المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
في موقع العثور على جثة عجوز إسرائيلية وحيدة ميتة في شقتها  في القدس المحتلة في نيسان 2019. (الصورة عن "فلاش 90").
في موقع العثور على جثة عجوز إسرائيلية وحيدة ميتة في شقتها في القدس المحتلة في نيسان 2019. (الصورة عن "فلاش 90").

وجدت فرق الإنقاذ وخدمات الدفن العام الماضي 2020 في إسرائيل، 158 مواطنا، معظمهم من المسنين، وهم أموات في بيوتهم وحيدين، بدون أن ينتبه لهم أحد إلا بعد مرور فترات متباينة من الزمن. بينما في العام الذي سبقه 2019 كان عدد الضحايا 132 إنساناً. وفي العام 2018 كان عدد الأموات الوحيدين 104، وفي العام 2017 كان عدد هؤلاء المواطنين المتروكين وحيدين في وجه الموت 98 إنسانا. يمكن القول إن العدد ارتفع جديّاً خلال 5 أعوام.

تعتمد هذه الأرقام على معطيات منظمة "زكا" وهي اختصار لـ"تشخيص ضحايا الكوارث"، منظمة تطوعية أقامها يهود من الأوساط المتدينة لمساعدة الشرطة وفرق الإنقاذ خلال وبعد وقوع كارثة أو عملية تفجيرية. ويصل المتطوعون في هذه المنظمة سريعاً إلى ميادين الحوادث ومواقع التفجيرات في مختلف أنحاء إسرائيل ويشرعون في تجميع أشلاء القتلى. وبدأت المنظمة في السنوات القليلة الماضية بتقديم مساعدة في البحث عن مفقودين.

منذ مطلع هذا العام حتى تموز الفائت، قالت بيانات "زكا" إنه جرى العثور على نحو 53 مسناً وهم أموات في بيوتهم. ويصف متطوعو المنظمة مشاهد فظيعة إذ كان قسم من جثامين الضحايا في مراحل متقدمة من التحلّل. عادة ما تكون أسباب الموت حوادث ناجمة عن أمراض أو حوادث سقوط في البيت تسببت للضحايا بإصابات منعتهم من القدرة على طلب العون. وتتحدث المنظمة عن حالات قليلة كان سبب الموت فيها هو الانتحار.

يقول متطوع من المنظمة وفقاً لموقع "واللا" العبري، مطلع تموز الفائت: إننا نناشد العائلات والجيران ووكالات الرعاية الاجتماعية الاهتمام بهؤلاء الأفراد (الوحيدين) وتوخي اليقظة. هؤلاء أناس لا يسمعهم أحد في أوقات الشدة، ويموتون في عذاب شديد ومؤلم وحزين وحيدين. لو كان هناك من يهتم بهم وأظهر عاطفة تجاه حالتهم، لكان من الممكن منع موتهم. العديد من هذه الحالات تنتهي بالموت. وكرر المناشدة بإبداء التضامن والتكافل الاجتماعي وإبداء رهافة الحس تجاه الجار.

دراسة: أكبر مخاوف المسنين الموت وحدهم في منازلهم

تمار نجلر (25 عاماً)، هي المبادرة لإقامة منظمة اسمها "نحافظ على تواصل" وناشطة اجتماعية في حيفا، وتعكف هذه الفترة على مشروع بحث يدرس تأثير وباء كورونا على كبار السن من الرجال والنساء. وكما قالت لموقع "دفار" العبري (حزيران الفائت) فإنها قابلت 20 من كبار السن في مدينة حيفا، ووجدت أن أكبر مخاوف معظمهم هو أنهم قد يموتون وحدهم في منازلهم من دون أن يعلم أحد بذلك. وتنوّه: إنهم يربطون بين إخراجهم من أنظمة وبرامج الدعم أثناء تفشي وباء كورونا وبين حقيقة أنه إذا حدث لهم شيء فعلى الأغلب لن يعرف بذلك أحد.

وفقاً لما تقول نجلر فإن الصعوبة تكمن في غياب الحوكمة الذي فرض عدم الاستقرار السياسي على السلطات المحلية، وخصوصاً حقيقة أن الدولة تعمل منذ 3 سنوات بدون ميزانية. (بموجب معلقين اقتصاديين في عدة وسائل إعلام، منع رئيس الحكومة السابق، بنيامين نتنياهو، المصادقة على ميزانية لإبقاء إمكانية التوجه إلى انتخابات جديدة قائمة، وانتظار فرصة تشكيل حكومة جديدة تسمح له بسن قوانين تتيح له الإفلات من المحاكمة في تهم فساد خطيرة).

وفقاً لبحث أجري في معهد الكنيست للأبحاث والمعلومات، العام 2016، يسود شرائح عديدة من المسنين بدرجات عالية الشعور بالوحدة، المرتبط بالخوف من الموت دون علم أحد. ويقدم البحث معلومات عن الشعور بالوحدة بين كبار السن وإحصاءات عن كبار السن في إسرائيل الذين يعانون من الوحدة. ويستند البحث إلى المعلومات التي قدمتها الوزارات ذات الصلة.

فجوة بين الروابط الاجتماعية المرغوبة وبين تلك المتاحة

يتم تعريف الوحدة في البحث الأكاديمي على أنها فجوة – يعيها الفرد ذاتياً - بين الروابط الاجتماعية المرغوبة للشخص وتلك التي يعتقد أنها متاحة له (هذا شعور لا علاقة له بعدد الأشخاص من حوله)، والتي يمكن أن تؤدي إلى المعاناة، والضعف الشديد وحتى وصولاً إلى الميول الانتحارية. البيانات المستندة على معطيات مكتب الإحصاء المركزي تفيد أن الشعور بالوحدة يزداد كلما تقدم المسن أكثر في العمر. فمثلا في الفئة العمرية 65–74 عاماً نسبة من أفادوا بشعور بالوحدة على أحيان متقاربة هي نحو 32%، بينما لدى الفئة العمرية من سن 75 عاماً فما فوق وصلت النسبة نحو 43%. ولاحظ البحث أن الشعور بالوحدة أكبر لدى المسنات مما هو لدى المسنين؛ وأكبر أيضاً لدى المسنين العرب قياساً بالمسنين اليهود.

وفقاً لمعطيات مكتب الإحصاء المركزي، يُتوقع في إسرائيل ارتفاع متواصل في نسبة المسنين داخل هذا المجتمع. ويدل توزيع السكان بصورة عامة بحسب الفئة العمرية في العام 2017 على أن الفئة العمرية 65 عاماً فما فوق تشكل نحو 11.5%، أمّا نسبة المسنين الذين يبلغون من العمر 75 عاماً فما فوق في المجتمع الإسرائيلي، بكل فئاته، فوصلت في 2017 إلى 4.8% بين السكان، وإلى 5.8% بين اليهود، وإلى 1.7% بين الفلسطينيين.

على سبيل المقارنة، يوجد في الولايات المتحدة الأميركية حوالي 46 مليون مُسن يعيشون ضمن مجتمعاتهم، أي خارج دور الرعاية، ولكن 30% منهم يعيشون وحيدين. وترتفع تلك النسبة إلى 50% عند المُسنين الذين يبلغون من العمر 85 عاماً أو أكثر. وبحسب الإحصائيات، فإن حوالي ثلاثة أرباع كبار السن الذين يعيشون بمفردهم من النساء.

وأظهرت إحصاءات رسمية في بريطانيا هذا العام موجة من الوفيات بمرض كورونا ممن لقوا حتفهم في دور رعاية المسنين، التي قال القائمون عليها إنه يتم تجاهلها. وصرح مشغلو وموظفو دور الرعاية بأن هذا العدد أقل على الأرجح من الحصيلة الحقيقية في المنشآت التي تأوي بعض كبار السن والأكثر ضعفا في البلاد. وقال رئيس أحد أكبر مشغلي دور رعاية المسنين في بريطانيا إن عدد حالات الإصابة والوفيات بالفيروس المستجد بين النزلاء المسنين أعلى بكثير مما يتم الإعلان عنه رسميا. وقالت روس ألتمان، الوزيرة الحكومية السابقة التي تدافع عن حقوق كبار السن، إنه تم التغاضي عن كبار السن الضعفاء في هذه الجائحة. وأضافت: يجب ألا ننسى أن معيار المجتمع المتحضر لا بُد أن يعكس الكيفية التي يتم التعامل بها مع المواطنين الأكثر ضعفا والأكبر سنا... يجب ألا ننسى الأكبر سنا بين سكاننا، متوسط عمر الأشخاص في دور رعاية المسنين لدينا 85 عاما، حياتهم قيمة أيضا ويحتاجون إلى العلاج والمعدات والرعاية التي نتوقعها لأي شخص آخر في المجتمع على حد سواء (رويترز).

احتمال الفقر يزداد كلما طالت فترة عيش الشخص وحيداً

وفقاً للدراسات، يمكن للوحدة أن تشكل تحدياً من عدة جوانب، فالأشخاص الذين يعيشون بمفردهم يكونون أكثر عرضة للفقر، ويزداد احتمال الفقر كلما طالت فترة عيش الشخص بمفرده. ويُصرح الكثير من المسنين الذين يعيشون وحدهم بأنهم يشعرون بالوحدة والعزلة. وبما أن تناول الطعام هو نشاط اجتماعي بالنسبة لمعظم الناس، فإن العيش وحيداً قد يُفضي إلى عدم قيام المُسن بتحضير طعام كافٍ، أو متوازن من الناحية الغذائية. وبالتالي، يزداد احتمال إصابة المُسن بسوء التغذية. كما أنه من السهل أن يُصاب المُسن بأمراض أو مشاكل في البصر أو السمع، أو ظهور أعراض جديدة لأمراض دون أن يُلاحظ أحد عليه ذلك. ويعاني العديد من كبار السن الذين يعيشون بمفردهم من صعوبات في الالتزام بالتعليمات الخاصة بالعلاجات الموصوفة. وأظهرت الدراسات أن كبار السن الذين يفتقرون إلى التفاعل الاجتماعي يزداد لديهم خطر الإصابة بالمشاكل الصحية، وذلك بالمقارنة مع الأشخاص الذين يتفاعلون اجتماعياً مع الآخرين. قد يحتاج المسنون الذين يعيشون بمفردهم إلى بذل جهود لتجنب العزلة الاجتماعية (الدليل الطبي الإرشادي الأميركي).

يقول موقع "مؤسسة التأمين الوطني" إن 85% من مجمل المخصصات التي تقدمها دولة إسرائيل لسكانها تدفعها المؤسسة. وتساعد المخصصات 50% من العائلات الفقيرة في إسرائيل للخروج من دائرة الفقر. وتصرّح أن مساهمة المخصصات في تقليل نسبة الفقر هي مساهمة بارزة خاصة بالنسبة للمسنين: ما يقارب 72% من المسنين ينقذون من دائرة الفقر بفضل المخصصات. ولكن على الرغم من ذلك، وفقاً لمنظمة "لتيت" التي تقدّم تقارير بديلة عن الفقر، ففي العام 2020 قال أكثر من 91% من متلقي المساعدات من المسنين إن معاشاتهم التقاعدية لم تكن كافية لشراء الحاجيات والضروريات الأساسية ليعيشوا حياة كريمة. وتقرير مؤسسة التأمين الوطني كان أشار العام 2019 إلى أن خطورة الفقر بين المسنين حتى العام 2017، كانت عموماً ضئيلة قياسا ببقية السكان، ولكن في العام 2018 ارتفعت نسبة المسنين الفقراء من 21.8% إلى 23.4%، كما أن مؤشر عمق فقر المسنين ارتفع من 27.7% إلى 32%.

فظاعة موت بشر بلا أهل ولا مجتمع ولا دولة يتذكرونهم

التقى وزير العمل والشؤون الاجتماعية مئير كوهين قبل نحو شهر أعضاء منظمة "زكا" لمناقشة سبل تعزيز الحلول فيما يتعلق بحالات موت كبار السن والمحتاجين في منازلهم، حسبما أعلن مكتب الوزير. الوزير صرّح أن: "قضية المسنين والمحتاجين الوحيدين قريبة من قلبي". ويبقى السؤال طبعاً كيف ستتم ترجمة هذه المشاعر إلى سياسة تنفيذية.

بكلمات شخصية، يمكن القول إنه حينما يسمع المرء تبجحات مسؤولي سلطات هذه الدولة، بمختلف صفاتهم وتسمياتهم، عن "الاهتمام باليهود ومصير اليهود وأمن اليهود" وهلمجرا من مزاعم، فإن بعض الحقائق الصارخة تكشف عمق الكذب المتفشي في كل جسد الدعاية الصهيونية. فأي احترام لليهود في "دولة اليهود" التي يعثر فيها سنويا على ما يتجاوز مئة من المسنين أمواتا وحيدين، وأحيانا بعد مرور وقت طويل على ذلك.

السؤال: أين هي أجهزة الرعاية والمتابعة الاجتماعية لمواطنين مرضى يعانون من محدوديات جسدية أو نفسية مختلفة، كي يموتوا بكرامة على الأقل، لا أن يعثر عليهم وقد تحللت جثامينهم؟ هذه صورة لا يمكن لها ترك المرء حياديا حيالها، لشدة فظاعة أن يموت بشر وحيدين بلا أهل ولا مجتمع ولا سلطة دولة يتذكرون وجودهم. إن المعيار الاساس لأي نظام هو احترام حياة المواطنين وكرامتهم. هذه الدولة تشن حروبا واعتداءات دموية بزعم "الدفاع عن مواطنين"، وباسم ما يسمى "الالتزام الأخلاقي تجاه مصير اليهود"، وفي الوقت نفسه تدير الظهر كالثور الذي تحدث عنه كارل ماركس لمواطنين، لأفراد، لبشر مستضعفين وقعوا ضحايا ظروف حياتية معقدة تركتهم في عزلة بلا رفقة ولا مُعين.

فكيف يتساوى التحدث بتلك الحرارة الملتهبة عن "الذود عن حياة المواطنين" في أوقات الحروب العدوانية، مع وضع يموت فيه مسنون بؤساء وحدهم دون أن يلتفت إليهم أحد ولا تذكّر بهم سوى روائح موتهم المخيفة؟ مفجع ومرعب أن يلاقي بشرٌ مثل هذا المصير، ومثير للغضب والاشمئزاز والانتفاض نظام يرتكب جرائم الحرب باسم المواطنين لكنه لا يسأل عن بعضهم لا في حياتهم ولا في مماتهم حين يتقدم بهم العمر ويتخلف عنهم الجميع.

 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات