المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
آتاليا بن آبا.
آتاليا بن آبا.

"أتاليا امرأة استثنائيَّة، أظهرت شَجاعةً نادرة، وكانت مُشاهدة التحوّلات التي طرأت على عائلتها تجربة مُلهمَة جداً"- هذا ما كتبته آييلت فالدمان في عمودها الصحافيَّ في صحيفة "نيويورك تايمز" تعليقاً على فيلم "Objector" (2019)، وتحديداً في وصف المرأة الإسرائيليّة التي يتمحور الفيلم حولها، وهي آتاليا بن آبا، التي استنكفت ضميرياً عن الخدمة العسكريّة في الجيش الإسرائيلي العام 2017.

"في السّادس من شباط من هذا العام رفضَتُ الانضمام إلى الجيش الإسرائيليَّ في تحدٍّ لسياسة التجنيد الإجباريّ الإسرائيليّة، وفي ذلك اليوم، تماماً مثلما توقّعت، أرسِلتُ إلى سجنٍ عسكريّ"- هكذا كتبت بن آبا خلال العام 2017، مُرجعة سبب رفضها للخدمة العسكريّة إلى أسبابٍ ضَميريّة: "أؤمنُ أنَّه لغاية تحقيق الأمن لكلّ النّاس في فلسطين وإسرائيل، فعلى الحكومة أن تغيّر سياساتها وعلى الاحتلال أن ينتهي". وفيلم "Objector" وثائقيّ للمخرجة مولي ستيوارت، يوثّق تجربة بن آبا في رفض التجنيد العسكريّ منذُ بداية اتّخاذها لقرار الاستنكاف الضميريّ، مروراً بالنّقاشات العائليَّة الدّاخليّة التي عكسَت تنوّعاً في الأجيال الصهيونيّة في إسرائيل، وانتهاء بمقابلة مع ما يُعرف باللجنة الضميريّة العسكريّة المكوّنة من أربعة ضبّاط عسكريين ومدني أكاديميّ والتي يرجع إليها البتَّ في التمييز بينَ أولئك الذين يرفضون لأسبابٍ سياسيّة مثل الاحتلال، وأولئك السلميين جوهرياً والذين سيرفضون الالتحاق بأيَّ مؤسسة عسكريّة أو أمنيَّة.

الاستكاف الضّميريَّ وموقع الخدمة العسكريّة من المواطنة في إسرائيل

أعاد نَجاحُ فيلم "Objector" محلّياً وعالمياً، تسليط الضّوء على مسألة رفض التجنيد العسكريّ الإجباريّ، أو ما يُعرَفُ بالاستنكاف الضّميريَّ عن الخدمة العسكريّة. واستناداً إلى المادّة السادسة والثلاثين من قانون الخدمة العسكريّة في إسرائيل للعام 1986، فإنَّ لوزير الدّفاع الإسرائيليّ السّلطة في إعفاء أو تأجيل الخدمة العسكريّة لأيّ جنديّ، نساء ورجالاً، من استكمال خدمتهم العسكريّة في "الجيش الوطنيّ"، لأسبابٍ تتعلَّق بمتطلباتٍ تعليميّة، أمن المستوطنات، الحالة الاقتصادية الوطنيّة، ظروف عائليّة أو أيّة أسبابٍ أخرى. إضافةً إلى هذه الأسباب، فإنّ القانون ينصّ على أنّ إعفاءاتٍ أخرى قد تُمنَحُ للنساء بشكلٍ خاصّ اللاتي يرغبن في إعفائهنَّ من الخدمة العسكريّة للأسباب التالية: (1) الزّواج، الأمومة أو الحمل، (2) الاستنكاف الضميريّ، (3) الخلفيات العائليّة الدينية – كنساء الحريديم. ويوضّح قانون الجيش الإسرائيليّ الاستنكاف الضميريّ بالقول إنَّ الجيش الإسرائيليّ سيحترمُ وُجهة نظر المُستنكف الضّميريّ بشَرطِ أنّ تكون وجهات نظره أصيلة ومترسّخة فيه، ولهذه الغاية، تتكوَّن لجنة عسكريّة خاصّة، يترأسها ضابط التجنيد العسكريّ أو نائبه، وتوكل إليها مهمّة الاستماع، أو كما يظهرُ في فيلم "Objector" وفي شهاداتٍ أخرى لمستنكفاتٍ ضميريّات فهذه المهمّة تتحوّل إلى نوعٍ من التحقيق الذهنيَّ في الآراء والمعتقدات للتمييز بين المُستنكف الضّميريّ، أيّ السّلميّ في جوهره، وبين المُستنكف لأسبابٍ سياسيّة مثل الاحتلال. الأوّل، السّلميّ، يُعفى من الخدمة العسكريّة، لأنَّه، وكما يوضّح الجيش الإسرائيليّ في قانونه، فإنّ الإعفاء للاستنكاف الضميريّ يأتِي من حقيقة أنّ الدّولة ترى في حريّة الضّمير حريّة أساسية من الحريّات الإنسانيّة ويُشكِّلُ هذا الموقف جزءاً هامّاً من المجتمع المُتسامح الذي يَرى في الرّفض ظاهرة إنسانيّة يجبُ احترامها. بينما النوع الآخر من الاستنكاف، السياسيّ، تُرفَضُ لأسبابه، لكونه اعتراضاً مُباشراً على الدّولة، وعلى أفعالٍ يرتكبها جيش الدّولة، أي جيشُ الشَّعب، وعادة ما يُمضي المستنكفُ السياسيّ فترةً أطول في السّجن العسكريّ من الضّميريّ الذي أو التي ما إن تقرِّرُ اللجنة العسكريّة أنّها بالفعل شخصيّة سلميَّة في جوهرها، تُعفى من الخدمة العسكريّة ويُطلقُ سراحها من السّجن العسكريّ.

من بين عديد المفاهيم والجدالات التي تُطرحُ خلال فيلم "Objector"، تظهرُ مُفرداتٍ ذات علاقة مُباشرة بالخدمة العسكريَّة بوصفِها مكوِّناً أساسياً من مكوّنات المُواطنة الإسرائيليَّة، وكذلك، بوصفها مكوّناً راسخاً من مكوّنات اليهوديَّ [الإسرائيليّ] الجديد، النّقيضُ لليهوديّ القَديم، ولكن، الذي صُنِعَ صهيونياً لئلَّا يحدث له ما حدَث لليهوديّ القديم في معسكرات الاعتقال النازيّة. "العصيان المدنيّ"، "الاستنكاف الضميريّ"، "الخائنة"- كلَّها مفاهيم استُخدِمَت في سياق دفاع أتاليا عن نفسها أمام عائلتها والمجتمع الإسرائيليّ، وفي سياق التهجُّم عليها من قبل عائتلها والمجتمع الإسرائيليّ. يظهر أخوها، أميتاي، متفهّماً لموقفها وهو الذي تحصَّل على إعفاءٍ من الخدمة العسكريّة بعد سنواتٍ عديدة درسَ فيها في الخارج وطوَّرَ أفكاراً مناقضة للاحتلال الإسرائيليّ. بينما يقفُ والداها، وعمّها الذي يُصرِّحُ بأنَّ فلسفة اللاعنف هي للضعفاء، ضدَّها معتقدين بأنَّ الخدمة العسكريّة هي واجبٌ مدنيَّ لا يجبُ مُساءلته على الإطلاق.

الإشكالية التي تطرحها أتاليا على عائلتها، والتي تطرحها المستنكفات الضميريّات على المجتمع الإسرائيليّ، تكمنُ في مُساءلتهنَّ لمؤسِّسة، هي الجيش الإسرائيليّ، تعدُّ مدخلاً للمواطنة في إسرائيل، وقد احتلَّت مكانةً أساسيَّة في تكوين المجتمع والدّولة في إسرائيل حتّى قبل التّطهير العرقيّ في فلسطين العام 1948 الذي تبعهُ إنشاء دولة إسرائيل. وذلك سُؤالٌ تُفضّل المؤسسة الاستعماريّة عدم طرحه على الإطلاق، أو التّظاهر بعدم وجوده أصلاً. فبحسَبِ الجيش الإسرائيليّ، فإنّ ما يقارب الـ12% من المرشّحين للخدمة العسكريّة في العام 2020 تمَّ منحهم إعفاء كاملاً من الخدمة العسكريّة لأسباب تتعلق بالصحَّة العقليّة، وهو الإعفاء الذي تحصَّلَ عليه أخو بن آبا الذي يظهر في الفيلم معتنقاً لأفكار أخته أو بعضها. بحسَبِ الباحث الإسرائيليّ تال كرا-عوز، فإنّ بعضاً من هؤلاء الآلاف الذين تحصَّلوا على إعفاءٍ لأسباب نفسيّة لا بدّ وأنّهم يعانون من مُشكلة حقيقيّة؛ لكنّ الواقع أنّ الحُصول على إعفاءٍ لأسباب نفسيّة، خاصّة لدى الذّكور، هو الطّريقة الأكثر سهولة التي يُلجأ إليها لتجنّب الخدمة العسكريّة. ذلك أنّ البند القانونيّ لا يوفّر للذكور بند الاستنكاف الضميريّ على العكس من الإناث، ويمكنُ قراءة ذلك في سياقين؛ الأوّل، أنَّ بنية الاستعمار الصهيونيّ هي بنية ذكورية في الأساس، وصورة الذّكر اليهوديّ العضلاتيّ الصهيونيّ لم يكن ممكناً ولا يمكنُ لها التّوافق مع واقع استنكافٍ ذكوريّ ضميريَّ عن أداء الخدمة العسكريّة في الجيش الصهيونيّ. ثانياً، أنَّ حرمان الذّكور من بند الاستنكاف الضّميريّ يأتي في سياق رغبة الدّولة في عدم منح الذّكور أو حتّى الإناث اللاتي نادراً ما يتحصّلن على هذا النّوع من الإعفاء، موقع القُدرة على تسجيل موقفٍ مُعادٍ لسياسات الدّولة الاستعماريّة، واعتبارهم مرضى نفسيين بشكل قانونيّ. بذلك تُمكِّنُ هذه السياسة الدّولة والأحزاب الصهيونية من إخفاء أيّ توجهاتٍ معارضة جذرياً أو جزئياً للسياسات الاستعماريّة الجوهريّة في أوساط الشباب الإسرائيليّ، مثل معارضة سياسات الاستيطان والاحتلال في الضفّة الغربيّة. وفي الوقت نفسه، تعملُ على عزل هؤلاء الأفراد المعارضين ضميرياً للخدمة العسكريّة عن بقيَّة المجتمع الصهيونيّ، إمّا بوصفهم خونة للصهيونيّة ولضحايا الهولوكوست، أو بوصفهم مرضى نفسيين لا يعرفون ما الذي يقولونه.

خطاب المواطنة والتجنيد في إسرئيل

يُشكِّلُ أداء الخدمة العسكريَّة في إسرائيل أحد المداخل الرّئيسة في تحديد درجة المُواطنة في الدّولة؛ فبعد ضرورة أن تكون يهودياً لتكون مُواطناً من الدّرجة الأولى، تأتي الخدمة العسكريّة لتُحدِّد مدى التزام الفرد الإسرائيليّ تجاه الدّولة وما يترتّب على ذلك من التزامٍ للدولة تجاه الفرد. ومن هذا المدخل يُعتبَرُ الفلسطينيون، إضافةً إلى كونهم عرباً وليسوا يهوداً، مواطنين من درجة ثالثة لعدم أدائهم الخدمة العسكريّة في الجيش الإسرائيليّ. كذلك يُعتبَرُ اليهود الحريديم أو الألترا أرثوذكس، مواطنين من درجة ثانية لعدم أدائهم الخدمة العسكريّة. في المقابل، تستخدمُ مجموعات إثنيّة وثقافية أخرى الخدمة العسكريّة للتحصَّل على درجة متساوية من المُواطنة مع اليهود الأشكنازيين الذين ومنذُ تاسيس الدّولة يُهيمنون ثقافياً، سياسياً، هويّاتياً واقتصادياً على مفاصل الدّولة والمجتمع الإسرائيليّ؛ مثل البدو، الدّروز والمجموعات المثليّة والكويريّة الإسرائيليّة. وبوصفه فضاء ذكورياً مُطلقاً، تُصبحُ علاقة النّساء بالجيش الإسرائيليّ أشدّ تعقيداً من علاقة الذّكور ومكانتهم في الجيش؛ فمن جهة تتعامل الدّولة نظرياً مع النّساء بوصفهنّ شريكاتٍ بالتّساوي في المُواطنة، ولكن في الآن ذاته، ولعدم قدرتهنّ على التّساوي بشكلٍ كاملٍ مع الذّكور في الخدمة العسكريّة والهيكل التنظيميّ للجيش الإسرائيليّ، يُنظَرُ إليهنّ على أنّهنّ غير قادراتٍ تماماً على أن يكنَّ متساوياتٍ في المُواطنة وما يتبعُ ذلك من هيمنة على المواقع السياسيّة الحكوميّة والعسكريّة الحسّاسة.

النّسوية، النّساء والمؤسسة العسكريّة الإسرائيليّة

شكّلت النّساء جزءاً أساسياً من مشروع الاستعمار الاستيطان الصهيونيّ في فلسطين منذُ ما قبل إنشاء الدّولة العام 1948، وبشكلٍ خاصّ كُنَّ جزءاً من العمل العسكريَّ ما قبل تأسيس الدّولة من خلال التحاقهنَّ بميليشات البلماخ والهاغناه الصهيونيّة، ومن خلال التحاقهنَّ بالخدمة العسكريَّة ما بعد العام 1948. ولكن، ومع تطوّر الميليشيات الصهيونية إلى جيشٍ منظّمٍ مؤسساتيَّ، تقرَّر ببطء إنشاء وحدات نسائيّة توكل إليها مهمَّات عسكريّة تليقُ أكثر بالعمل النسائيَّ العسكريَّ والتوقّف عن الزّج بالنّساء في القتال المُباشر. في الآن ذاته تمَّت مأسَسة الإعفاء من الخدمة العسكريّة للنساء لأسبابٍ دينيّة، حتّى لا تُضطَّر النّساء اليهوديات المتديّنات إلى الانخراط في أداء مهامٍ تُحتِّمُ عليهنَّ الاختلاط مع الذّكور بما يتعارض مع المبادئ الدينيّة اليهوديّة. وقد شكَّل هذا الإعفاء المؤسساتيّ من الخدمة العسكرية المُستند إلى أسبابٍ غير صحّية وغير نفسيّة، الأساس لما سيُعرَفُ لاحقاً بالاستنكاف الضّميريّ؛ أي تمكين الدّولة الفرد من الاستنكاف عن أداء الفعل العسكريّ الذي سيجبره أو يجبرها على أداء أفعالٍ تتعارَضُ ضميرياً مع معتقداته الدّينية، الثقافيّة أو الاجتماعية، وهو ما ارتبط بشكلٍ مُباشرٍ بالنّساء في إسرائيل دوناً عن الذّكور.

هناك ثلاثة مساراتٍ للنسويّة الإسرائيليّة فيما يتعلَّقُ بالتجنيد الإجباريّ والخدمة العسكريّة؛ الأوّل، الحركة النّسويّة التي حاولت منذُ تسعينيات القرن الماضي شقَّ طريقها إلى وظائف ومواقع عسكريّة تُعدُّ حِكراً على الذّكور في الجيش الإسرائيليّ. وقد بدأت هذه الحركة العام 1995 عندما تقدّمت شابّة إسرائيليّة، أليس ميلر، بطلبٍ لدى المحكمة العُليا ضدَّ قوانين الجيش الإسرائيليّ التي تمنعها من الالتحاق بالقوات الجوية الإسرائيليّة التي تعرف بقوات النخبة الإسرائيليّة. شكَّل هذا الطّلبُ زعزعة للعلاقات الجندريّة القائمة داخل المؤسسة العسكريّة، بين مُقاومة ذكورية لفتحِ هذه المساحات النخبويّة داخل المؤسسة للحُضور النّسائيّ، وبين إدراك الحركة النّسويّة ضرورة تحقيق المُساواة في المواقع والوظائف العسكريّة كأداةٍ للمطالبة بمساواة جندريّة كاملة داخل المجتمع الإسرائيليّ. فكان الاعتقاد لدى الحركة النّسوية الإسرائيليّة أنّه لو تمكّنت النّساء من أن يكنّ شريكاتٍ في حمل عبء الأمن القوميّ، فسيُنظَرُ إليهنَّ على أنّهنّ مُساوياتٍ للرجال، وذلك سيقودُ إلى تقليص اضطّهاد النّساء وقمعهنّ بسبب اعتبارهنّ ضعيفاتٍ جسدياً وسياسياً. ذلك دفعَ بالحركة النّسوية الإسرائيليّة إلى دعم الجيش الإسرائيليّ، دعم الالتحاق بالخدمة العسكريّة، ودعم وصول النّساء إلى مواقع متقدّمة في التراتبيّة العسكريّة، وبالعموم، الصّراع من أجل حقوق النّساء داخل الإطار العسكريّ.

إلّا أنّ هناك أصواتا نسويّة أخرى داخل الحركة النسوية الإسرائيليّة التي تُجادلُ بأنَّ المنظومة العسكريّة بكلِّيتها تنطوي على ممارساتٍ قمعية للنساء مثل التحرش الجنسيّ الذي يُنظر إليها باعتباره ممارسة طبيعية، بينما أخرياتٍ يدّعين أنّه بغضّ النظر عن حجم التغيير الحاصل في المؤسسة العسكريّة، فلا يزالُ الواقع الجندريّ غير المتكافئ قائمٌ في المجتمع. بينما هناك التوجّه الراديكاليّ الذي يمزجُ بين النّضال النسويّ والنّضال لإنهاء الاحتلال والعنف في فلسطين التّاريخية.

مع ذلك، هناك فرقٌ جوهريّ بين معارضة الخدمة العسكريّة والمؤسسة العسكريّة بسبب وظيفتها الاستعماريّة بالنّسبة لليسار الراديكاليّ الإسرائيليّ، أو بسبب الاحتلال بالنّسبة لليسار الليبراليّ الذي يقبل الدّولة بتاريخها الاستعماريّ الإجراميّ بشَرطِ أن يتوقّف ذلك التّاريخ عند العام 1967؛ أي المُطالبة بإنهاء احتلال الضفّة الغربية وقطاع غزّة والسّماح بإنشاء دولة فلسطينيّة؛ وبين مُعارضة الخدمة العسكريّة والمؤسسة العسكريّة من دون أيّ التزامٍ سياسيّ تجاه الفلسطينيين أو تجاه تاريخ الدّولة، وهي المعارضة التي تظهر في موقف هاليل رابين، الشّابة الإسرائيلية التي رفضت الالتحاق بالجيش الإسرائيليّ تحت بند الاستنكاف الضميريّ: "هل أرفض الخدمة العسكرية لأنني ربيت بهذه الطريقة، أم أرفضها لأنني أصنع قراري بنفسي؟ إن استخدمت كلمات مثل "احتلال" أو "سياسة حكومية"، سيتم النّظر إليّ كمستنكفة سياسيّة، كشخص يرفض الخدمة بسبب أفعال ارتكبها جيشنا. إن لم يكن الأمر بسبب الاحتلال فسيتم الإعفاء. لكنّ رفضي هو بسبب اعتراضي على العنف كلّية، وليس بسبب الاعتراض على الاحتلال الذي هو مجرّد شكل من أشكال العنف. وكلّا، لن أؤدّي الخدمة العسكريّة حتى في الجيش السويسري، لأنّ جوهر اعتراضي هو على أيّ تنظيم عسكريّ، على كلّ أشكال العنف".

موقفُ رابين يختلفُ عن موقف بن آبا؛ فرابين ضدَّ العُنف كلِّيا، أيّ ضدّ عنف الفلسطينيين وضدّ عنف الجيش الإسرائيليّ، بطريقة ما مُجرّد موقف مُتجرّد من الواقع لا يتمكَّنُ إلَّا من يستمتع بالامتياز الاستعماريّ للرفضِ أو القبول التّفكير فيه والمرور بتجربة سجن لمدّة أقلّ من شهرين فقط والاستمتاع بهذه التّجربة، كما تصفُ في شهادتها لموقع Tablet Magazine. بينما موقف بن آبا، تطوّر منذُ العام 2017 حتّى الآن، من موقف معارضٍ للخدمة العسكريّة بسبب الاحتلال، إلى موقف مُناهضٍ وناشطٍ ضدّ عنف المؤسسة الإسرائيليّة المُمأسس ضدّ الفلسطينيين، كما في الشّيخ جرّاح والمستوطنات في الضفّة الغربيّة.

لكن حتّى موقف بن آبا الذي وصفته محررة "نيويورك تايمز" بالشّجاع والاستثنائيّ؛ لا يزالُ موقفاً تضامنياً ضميرياً يتوقَّف عند مُساءلة ما تفعله الدّولة في اللحظة الحاضر، ولا يُسائِلُ جُذور تكوين هذه الدّولة، أي العودة إلى أساس المشروع الاستعماريّ الصهيونيّ الذي تأسَّس على أنقاض الوجود الفلسطينيّ.

لكنَّ كلا الموقفين ينتميان إلى إرث الفلسفة النسوية الإسرائيليّة التي اعتبرت الجيش الإسرائيليّ مؤسسة عُنفيَّة أبويَّة تخلقُ مزيداً من العنف وتُمارسُ العنف ضدّ النساء، وكذلك لدى بعض التيارات النسوية، التي مزجت هذه الاحتجاجات بالاحتجاج ضدّ العنف الممارس ضدّ الفلسطينيين. مع ذلك، حتّى اللحظة، وبسبب الإجراءات القانونية الشّكلية التي تفرضها المؤسسة العسكريّة بما يتعلّقُ بإجراءات الاستنكاف الضميريّ، لا يزال هذا النوع من الرّفض محصوراً بعشرات النّساء فقط لا غير خلال العقدين الأخيرين، واللاتي استنكفن ضميرياً واعتقلنَ لفتراتٍ قصيرةً لم تتجاوز بضعة شعور قبل إطلاق سراحهنَّ والبتّ في أنّهنَّ بالفعل: "سلميّات بشكل جوهريّ"!
مصادر:

What happens if you refuse to serve in the IDF? Tal Kra-Oz, Tablet Magazine, March 17, 2021.
On women’s refusal in Israel, Tali Lerner, War resister’s international.
Atalya Ben Abba refuses to serve in the Israeli military, gets sentenced to a further 30 days in military detention, Atalya ben Abba, May 11 2017.
Conscience Objection, Israel Ministry of Foreign Affairs: https://mfa.gov.il/MFA/AboutIsrael/State/Law/Pages/Conscience%20Objection%2013-Jul-2005.aspx

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات