المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
إطلاق النار على  قنّاص حرس الحدود برئيل حداريا شموئيلي من النقطة صفر.
إطلاق النار على قنّاص حرس الحدود برئيل حداريا شموئيلي من النقطة صفر.

بعد أن تجندت معظم الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية في مطاردة الأسرى الفلسطينيين الستة، وتم فتح غرفة عمليات تضم أجهزة الشاباك، الجيش، الشرطة، المستعربين، ووحدات نخبة في هيئة الأركان، وبعد أن استعانت هذه الأجهزة بطائرات مُسيرة، وتكنولوجيات التنصت والتتبع، كانت وحدة قصاصي الأثر هي بالذات من نجح في الوصول إلى محمد العارضة وزكريا الزبيدي يوم السبت 11 أيلول الحالي. أو هكذا روّج الاعلام الإسرائيلي الذي ركز على الجنود البدو داخل وحدة قصاصي الأثر. حتى السنوات القليلة السابقة، اعتبر الجيش الإسرائيلي بأن وحدة قصاصي الأثر قد عفا عليها الزمن، وأنها على أبواب الانقراض بفعل الاعتماد المتزايد لآليات الرقابة والتتبع على الأتمتة والحوسبة والذكاء الصناعي القائم على خوارزميات معقدة. أنظر النشرة الصادرة عن الجيش الإسرائيلي على الرابط التالي: https://bit.ly/3CqE4ot بعد إعادة اعتقال العارضة والزبيدي، بدأ الإعلام الإسرائيلي يعيد الاعتبار إلى وحدة قصاصي الأثر في الجيش الإسرائيلي كذراع لا يمكن الاستغناء عنه، أو على الأقل بدأ يظهر خطابا جديدا بأن التكنولوجيا غير قادرة على أن تستبدل مهارات "القصّاص البدوي" التي تدمج ما بين معرفة الطبيعة وامتلاك حس الفراسة العالي.

وحدة قصاصي الأثر التي اعتقلت العارضة والزبيدي تدعى "مِرعول"، وتأسست العام 2014 بعد استخلاص العبر من حملة "عودة الأبناء" التي أعقبت خطف ثلاثة مستوطنين في الخليل. في حينها لم تكن أمام المخابرات الإسرائيلية أدلة كافية سوى تتبع الآثار التي خلفها الخاطفون في شوارع وجبال الخليل. وحدة "مرعول" تضم حوالي 60 عنصرا، معظمهم ليسوا بعرب، وإنما إسرائيليين من الجيش الاحتياطي ويضمون علماء آثار، أدلاء سياحيين، مهندسين، علماء نباتات، جيولوجيين بالإضافة إلى قصاصي أثر بدو. والوحدة مختصة في طوبوغرافيا الضفة الغربية، وهذه هي المرة الأولى التي تعمل داخل إسرائيل. ثلاثة عناصر من هذه الوحدة تم استدعاؤهم على عجل في ليلة الجمعة 10 أيلول بعد وصول بلاغ من سائق جرافة زراعية في منطقة أم الغنم في الجليل. أحد العناصر الثلاثة، وهو إسرائيلي يدعى روعي سيمون، بدأ بتتبع الآثار من المكان الذي وصلت منه إشارة السائق. يوآف زيتون، أعقاب سجائر وقنينة عصير: ثلاثة قصاصي أثر من الاحتياط استرجعوا مسار الهروب ووصلوا الى الزبيدي، يديعوت أحرونوت، 11 أيلول، 2021. أنظر الرابط التالي: https://bit.ly/3zrGUYw لكن هذه التفاصيل التي قد تعتبر هامة، غابت عن الإعلام الإسرائيلي الذي تجند لمقابلة قصاصي الأثر البدو، وحاول أن يختزل عملية المطاردة الأخيرة بحس الفراسة الذي يمتلكه البدوي. ومن هنا تم الخلط ما بين وحدة "مرعول" وما بين وحدة قصاصي الأثر التابعة للجيش الإسرائيلي والتي تعتبر بالفعل وحدة بدوية.

في الحقيقة، تأسست وحدة قصاصي الأثر التابعة للجيش في العام 1970 من قبل اثنين من الضباط الإسرائيليين المنحدرين من أصول بدوية. الأول هو عبد المجيد المزاريب من قرية الناعورة في الجليل، والذي انضم إلى الجيش الإسرائيلي في أثناء حرب العام 1948، وغير اسمه إلى عاموس يركوني ثم تطور ليصبح برتبة مقدم وقائد الوحدة 424. ويكيبيديا، عاموس يركوني، 2021. أنظر الرابط التالي: https://bit.ly/3CgiKBQ. أما الثاني فهو حسين الهيب، وهو أول ضابط إسرائيلي بدوي يصل إلى رتبة عقيد. الإثنان كانا من أوائل قصاصي الأثر الذين مأسسوا عمل الوحدة لتصبح ذراعا أساسيا داخل سلاح المشاة في الجيش الإسرائيلي. وتضم وحدة قصاصي الأثر حاليا 5 سريات (كل سرية ما بين 50-250 عنصرا)، وتنشط في المناطق الحدودية، خصوصا مع قطاع غزة، والحدود الإسرائيلية مع سيناء ولبنان وسورية. ويكيبيديا، وحدة القصاصين، 2021 https://bit.ly/3CABn3R. بالإضافة إلى هذه الوحدة، هناك العديد من القصاصين الذين يعملون في جهاز الشرطة، المخابرات، بالإضافة إلى وحدات خاصة مثل "مرعول" والتي لا تتبع مباشرة إلى وحدة قصاصي الأثر البدوية.

ويقوم قصاصو الأثر بالعديد من المهمات، ابتداء من محاربة تهريب المخدرات من سيناء إلى إسرائيل، وصولا إلى مهمات تعتبر أمنية مثلما حدث في ذروة انتفاضة الأقصى إبان محاولات الاستشهاديين الفلسطينيين التسلل إلى داخل إسرائيل. ويمكن القول بأن هناك نوعين من النشاطات التي يقوم بها قصاص الأثر البدوي. الأولى، التزام قصاص الأثر بحيز جغرافي محدد لمدة طويلة جدا ودراسة معالمه بشكل دقيق. هذا النشاط رائج في المناطق الحدودية. مثلا، عندما يتم استبدال وحدة الجنود والضباط المرابطين في منطقة حدودية معينة، وإرسال وحدة جديدة، فإن القصاص يبقى في المنطقة ولا يتم استبداله باعتباره "ذاكرة المكان" والتي لا داعي إلى إعادة بنائها من جديد في كل مرة. مثلا، في العام 2004، وصلت وحدة جنود جديدة إلى الحدود اللبنانية، وقبل أن تترجل للتعرف على معالم المكان، بدأ القصاص البدوي بعمله. وقد لاحظ صخرة صغيرة جدا ذات لون أكثر احمرارا من باقي الصخرات التي لطالما حفظ لونها. وعندما قام بتمشيط المنطقة معتقدا بأن ثمة من داس في هذا المكان، وجد ثلاث عبوات ناسفة. شاي ليفي، الكشف عن أسرار التعقب: هكذا تعمل وحدة قصاصي الأثر، يديعوت أحرونوت، 2014، https://bit.ly/3khdrvK.

النشاط الثاني لقصاصي الأثر، هو عدم المرابطة في مكان جغرافي محدد، وإنما التجول عبر الطبيعة وتعلم كيفية قراءة سطح الأرض باعتباره لوحاً يحفظ شهادات وبيانات قد تخبرنا الكثير عن كل من مر من هنا، وإلى أين اتجه، ومتى عبر المكان. بل إن القصاص هنا قد يكون قادرا على تعلم سلوك الشخص الذي عبر المكان وتخمين طرق اختبائه والخيارات المتاحة أمامه من خلال تحليله للآثار التي خلفها. مثلا، وحدة "مِرعول" التي عثرت على العارضة والزبيدي استطاعت أن تميز أعقاب سجائر الأسيرين من بين العديد من النفايات، وبعض الزجاجات التي شرباها، ومن ثم معرفة في أي اتجاه كان من ألقى السجائر متجها، وصولا إلى العثور على آثار خطوات نعل الزبيدي. إيتاي بلومنتال، مرعول: وحدة قصاصي الأثر التي حددت موقع الزبيدي، كان، 2021، https://bit.ly/2VNROtE. هذا النوع من قص الأثر يحتاج إلى تدريبات متقدمة تتطلب بالضرورة مهارات تتعلق بعلم النفس وقراءة لغة الآثار.

هذا قد يعني أن قص الأثر، كمهنة، ليس حكرا على البدوي. بل إن هناك اسطورتين تتعلقان بالبدو في إسرائيل لا بد من تفنيدهما في هذا المناسبة: الأولى هي الاعتقاد السائد بأن معظم البدو يتجندون للخدمة في الجيش الإسرائيلي. هذه الأسطورة عارية عن الصحة، بل إن نسبة التجنيد في أوساط الشبان البدو وصلت في أحسن حالاتها إلى 6-7% فقط، وحتى هذه النسبة جاءت نتيجة لحملات ترويج وتجنيد مكثفة قام بها مختصون في الجيش الإسرائيلي. رأفت أبو عياش، ما وراء الأرقام الإسرائيليّة الرسميّة للتجنيد في النقب؟، عرب 48، 2019، https://bit.ly/3CpcIyK. الأسطورة الثانية تتعلق بالاعتقاد السائد، حتى في الثقافة الإسرائيلية، بأن البدوي خلق ليكون قصاص أثر، وأن هذه المهارة لا يتقنها سوى البدوي الذي طور في جيناته علاقة سحرية مع الطبيعة. وهذه نظرة استشراقية تنظر إلى البدوي كفرد غير متطور، بل إن عدم تطوره هو ما يجعله كنزا نادرا يمكن الاستفادة منه من قبل الجيش الإسرائيلي الحديث. لكن في الحقيقة، فإن وحدة قصاصي الأثر هي وحدة إسرائيلية حديثة، ومؤخرا بدأت تستدخل تكنولوجيا معقدة، الأمر الذي يبين زيف الأسطورة القائلة بأن نظرة البدوي ساحرة، وأن لديه قدرة مرهفة على سماع تفاصيل الطبيعة.

مثلا في إسرائيل هناك مدرسة قصاصي الأثر، وهي مدرسة عسكرية تابعة للجيش الإسرائيلي وموجودة في القاعدة العسكرية المسماة "لخيش" في لواء الوسط، وفيها يتعلم قصاص الأثر لمدة 12 أسبوعا. ثم يلي ذلك كورس إضافي مدته 6 أسابيع قبل أن يصبح القصاص مؤهلا للالتحاق بالجيش. في خلال هذه الأسابيع، يتم تدريب القصاصين البدو من قبل خبراء إسرائيليين وفق أحدث نظريات التتبع، والقصاصة، وقراءة الطبيعة. ويكيبيديا، وحدة القصاصين. بمعنى أن البدوي لا يولد قصاصا، وإنما يتم صناعته ليصبح قصاصا، على أن هذه الصناعة موجهة بشكل شبه حصري تجاه الشبان البدو، ليس لكونهم يملكون صفات خاصة فوق طبيعية، وإنما ببساطة لأن قص الأثر مصنف في الثقافة العسكرية الإسرائيلية كمجال خدمة رديء وغير مرغوب ولا يجلب الاحترام والتفاخر للمنتسب اليه كما هو الحال في وحدات عسكرية أخرى مثل سلاح الجو، أو التجسس، أو التكنولوجيا. بل إن البدو الذين يصلون إلى مرحلة الثانوية في المدرسة يتم إرسالهم للخدمة في وحدات جيش قتالية، بينما أن البدوي غير المتعلم، والذي لا يعتبر مؤهلا ذهنيا أو معرفيا ليكون ندا لزملائه الجنود، يتم إرساله إلى وحدة قصاصي الأثر.

في مدرسة قصاصي الأثر العسكرية، يتم تدريب البدو على التعامل مع كل ظروف الطبيعة، بما يشمل أراضي وجبالا غريبة عن بيئتهم الأصلية. كما يتم تدريبهم لقص الأثر في كل فصول السنة وتحت أي ظرف مناخي. كما أن قصاصي الأثر يتعلمون أيضا كيف يعملون من داخل غرفة عمليات مشتركة ليتلقوا الأوامر من قبل المخابرات ثم يعودون ويغذون قاعدة البيانات الاستخباراتية بتفاصيل دقيقة من الطبيعة، على أن يبقى العقل المفكر والمحلل لكل البيانات هي المنظومة الأمنية الاستخباراتية التي يشكل قصاص الأثر ربما أحد أجزائها، لكنه بالتأكيد ليس الجزء الأهم. بعد حملة الجيش الإسرائيلي في العام 2014 والتي سميت "عودة الأبناء"، والتي من خلالها تجندت إسرائيل للبحث عن المستوطنين الثلاثة المخطوفين في الخليل، تم تطوير وحدة "مرعول"، لكن أيضا تم تطوير عمل وحدة قصاصي الأثر البدوية لتبدأ باستخدام تكنولوجيا عسكرية متقدمة مثل الـ GPS، نظم التحكم والمراقبة، تقنية الأشعة تحت الحمراء والأقمار الصناعية.

مع أن جنود احتياط إسرائيليين من وحدة "مرعول" هم الذين ساهموا في العثور على العارضة والزبيدي، الا أن وحدة قصاصي الأثر البدوية داخل الجيش الإسرائيلي هي بالذات التي تم وضعها في مقدمة المشهد الإعلامي في إسرائيلي. والسبب على ما يبدو ليس أهمية عمل الوحدة بحد ذاتها، وإنما أهمية الحديث عن دور البدوي داخل الجيش واستخدام ذلك كقصة ملهمة قد تدفع إلى تجنيد المزيد من البدو الراغبين بالاستفادة من الجيش الإسرائيلي لفتح آفاق جديدة في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية. حتى اليوم تعجز المنظومة العسكرية الإسرائيلية عن تحويل التجنيد في صفوف البدو إلى ظاهرة واسعة النطاق. وما بين العام 2015 والعام 2017، وصل عدد المجندين من المجتمع البدوي إلى ما معدل 350-450 سنويا. وتقوم الحركة الإسلامية- الجناح الجنوبي بمحاربة هذه الظاهرة، كما أن عضو الكنيست السابق طلب الصانع والذي يأتي من أصول بدوية كان يرفض تجند البدو في الجيش الإسرائيلي. رأفت أبو عياش، مصدر سابق. واليوم، تحاول المنظومة الإعلامية الإسرائيلية، وأجهزة الجيش أن ترفع من شأن ومكانة البدوي وأهميته التي لا يمكن الاستغناء عنها مستندة إلى أن من استطاع في نهاية المطاف الوصول إلى الأسرى الهاربين، كان القصاص البدوي بالتحديد.

 

المصطلحات المستخدمة:

يديعوت أحرونوت, شاي, الكنيست

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات