى هؤلاء الفكر الاستيطاني الصهيوني، ذا الطابع الديني- القومي، كأيديولوجيا ونمط حياة، ويُكنّون العداء الشديد للعرب، يتمثّل ذلك في انضواء هؤلاء ضمن مجموعات إجرامية مثل "شبيبة التلال". ومستوطنات "سفوح الجبال" هي "إيتمار"؛ "ألون موريه"؛ "هار براخا" و"يتسهار" بالإضافة إلى المستوطنتين الزراعيتين "جفعات عولام" و"حفات جلعاد"، وتقع في منطقة "جبال السامرة الشرقية"- كما يُطلق عليها إسرائيلياً- أي المنطقة التي تضم قرى عقربا، حوارة، بيتا، عورتا، عصيرة القبلية، عينبوس، عوريف، بورين، عزموط، سالم ودير الحطب الفلسطينية إلى الشرق من مدينة نابلس. وتنحدر فكرة مستوطنات "سفوح الجبال" من نمط مستوطنات "السور والبرج"- "حوما فمجدال" - وهو أحد أنماط الاستيطان اليهودي الذي سبق إقامة الدولة، فقد أُقيمت هذه المستوطنات خلال الفترة الممتدة ما بين 1936-1939، بهدف تسريع عملية سيطرة اليهود على الأراضي، ولتجنّب التشديدات التي كانت تفرضها بريطانيا على الاستيطان، في بعض الأحيان، وفق اعتبارات سياسية وأمنية، وتضمنّت تحصينات عسكرية كالأبراج، الأمر الذي أكسبها هذه التسمية لاحقاً.

تشكّلت هذه العصابات من خليط المستوطنين القادمين من مستوطنات "سفوح الجبال"، وتحديداً مستوطنة "يتسهار" وعلى رأسهم المستوطن اليميني المتطرّف عكيفا هكوهين، بالإضافة إلى مستوطني المدرسة الدينية التابعة للصهيونية الدينية في مدينة اللّد، التي أُقيمت ضمن ما يُعرف بمشروع "استيطان القلوب" الاستيطاني،للمزيد حول مشروع "استيطان القلوب" ومشاريع "الأنوية التوراتية"، أنظر/ي:
عبد القادر بدوي، استيطان الأرض والقلوب: عن "أنوية التوراة"!، مدار، مُلحق المشهد الإسرائيلي، 26.04.2021، https://bit.ly/2ZEHFkD.
والذي تُرجم عملياً في إقامة عشرات مشاريع "الأنوية التوراتية" في المدن الساحلية- "المدن المختلطة" بحسب التسمية الإسرائيلية- كذلك أعضاء جمعية "لافاميليا" اليمينية المتطرّفة وغيرهم. ويقول أحد أفراد العصابات التي هاجمت اللّد: "(...) أمّا الآن فالأمر مختلف؛ إنهم {أي الفلسطينيون في اللّد}، يتلقّون الروح المعنوية والدعم من غزة (...) نحن في حرب في قلب الدولة". يهوشع براينر، مسلّحون بمسدسات وكيباه: أعضاء الصهيونية الدينية وقفوا دفاعاً عن "يهود اللّد"، هآرتس، 14.05.2021، https://bit.ly/3LtSmKo. (بالعبرية).

هكذا بات الوضع إذاً خلال انتفاضة الفلسطينيين في اللدّ؛ قيادة الشرطة على رأس وحدات من الشرطة وحرس الحدود من ناحية، شخصيات يمينية واستيطانية متطرّفة مثل عكيفا هكوهين من مستوطنة "يتسهار" على رأس عصابات ميليشيات مسلّحة من المستوطنين تنتظم في مجموعات من ناحية أخرى، بالإضافة إلى شخصيات سياسية ورسمية بارزة مثل عضوي الكنيست بتسلئيل سموتريتش (رئيس حزب الاتحاد القومي- تكوما)، إيتمار بن غفير (رئيس حزب "عوتسما يهوديت")، ويائير رفيفو (من حزب الليكود ورئيس بلدية اللّد) الذي منح المستوطنين مبنى البلدية لتنظيم أنفسهم وحشد قواتهم، تواجدت لتقديم الدعم ليهود اللّد، والهدف، حتى بالنسبة للشرطة، هم العرب الفلسطينيون ومنازلهم وممتلكاتهم الذين حاولوا التصدي لهذه الهجمات عبر ما أُتيح لهم من وسائل الصمود في وجه هذه الهجمات، التي استمرّت على مدار أيام الهبّة التي بدأت بمواجهات مع الشرطة والمستوطنين في أيار المنصرم بعد أحداث حيّ الشيخ جرّاح واستشهاد الشاب حسّونة.

يُشير أنس إبراهيم في معرض البحث في الخلفيات النظرية للبلطجة الاستيطانية- مستنداً بذلك إلى طرح نير غازيت حول ظاهرة القصاصية الاستيطانية Vigilantism- إلى أنه بموازاة الأحداث التي شهدتها فلسطين من البحر إلى النهر، تولّد شعور يهودي بقلق "سيادي"، وهو ما دفع السلطة الرسمية في إسرائيل للسماح بـِ، وتفويض، فاعلين "غير رسميين"- المستوطنين- "بحيازة امتيازها الحصري بممارسة العنف وحيازة أدوات إنتاجه"، عبر الاستعانة بالمليشيات الاستيطانية اليهودية في عملية "استعادة السيطرة" على المدن والبلدات في الداخل، واستعادة الردع الصهيوني في ظلّ "تمرّد العرب" ضدّ المؤسسة الرسمية، وتفعيلها لارتكاب جرائم القتل وإحراق الممتلكات والمساجد والتهديد بارتكاب المجازر، في إطار عملية يأخذ المستوطنون فيها على عاتقهم مهمّة حماية النظام السياسي والحفاظ عليه، إلى حدّ تقويمه وإرجاعه إلى مساره الاستعماري الصهيوني الأولي المُتفق عليه يهودياً؛ والقاضي باستعمار فلسطين بأكملها والاستيطان فيها والسيطرة عليها، وتصحيح أي انحراف عن هذا المعيار. ويخلص إبراهيم إلى أن هذه العملية لا يُمكن وصفها وتفسيرها بالقصاصية التي يطرحها غازيت (Vigilantism)؛ بل بالبلطجة الاستيطانية.أنس إبراهيم، عن البلطجة الاستيطانية.. خلفيات نظرية وتاريخية، مدار، مُلحق المشهد الإسرائيلي، 26.07.2021، https://bit.ly/3JpDaMg.

ويُشير تقرير لمؤسسة "هيومان رايتس ووتش" إلى أن قوات الأمن الإسرائيلية استخدمت العنف المفرط لتفريق مظاهرات الفلسطينيين السلميين في اللّد خلال الهبّة، ليس كذلك فحسب؛ بل استخدمت الخطاب التحريضي الرسمي للمسؤولين الإسرائيليين ضد الفلسطينيين، ومنحت امتيازاً لليهود الإسرائيليين على حساب الفلسطينيين، من خلال الانحياز الواضح لليهود المتطرّفين الذين هاجموا الفلسطينيين وممتلكاتهم، خصوصاً للمجموعات اليهودية المتطرفة ضمن "الأنوية التوراتية" التي تسعى إلى تعزيز الهوية اليهودية لمدينة اللّد على حساب الفلسطينيين العرب، ووقفت متفرّجة، في "أحسن" حالاتها، إبّان مهاجمة اليهود للسكان الفلسطينيين وممتلكاتهم.لمراجعة التقرير كاملاً، أنظر/ي: https://bit.ly/3HND1C4.

لقد شكّلت أحداث هبّة أيار المنصرم تجلياً لنتائج مرحلة زمنية امتدّت على مدار عقود مضت، حاول فيها اليمين الاستيطاني، الديني- القومي، بما يُمثّله ويحمله من أيديولوجيا وخطاب وسلوك استيطاني استعلائي يهودي عنصري، السيطرة على كافة مناحي الحياة في إسرائيل، ليس في الفضاء السياسي فحسب؛ بل أيضاً في الفضاء الاجتماعي- المدني، وتحديد منطق عمل النظام الرسمي- الدولة، في التعامل مع الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية بين البحر والنهر، وكذلك منطق عملها في نَظم العلاقات الداخلية اليهودية، وإن كان بدرجة أقل. وقد شهدت هذه العملية إعادة المستوطنة، بما تمثّله من خطاب أيديولوجي- سياسي- ديني، وأجندات وممارسات أيضاً، إلى المقدّمة، كقائد للمشروع الاستيطاني اليهودي في فلسطين، وكمسؤول عن صياغة أجندة الدولة الإسرائيلية الرسمية- كأداة لـ"تحقيقه"، في مسعى واضح لترميم، وإعادة إنتاج "القومية اليهودية" في وضع تُصبح فيه، ومن خلاله، كل مساحة فلسطين التاريخية "أرض إسرائيل الكاملة"، التي يجب أن تكون فيها "السيادة الفعلية" لليهود فقط. على الصعيد المقابل؛ وجد الفلسطينيون على جانبي الخط الأخضر أنفسهم في ظلّ عملية الاستقواء التي تعيشها المستوطنة، في حالة من النضال المشترك ضد المنظومة الاستعمارية الاستيطانية اليهودية، بعد أن تأثّر هذا النضال على مدار عقود بالتقسيمات الجغرافية التي فرضها المستعمِر والاتفاقات معه ولو لبعض الوقت، ووصل ذروته في يوم إضراب 17 أيار الشهير، وتعزّزت حالة الشعور الجمعي لدى الفلسطينيين. أخيراً؛ يمكن القول إن هذا الوضع سيظلّ قائماً ومفتوحاً على سيناريوهات وخيارات قد تتجاوز خيارات سياسية للفلسطينيين قائمة في الوقت الحالي، طالما استمرّت العلاقة الجدلية بين الاستيطان والاحتلال من جهة، وبين الاستيطان والمواطنة من جهة أخرى، وفق ما هو قائم في الوقت الراهن، وهي قد تكون كفيلة، إلى جانب عوامل أخرى، بإعادة موضعة المسألة الفلسطينية في السياق التاريخي المُمتدّ منذ أكثر من قرن، ويُعيد القضية الفلسطينية إلى مربّع الصراع الأول (نقطة البداية)، على حدّ تعبير هنيدة غانم.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات