المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
نتنياهو ذاهلا في مدينة اللد لدى زيارته لها في 12 أيار الجاري بعد انفجار الأوضاع فيها احتجاجاً على الاعتداءات في القدس.  (أ.ف.ب)
نتنياهو ذاهلا في مدينة اللد لدى زيارته لها في 12 أيار الجاري بعد انفجار الأوضاع فيها احتجاجاً على الاعتداءات في القدس. (أ.ف.ب)

خطفت حالة الانفجار التي عمت العديد من قرى ومدن الداخل الفلسطيني الأنظار عن المسببات المباشرة التي أدت إلى اندلاعها في القدس وغزة، لبرهة من الزمن، وتركت علامات استفهام كبيرة وندوبا بارزة وحارقة، على جسد صيغة "التعايش" الهش وغير المستقر الذي حكم العلاقة المتوترة وغير المتوازنة بين اليهود والعرب في إسرائيل.

أحداث اللد بدأت بالتزامن مع بدء القصف الإسرائيلي لقطاع غزة ردا على الصواريخ التي أطلقت صوب مدينة القدس، بعد أسبوع من التوتر والمصادمات ومحاولات الشرطة الإسرائيلية إخلاء باحات المسجد الأقصى من المصلين، تمهيدا للاحتفالات التي تجري سنويا بذكرى سقوط المدينة في العام 1967 أو ما يعرف إسرائيليا بذكرى توحيد المدينة.

قد تكون هذه واحدة من المرات النادرة التي تتزامن فيها أحداث سياسية، وحالة من عدم الاستقرار في منظومة الحكم التي انحازت كليا لليمين، والتي جعلت العرب مادة للدعاية والتحريض، مع مناسبات دينية وروحية مثل ليلة القدر وشهر رمضان مع تهديد ملموس وخطير لأماكن تحظى بقدسية خاصة وتشهد تهديدا مستمرا مثل المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح وباب العامود.

أجج هذا التزامن بين هذه العوامل مشاعر الفلسطينيين في الداخل، وقادهم إلى تنظيم مظاهرات مناصرة للقدس والأقصى انطلقت أشهرها من مدينة اللد التي تعد إحدى المدن المختلطة، وهو ما دفع المستوطنين، وفق موقع "عرب 48" الذي جمع شهادات حية من السكان في اللد، "إلى الاعتداء على المتظاهرين وأطلقوا النار عشوائيا تجاههم ما أدى إلى وقوع ثلاث إصابات على الأقل" لتتبعهم الشرطة وتعتدي عليهم أمام أقسام الطوارئ "رغم أنهم تظاهروا بشكل سلمي ولم يشكلوا أي تهديد على الممتلكات والسكان".

قمعت الشرطة الإسرائيلية بوحشية هذه المظاهرات واعتدت على المتظاهرين، وفق ما أكده عضو اللجنة الشعبية في مدينة اللد، تيسير شعبان، حيث قال "إن المستوطنين أطلقوا النار بشكل عشوائي على جموع المتظاهرين الذين خرجوا بشكل سلمي نصرة للأقصى، وفوجئوا برصاص الاحتلال ومستوطنيه".

أدى القمع واللجوء إلى العنف واستخدام الرصاص الحي إلى استشهاد الشاب موسى حسونة، وهو الأمر الذي أجج المظاهرات ورفع من وتيرتها، وأدخل المدينة في حالة من الصدام بين المواطنين العرب واليهود، وهو ما اعتبر الشرارة التي قادت إلى امتداد المواجهات في الأيام التالية إلى بقية المدن والبلدات العربية، ونزول مجموعات من المستوطنين إلى الشوارع لاصطياد العرب وتنفيذ عمليات محاولة قتل ميدانية بحقهم كما حدث في بات يام.

أعادت حالة الفوضى والصدامات بين اليهود والعرب التي انتشرت بكثافة في المدن المختلطة، من جديد طرح الأسئلة المسكوت عنها حول العنف المستشري في المجتمع العربي وظاهرة انتشار السلاح، والإهمال والتهميش الممنهج من قبل مؤسسات الدولة، وسنوات طويلة من التحريض ضد الجماهير العربية، ومدى مسؤولية المؤسسة الحاكمة بكل تلاوينها تاريخيا عن هذه النتيجة.

رغم الطابع المنظم والذي يستند إلى منطلقات عنصرية وعداء للعرب والذي يستدل عليه مما نشرته صحيفة "ذي ماركر" في عددها الصادر في 12 أيار وكشفت فيه عن أساليب اتصال هذه المجموعات عبر مجموعات واتساب وتليغرام واسعة الانتشار، يتم من خلالها تحديد الأهداف التي سيتم استهدافها والساعات المحددة للتجمع وأنواع السلاح التي تستخدم وطرق التنكر واللباس، إلا أن اللوم وجه منذ البداية ضد المجتمع العربي والعرب فيما اعتبر عنف العصابات المنظمة والعنصرية فرديا مثل ما فعلته منظمة "لا فاميليا" التي اقتحمت بات يام وارتكبت عملية اعتداء ميدانية. ونشر موقع واينت في 12 أيار تقريرا مفصلا حول قيادة المنظمة للأحداث في بات يام وهتافاتها بـ"الموت للعرب" وتكسيرها لواجهات المحال التجارية التي تعود ملكيتها للعرب، وادعى التقرير أن العنف فردي ويأتي في سياق الدفاع عن النفس في ظل غياب الشرطة التي عبرت عنه إحدى المتظاهرات لموقع "دفار" بقولها "إننا توسلنا إلى الشرطة بأن تحضر ولكنها لم تحضر فاضطررنا إلى الدفاع عن أنفسنا لأن دم اليهود ليس مستباحا".

ذهبت التفسيرات باتجاه إدانة مسبقة وتجريم جماعي للعرب، وذلك بالاستناد للصور والانطباعات المسبقة والنمطية الراسخة في الذهن الجماعي الإسرائيلي تجاههم، حيث شدد عضو الكنيست اليميني بتسلئيل سموتريتش في معرض تعليقه على الأحداث ودعوته لليهود بالتوقف "لأننا لسنا مثلهم، ومحظور علينا أن ننجرف للعنف" على أن "الدفاع عن النفس أمام الإرهابيين والمشاغبين والمبادرين للعنف هو المسموح فقط".

اعتبر نفتالي بينيت الذي أعلن أنه توقف عن محاولة تشكيل حكومة التغيير التي كانت ستستند إلى أصوات القائمة العربية الموحدة بسبب "التوقيت والأحداث التي تشهدها المدن المختلطة" وفق ما نشره موقع "غلوبس" في 13-5-2021، هو الآخر، أن ما حدث في بات يام من محاولة إعدام ميداني لشاب عربي "ليس عملا يهوديا ولا أخلاقيا" وهو يتقاطع ليس فقط مع أقوال سياسي يميني مثل سموتريتش، بل مع باحث في مركز أبحاث الأمن القومي مثل كوبي ميخائيل الذي صرح في مقابلة مع موقع "دفار" بأن ما يحدث في المدن المختلطة والبلدات العربية في الداخل "أخطر من المواجهة على جبهة غزة، لأنها تحدث مع مواطني الدولة وداخل البيت ولا يمكن الرد عليها كما يتم الرد على العدو".

اعتبر ميخائيل أن الدوافع من وراء هذا العنف "تكمن بشكل عضوي في تكوين العربي وطبيعة الشرق الأوسط الذي يتميز بالعنف كما يحدث في ليبيا وسورية ومصر واليمن... الخ" أما عن سبب "عدم الرد" بشكل مناسب على هذه الفوضى من قبل الحكومة، فقد اعتبر أنه نابع من انتهازية السياسيين "والشراكة السياسية المحتملة" بينهم وبين أحزاب عربية، رغم الخطر الكامن وراء الأحداث التي اعتبر أن سببها هو "وجود مجموعات لا يستهان بها لا زالت لا تقبل فكرة وجود دولة إسرائيل وتريد أن تنهي وجودها وقد وجدت فرصتها للقيام بذلك بسبب المواجهة مع غزة".

جعل هذا الاستسهال في إدانة العربي سواء بسبب العداء الكامن في ذهنه للدولة وحقده الدفين تجاهها، أو بسبب تكوينه وخلفيته الثقافية، آفاق الحل تنحصر في البعد الأمني فقط، حيث أعلنت حالة طوارئ خاصة ومنع تجول ليلي في مدينة اللد، كما تم استدعاء المزيد من القوات والاستعانة بقوات حرس الحدود، وإعطاء قائد الشرطة ووزير الأمن الداخلي صلاحية الاستعانة بالجيش واللجوء إلى الاعتقالات الإدارية دون محاكمة وفق ما صرح به رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أثناء عقده لجلسة تقدير موقف في اللد في الثالث عشر من أيار اعتبر فيها في مؤتمر صحافي استعراضي وإلى جانبه وزير أمنه الداخلي وقائد شرطته أن "الصدامات الحالية هي التهديد الأكبر وإننا نحتاج إلى اللجوء لخطوات متطرفة واستخدام القوة والقوة ومزيد من القوة"!

تغطية غير متناسبة

انتقل الجدل حول المواجهات في المدن المختلطة وأحداث مدينة اللد إلى ستوديوهات التلفزة الإسرائيلية وكيفية تغطيتها للأحداث، خاصة بعد المواجهة التي حدثت على الهواء بين الصحافي المقرب من نتنياهو عميت سيغل والصحافية المخضرمة إيلانا ديان، والتي احتج فيها على طريقة التغطية غير المتناسبة لمحاولة إعدام الشاب العربي في بات يام. فسيغل وبعد الجدل الذي دار بينه وبين ديان ومقدمة النشرة الرئيسية في القناة 12 يونيت ليفي، تحول إلى رمز لرافضي التغطية "غير المتناسبة" للأعمال التي تقوم بها العصابات اليهودية ضد العرب والتسرع في اتهام عضو الكنيست الاستفزازي بن غفير، الذي نشرت الصحافة تسريبات لقائد الشرطة اتهمه فيها بأنه ومن خلال زياراته للشيخ جراح ونقل مكتبه إليه يعد السبب وراء ما يحدث في اللد، معتبرا أن "أصل المشكلة يكمن في العرب سواء في القدس وغزة واللد لأنهم لا يريدوننا، وإن ملاحقة عضو الكنيست بن غفير واتهامه غير متوازنة وفي غير مكانها".

ونشر سيغل في اليوم التالي على صفحته على الفيسبوك صورة له وهو يحتضن باقة ورد أرسلها له أحد المعجبين، وهو المنشور الذي وصفته "معاريف" في 15-5 بأنه الأكثر انتشارا "وبأنه فجر الشبكة وحظي بمئات آلاف التعليقات والمشاركات والإعجابات" واعتبر نقطة الانطلاق في حملة صحافية عبر فيها صحافيون يمينيون عن رفضهم لشكل التغطية "غير المتناسب للأحداث".

فالصحافي ومقدم البرامج في القناة 13 أفري جلعاد قال لموقع "سروغيم" إن "العرب هم من بدأ وهم الأعنف، والأخطر، وإنهم يحملون في داخلهم كراهية عمرها مئات السنوات ضدنا" معتبرا أن "محاولة المساواة بين الجمهورين جريمة".

ولم يكتف الصحافي المقرب من نتنياهو والداعم له في حملاته الانتخابية يانون ميغال بالحديث عن "عدم التناسب في التغطية" بل قال في تغريده له على "تويتر" إن الشرطة مقصرة بسبب "لجنة أور" (التي تشكلت بعد هبة أكتوبر 2000)، وإن قضيتي إياد الحلاق وسلمون تاكا، والمحكمة العليا، ووسائل الإعلام، أضعفت الشرطة وجعلتها تخشى إطلاق النار وأن تلجأ إلى القوة، وهو أمر يجب تغييره.

سبق أن صدرت هذه الدعوة إلى إطلاق يد الشرطة عن عميت سيغل في تغريدة على صفحته بعد أحداث الليلة الأولى في مدينة اللد حيث اعتبر أن "عدم إحصاء المتظاهرين لقتلاهم وسجن اليهودي الذي أطلق النار على الشهيد حسونة وبقائه للآن في السجن أشياء يجب أن تهز الدولة".

اعتبر تسفي يحزقيلي من القناة 13 هو الآخر في مقابلة مع صحيفة "معاريف" في 13-5 أن سبب الأحداث هو "أحداث غزة التي أيقظت الشعور القديم لدى العرب أنه بالإمكان التفوق وهزيمة اليهود".

تاريخ من التحريض واللاشرعية

في مقال لهما في صحيفة "غلوبس" اعتبرت الكاتبة ميخال شالوم والمحامية ميخال أندرسون أنه "بمفهوم المناعة في الدولة لا يهم إن كان السبب وراء الأحداث اجتماعيا أو اقتصاديا أو أمنيا، لأن الإمكانية الكامنة في كل واحدة منها متساوية" لذا فإن البحث يجب أن يتركز في الأسباب الحقيقية وليس في المبرر، وهو يكمن في "حالة عدم الثقة وغياب القيادة وتضخيم الفوارق والتخلي عن خطاب التقارب والاحتواء".

وبدء البحث العميق والجدي عن إجابات تفسر الانفجار الذي تشهده المدن والبلدات العربية يجب أن ينطلق من هذا الافتراض، الذي يشير إلى سنوات وعقود طويلة من التهميش والنظر إلى الأقلية العربية على أنها تهديد أمني و"طابور خامس" وهو ما تكثف في السنوات الأخيرة وفي ظل حكم نتنياهو واليمين.

فإلى جانب السياسات التمييزية والتهميش والنقص في الميزانيات وعدم التساوي في الفرص الذي تعاني منه الأقلية القومية الأصلية في دولة إسرائيل منذ قيامها، زادت سياسة نتنياهو اليمينية وتحالفه الوثيق مع غلاة المتطرفين وشرعنة خطاب ولغة حركات عنصرية مثل أتباع كهانا في سياق صراعه من أجل البقاء في السلطة، من حدة التوتر والشعور بالإهانة والإخراج عن الشرعية لدى الجماهير العربية. كما ان إضعافه للشرطة في سياق مساعيه لتبرئة نفسه وهجومه المتواصل عليها، جعلها أداة طيعة في يده استخدمها في سبيل إضعاف المجتمع العربي من الداخل ونشر حالة من الفلتان والجريمة المنظمة والفوضى في صفوفه بغية تفتيته وإفقاد مرجعياته السياسية والحزبية قدرتها على قيادته.

لم يكتف نتنياهو بالسياسات القائمة بل إنه استخدم حالة الخوف من العربي من أجل تحشيد اليمين خلفه ودفعه للتصويت له في الانتخابات عندما وصف إقدامهم على التصويت في انتخابات العام 2015 بأنه يعرض حكم اليمين للخطر لأنهم "يهرعون إلى صناديق الاقتراع" وكأنهم سيسرقون الدولة ويختطفونها، وهو ما أعاد إحياء الشعور بالشك تجاههم والخوف من تكاثرهم وتأثيرهم وإمكانية تحكمهم بالدولة. التحريض ذاته مارسه نتنياهو قبل عام عندما حارب مجرد تفكير منافسه في حزب "أزرق أبيض" بيني غانتس بالاعتماد على أصوات أعضاء الكنيست العرب في تشكيل حكومة بديلة لحكومة نتنياهو، معتبرا أن الاعتماد على "أصوات أعضاء كنيست يدعمون الإرهاب" غير شرعي ويشكل خطرا على الدولة، متوجا بذلك حملة انتخابية كاملة قامت على أساس فكرة عدم شرعية الصوت العربي ومحاربته من خلال ربطه بالإرهاب.

ويبدو أن خطاب نتنياهو المعادي للعرب والمشكك بشرعية صوتهم وخطورة الاستناد عليه في بناء ائتلاف أصبح الركيزة الأساسية في خطاب اليمين وهجومه على القائمة المشتركة، وهو ما شكل قيدا على نتنياهو نفسه، وأفشل محاولته بناء ائتلاف يستند إلى أصوات القائمة العربية الموحدة التي أبدت استعداها للانخراط في مثل هكذا لعبة، لولا تعنت حزب أتباع كهانا ورفض بن غفير وسموتريتش مجرد التفكير بهكذا خيار حتى لو كان الثمن الذهاب إلى جولة انتخابات خامسة.

وما يمكن تقديره الآن هو أن آثار موجة العنف التي تجتاح المدن المختلطة والبلدات العربية في إسرائيل ستبقى طويلا حتى بعد انتهاء العدوان على غزة وعودة الهدوء إلى ساحات المسجد الأقصى، فقد حطمت معهما كل الآمال التي كانت تعوّل على امكانية التعايش بين اليهود والعرب، كما أنها أثبتت أن سنوات التهميش والتمييز والتحقير والتنكر لن تدفع الجماهير الفلسطينية في الداخل إلى الخنوع، بل إلى البحث عن أي فرصة كي تثور وتعيد الاعتبار لذاتها.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات