المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يُقدِّمُ الصحافي الإسرائيلي داني روبنشتاين لكِتابه "إمّا نحن وإمّا هم"، الصّادر مؤخراً عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيليّة- مدار، ترجمة سليم سلامة، بسؤال: "لماذا القسطل؟"، ويعتقدُ، ككثيرين آخرين، أنّ معركة القسطل مثّلت "نقطة تحول رمزية ودراماتيكية في المعارك التي اندلعت في البلاد عشيّة انتهاء الانتداب البريطاني في 15 أيّار". إضافة إلى ذلك، تمثّل معركة القسطل برأي المؤلّف، إضافة إلى حدثين آخرين مهمّين، نقطة تحوّل في مسار الأحداث المتصاعدة في فلسطين آنذاك لصالح العصابات الصهيونيّة، وهُما مذبحة دير ياسين ومعركة "مشمار هعيمق".

والحجّة الرئيسة للكتاب، والتي تعدُّ إحدى نقاط قوّة هذا العمل التأريخي، هي في تأكيد المؤلّف على جزئيّتين رئيسيّتين؛ الأولى تتعلّق بالعام 1948 بوصفهِ عاماً مصيرياً الذي "استطاع فيه الييشوف اليهودي تأسيس دولة مستقلة ومزدهرة، بينما حلّ بالفلسطينيين، في المقابل، دمار وطنيّ شامل، وشخصيّ أيضاً – في كثير من الحالات". وأمّا الجزئيّة الثانية، فتتعلّق باليوم الحاسم نفسه، يوم معركة القسطل واستشهاد عبد القادر الحسيني، بوصفهما "عصارة قصّة سقوط القدس العربيّة"، وإعادة التأكيد على محوريّة القُدس تاريخياً في مسار الأحداث، إذ مثّل سقوط القدس بعد معركة القسطل سقوطاً لفلسطين بأكملها، وذلك تأكيدٌ على ما قاله الحسيني نفسه: "القسطل هي القدس"، وما قاله في المقابل دافيد بن غوريون: "إذا سقطت القدس، فنحن معرضون للسقوط في البلد بأسرها".

معركة "الخضر" وبزوغ نجم الحسيني

يعود المؤلّف إلى بدايات مسيرة عبد القادر الحُسيني، من خلال العودة إلى الأسبوع الأوّل من أيلول عام 1936 الذي شهد وصول الضّابط العثمانيّ السابق، سعيد العاصّ، أحد أبطال الثورة السوريّة ضدّ الاستعمار الفرنسيّ عام 1925. كان الحسيني في عامه السادس والعشرين آنذاك، وكان من ضمن الثوّار الشباب الذين قادهُم العاصّ مع بداية وصوله إلى فلسطين. آنذاك كانت للحسيني مكانة خاصّة، فقد كان مثقّفاً أكاديمياً وابناً للعائلة العربيّة الأكثر عراقة ومكانة في فلسطين آنذاك. وقد كان قبل ذلك متأثّراً بشكلٍ عميق بنشاط الشّيخ المجاهد عز الدين القسّام، الذي جاء من سوريّة إلى حيفا وأسس تنظيم "اليد السوداء"، الذي نفذ هجمات مختلفة ضدّ الإنكليز واليهود في منطقة حيفا وشمال فلسطين إلى أن استشهد في منطقة يعبد في مدينة جنين، خلال معركة مع البريطانيين.

في الرّابع والعشرين من أيلول 1936، شنّ العاصّ ومجموعته التي كان من ضمنها عبد القادر الحسيني هجوماً على سكّة حديد قرب بيت لحم، ودفعوا الجنود البريطانيين للنزول من العربات وفتحوا نيرانهم عليهم. استدعى البريطانيون تعزيزات عسكريّة وقاموا بحملة واسعة استهدفت فرض حصارٍ كاملٍ على مدينة بيت لحم بأكملها. لاحقاً، اكتشفت طائرة استطلاع بريطانيّة أماكن اختباء الثوّار، وفي يوم 4 تشرين الثاني وقعت "معركة الخضر" التي حظيت بتوثيقٍ واسعٍ وانتشرت أخبارها على نطاقٍ جماهيريّ، لأنّها المعركة التي سقط فيها القائد العسكريّ السوريّ سعيد العاصّ، وكذلك أصيب واعتقل عبد القادر الحسيني خلال المعركة واقتيد أسيراً إلى المشفى الحكومي في القدس. برأي روبنشتاين، مثّلت معركة الخضر بداية قصّة عبد القادر الحسيني على المستويين العسكريّ والسياسيّ.

فيما بعد تمكّن الحُسيني من الخروج بكفالة على أن يمثُلَ أمام المحاكمة لاحقاً، وفي اليوم السابق على محاكمته هرب إلى خارج فلسطين برفقة قريبه سليمان الحسيني وسائقه خليل الدلو، في جولة إلى دمشق، بيروت وبغداد.

بروز الشخصيّة الصّلبة

ينسُجُ روبنشتاين خطوط مؤلّفه العريضة ما بين سيرة عبد القادر الحسيني الشخصيّة، وما بين سيرة الثّورة، النّكبة والانقسامات السياسيّة الداخليّة الفلسطينيّة التي كانت ولا تزالُ إلى يومنا هذا، عائقاً بُنيويّاً للثّورة، للكفاح المسلّح لاحقاً ولإنشاء بُنى سياسيّة وطنيّة جامِعة. ولأنّ الحسيني كان ابناً لعائلة أرستقراطيّة عريقة، كانت ولا تزال مكوّناً رئيساً من مكوّنات المشهد السياسيّ والتقليديّ الفلسطينيّ، كان من السّهل بمكان مزجُ السّرديّتين الوطنيّة بالشّخصيّة.

عاد الحُسيني إلى فلسطين في نهاية حزيران عام 1937، وكان المشهد تغيّر كُلّياً. كان الإضرابُ العام لسنة 1936 قد انتهى إلى فشلٍ ذريعٍ بوقفِهِ جرّاء تدخّل الملوك العرب. تبعت ذلك توصيات لجنة بيل بتقسيم فلسطين إلى دولة عربيّة وأخرى يهوديّة على السّاحل الفلسطيني، وهي التوصيّات التي فجّرت خلافاً سياسياً سيكون له "انعكاسات سياسيّة وعسكريّة عميقة استمرّت سنواتٍ عديدة"، في المجتمع الفلسطيني، ما بين المطلب الوطنيّ الفلسطيني بالسيطرة على البلاد بأسرها، وما بين الموقف المساوم الذي تبنّته العائلة المالكة الهاشميّة وحلفاؤها في معارضة آل الحُسيني.

بدأ عبد القادر الحسيني بعد عودته بوقتٍ قصيرٍ بتنظيم الفرق الأولى من المقاتلين من أبناء العشائر والقُرى، واستطاع تجنيد وتنظيم فرق محلّية في كلّ قرية مزودة بقليل من الأسلحة وعيّن لها قائداً محلّياً. وكان من بين العمليّات العسكريّة الأكبر التي نفّذها خلال خريف 1937، هجومه على قافلة بريطانية قرب عرطوف [بجوار بيت شيمش اليوم]، استطاع خلالها قتل عديد الجنود البريطانيين والاستيلاء على أسلحتهم.

بشكلٍ جانبيّ، يتطرّق المؤلّف إلى وصفٍ شخصيّ طبقيّ لشخصيّة الحُسيني بالاستناد إلى شهادات من عاصروه أو عرفوه في تلك الفترة. وقد وُصِفَ بأنّه شاب قصير القامة، ذو بنية جسديّة قويّة تمكّنه من حمل حمولة ثقيلة لأسابيع طويلة على ظهره، وكان بالفعل يتنقّل مع عدد قليل من المرافقين لأسابيع وهو يحمل كيساً كبيراً يحتوي على معدات عسكريّة، أسلحة وذخائر، إضافة إلى حاجيّات يوميّة كملابس، بطانية ومواد غذائيّة. ولذلك وُصِفَ بـ"الدبّابة المتنقّلة". وكان جزءاً من الاحترام الذي أحيطَ بهِ خلال حياته وبعد موته هو حقيقة اختياره لمصيره بخِلاف أقرانه من أبناء الطبقة الأرستقراطيّة العثمانيّة العريقة في مدينة القدس والمدن الفلسطينية الحضريّة الكبرى كحيفا ويافا. فمعظم هؤلاء كان يختارون التوجّه لدراسة الطبّ، الهندسة، المحاماة، التجارة أو الانخراط في مجال الأعمال، في حين اختار عبد القادر الحسيني حياة الجبال، متجوّلاً بصحبة أبناء الفلاحين والفقراء من الثوّار الذين رافقوه حتّى معركته الأخيرة.

كذلك يشير المؤلّف إلى العلاقة غير التقليديّة ما بين عبد القادر الحسيني ووالده موسى كاظم الحُسيني، والتي اتّسَمت وعبّرت في الوقت نفسه عن شخصيّة جامحة، غير تقليديّة لعبد القادر الحسيني منذُ كان فتى. كان لوالده ونشاطه السياسي أثر بالغ عليه، فكان يرافقه في كثير من الاجتماعات، وفي بعض الأحيان يُحرِّضهُ على اتّخاذ موقفٍ وطنيّ يتردّد في اتّخاذه، منها دفعه والده إلى المشاركة في مظاهرات ثورة البراق العام 1929، بعد محاولة وفد بريطاني إثناء موسى كاظم الحسيني عن المشاركة فيها، دفعه موقف ابنه للمشاركة فيها أخيراً، والبعضُ يعتقد أنّ وفاة الحسيني بعد شهور قليلة على تلك المظاهرة كانت جرّاء تعرّضه للإصابة والدّهس خلال أحداث العنف التي تلتها.

كذلك يكشِفُ المؤلّف عن شخصيّة عبد القادر الحسيني الأكاديمية الحادّة في مواقفها من [التطبيع الثقافيّ]، خلال دراسته في القاهرة. إذ يذكر الموقف الذي اعتلى فيه الحسيني منصّة التخرُّج ووقف أمام جمع غفير من أكاديميي وطلاب الجامعة الأميركيّة في القاهرة، وهاجم فيه أجندات الجامعة الثقافية معتبراً مناهجها محرّضة على الدين الإسلاميّ وتحضُّ على التبشيريّة المسيحيّة "لزرع الشقاق والخلافات بين المسلمين والمسيحيين".

من بني نعيم إلى بغداد

هناك روايات مختلفة للسّبب الذي دفع بعبد القادر الحسيني للحضور إلى قرية بني نعيم، التي كانت معقلاً للمعارضة المنتمية لعائلة النشاشيبي. بعضُ الرّوايات تقول إنّه تمّ استدراجه من قبل المعارضة إلى القرية، والبعض الآخر يعتقد أنّه ذهب بنفسه لتحذير سكان القرية من التعاون مع المعارضة ولحضّهم على الانضمام إلى الثوّار؛ ولكنّ المؤكّد أنّه بمجرّد خروجه من القرية حوصِرَ من قبل البريطانيين في وادٍ قريبٍ حيث جرت معركة قتل خلالها ابن عمّ الحسيني، إضافة إلى إصابته وإصابة صبحي أبو غريبة ومقتل 16 من رجاله ورجال عبد الحليم الجولاني.

تقول القصّة إنّه ومع بزوغ الفجر كان عبد القادر لا يزال مستلقياً متخفّياً تحت أغصان بعض الشجر، ولم يتعرّف إليه الجنود البريطانيون، وقام أحدهم بركله وطعنه ورغم ذلك لم يصدر عبد القادر أيّ صوتٍ يدلّ على أنّه لا يزال حياً. لاحقاً رآه بدويّ حمله على ظهره ونقله إلى المشفى في الخليل.

تمكّن عبد القادر من النجاة، وبمساعدة من عبد الحليم الجولاني وآخرين، انتقل إلى منزل في الخليل، ومن ثمّ إلى مساكن عشيرة السواحرة شرقي بيت لحم. ومن ثمّ جرى تهريبه إلى ما وراء نهر الأردن، إلى بلدة الشونة، ومن هناك تمكّن من الوصول إلى دمشق حيث مكث عدّة أسابيع لتلقّي العلاج.

يتطرّق المؤلّف في فصل "الشتات" إلى مرحلة العراق المعقّدة في تاريخ عائلة الحسيني، وتحديداً المفتي الحاج أمين الحسيني وعبد القادر الحسيني. وقد انتهت بتنظيم تمرّد فاشل على البريطانيين والحكومة العراقيّة الموالية لبريطانيا ومن ثمّ الخروج إلى ألمانيا النّازية. وفي رأي المؤلّف، فقد أثّرت العلاقة التي جمعت المفتي الحسيني بالنازية على تعاطف الأوروبيين لاحقاً مع كارثة النكبة التي حلّت بالفلسطينيين، وتمّ توظيفها من قبل العصابات الصهيونية في حرب عام 1948 بوصفها حرباً "أخلاقيّة" على المتعاونين مع النّازية. إلّا أنّه ورغم انخراطه في بعض النشاطات السياسية أثناء إقامته في العراق، لم يكن عبد القادر جزءاً من علاقات الحاج أمين مع النازية، بل أمضى عاماً معتقلاً على خلفيّة تحقيق في مقتل فخري النشاشيبي في العراق، قبل أن يسافر إلى السعوديّة ليقيم فيها ما يقارب العامين قبل توجّهه إلى القاهرة ومن ثمّ أخيراً إلى فلسطين.

"إمّا نحن وإمّا هم"

في القاهرة، وفي الفصل السابع المعنون "إمّا نحن وإمّا هم"، يتطرّق الكاتب إلى المرحلة التي سبقت العودة الأخيرة إلى فلسطين، وهي مرحلة القاهرة التي تجمّع فيها فلسطينيو المنفى حول كلّ من عبد القادر الحسيني والحاج أمين الحسيني. اتّسمت تلك المرحلة بالتشكّك الفلسطيني في القرار العربي، بل وفي اقتناع كثيرين، منهم عبد القادر الحسيني، بموافقة العرب الضمنيّة على قرار التقسيم الذي وبعد ثلاثة أسابيع على صدوره تسلل عبد القادر إلى فلسطين، إلى صوريف تحديداً، بعد أن أمّن وصول بعض العتاد العسكريّ والأسلحة من خلال سيناء إلى صوريف التي اتّخذها مقرّاً لتنظيمه العسكريّ القديم الجديد "الجهاد المقدّس".

إلّا أنّ الوضع في فلسطين كان قد تغيّر منذ خروجه منها العام 1939 وعودته في العام 1947؛ وكان على عبد القادر التعامل مع واقع ازدياد سطوة المعارضة وعصابات السلام، إضافة إلى واقع أنّ قطاعاً واسعاً كان منخرطاً في عمليّة إعادة الإعمار والازدهار الاقتصاديّ الذي تَلا الحرب العالميّة الثانية، والذي لم يكن بالضّرورة معارضاً لعبد القادر ولكنّه قانع بالأمور كما هي الآن، وإضافة إلى المجموعات الشيوعيّة التي كانت تؤيد قرار التقسيم بتأثير من الاتحاد السوفييتي آنذاك؛ وقد كان موقف عبد القادر الحسيني واضحاً وصارماً في كلماته: "لا يمكن أن تكون فلسطين للعرب والصهاينة معاً – إمّا نحنُ وإمّا هُم [...] إنّها حرب حياة أو موت؛ إمّا أن نخرج من الحرب منتصرين وإما أن نموت جميعاً".

في الفصل الثامن، "المطرقة والسندان"، يبدأ روبنشتاين بالحاج أمين الحسيني وينتهي ببلدة بير زيت، مقرّ قيادة عبد القادر الحسيني وتنظيمه العسكريّ "الجهاد المقدّس". ففي الوقت الذي كان فيه عبد القادر لا يزال مستمرّاً في مساعيه التنظيمية في فلسطين، كان الحاج الحسيني لا يزال يُفاوِضُ ويُجادل الجامعة العربيّة والقوى السياسيّة العربيّة في شأنِ عدم أهليّة القاوقجي لقيادة جيش الإنقاذ وأحقّية عبد القادر والفلسطينيين عموماً بقيادة ثورتهم والحرب الوشيكة. وقد وجد نفسه بين "المطرقة والسندان"، ما بين قناعته بأنّ أيّة قوة عربيّة ستدخل البلاد لا بدّ ستكون قوة احتلال لاحقٍ، وما بين اقتراب موعد انتهاء الانتداب البريطانيّ وحاجته الماسّة للعتاد العسكريّ والأموال ولجيش الإنقاذ العربيّ المنتظر.

في الأثناء كان عبد القادر الحسيني يُوسّع من عمليّاته العسكريّة ضدّ المستوطنات الصهيونيّة، ومنها مهاجمته لمستوطنة غوش عتصيون التي باءت بالفشل لتحصينات المستوطنة الجيّدة. وقد أدرك أن لا بُدّ من استراتيجيّة أخرى للتغلُّب على تحصينات الكيبوتسات الصهيونيّة. وبعد بضعة أسابيع، تبدّل الشعور العامّ بالهزيمة، إلى شعورٍ عامّ بالانتصار والغلَبة للعرب على حساب اليهود بعد معركة صوريف، التي اشتهر فيها اسمُ القائد إبراهيم أبو ديّة، الرّجلُ الأقرب لعبد القادر في تنظيم "الجهاد المقدّس". شكّلت المعركة ونتائجها التي أسفرت عن مقتل رجال المفرزة الصهيونيّة التي أرسِلَتْ لتعزيز دفاعات غوش عتصيون بعد مهاجمتها جميعاً، صدمة للحركة الصهيونيّة وباعثاً على الأمل للفلسطينيين عموماً، ولرجال عبد القادر الحسيني على وجه الخصوص. وكذلك شكّلت دفعة قويّة لتنظيم "الجهاد المقدّس" الذي بدأت تتسع رقعته بشكلٍ تدريجيّ، إلى أن استقرّ عبد القادر الحسيني على بلدة بير زيت قرب رام الله مقرّاً لقيادة التنظيم وتنسيق عمليّاته العسكريّة.

ثمّ أتى آذار الرّهيب، في الفصل التاسع، الذي يتطرّق إلى العديد من العمليّات التفجيريّة والعسكريّة المتبادلة ما بين تنظيم "الجهاد المقدّس" وما بين عصابات الهاغاناه الصهيونيّة؛ وكان من أهمّها وأشدّها أثراً ويصفُها المؤلّف بأكبر التفجيرات التي شهدتها القدس خصوصاً وفلسطين عموماً حتّى ذلك الحين، عمليّة تفجير مبنى الوكالة اليهوديّة في القدس بواسطة سيّارة مفخخة. وقعت العمليّة في 11 آذار، وقد نفّذها أنطوان داوود، الذي كان ولد في بوغوتا، كولومبيا، وكان يعمل سائقاً في القنصليّة الأميركيّة في القدس آنذاك. وتكمن أهميّة العمليّة كما يصفُها المؤلّف، بأنّه "لم يكن ثمّة بناية أخرى في الييشوف اليهودي في البلاد مثّلت، بهذا النحو القاطع، التطلعات القومية الصهيونية والسعي نحو إنشاء دولة قومية يهودية".

ما بين الشخصيّ والوطنيّ

في فصول "حصار"، و"دمشق، بداية النّهاية"، و"على الجبل"، يكتب المؤلّف عن ثلاثة مساراتٍ للأحداث؛ الأوّل يخصُّ عبد القادر الحسيني وتتبع مساره الثوريّ حتّى نهايته، والثّاني مسار العمل السياسيّ العربيّ عبر دمشق، التي مثّلت زيارة عبد القادر الأخيرة لها والمعارك محتدمة على الأرض، محاولته الأخيرة لانتزاع أيّ نوع من أنواع الدعم العسكريّ من الجامعة العربيّة، المحاولة التي مُنيت بالفشل. وقد كتب عنها عبد القادر مذكّرته التّالية إلى أمين الجامعة العربيّة: "... إنّي أحملكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح".

أمّا المسار الأخير فهو مسار العودة من دمشق، بعد أن كانت القسطل قد سقطت، واستشهاد عبد القادر الحسيني الذي دار حوله الكثير من الحكايات والأساطير. ففي ساعة متأخّرة فجراً ليل الثامن من نيسان كان عبد القادر، بحسب المؤلّف، برفقة فتيان يحاولون العثور على عبوة ناسفة لم تنفجر بعد في ساحة منزل المختار شرقَ القسطل. كان بعض رجال لواء عتصيوني، ومن بينهم مئير كرميول، متمركزين على شرفة منزل إلى الشرق من بيت المختار. وعند انتباههم إلى عبد القادر ظنّ كرميول أنّها تعزيزات قد أرسِلَت إليهم، نادى نحوهم: "أهلا يا جماعة"، وسَمِعوا عبد القادر يجيبهم:"هَلو بويز"، بالإنكليزيّة.

لا أحد يعرف لماذا أجابهم عبد القادر بالإنكليزيّة، والبعض يعتقد أنّه قد أوقِعَ بهِ في مؤامرةٍ بريطانيّة لاغتياله، ولكنّ روبنشتاين يعتقد أنّه ربّما اعتقد أنّهم البريطانيون الثّلاثة المرتزقة الذين كانوا يقاتلون برفقته آنذاك. بعد لحظاتٍ انتبه يعقوب سلمان إلى أنّهم كانوا عرباً ولم يكونوا تعزيزاتٍ يهوديّة، فنادى كرميول، الذي سيموت في المعركة بعد ساعاتٍ قليلة: "مئير، هؤلاء عرب"، فردّ هذ ابإطلاق النّار من رشاش "ستين" نحو عبد القادر والفتيين برفقته.

لساعاتٍ لم يعرف اليهود أنّهم قد قتلوا عبد القادر، وحتّى بعد تفقّد جثّته في الصّباح قرأوا اسمه خطأ بالعربيّة: "عبد القادر موسى سليم". ولم يعرف اليهود إلّا بعد ساعاتٍ من خلال استخبارات الهاغاناه أنّهم قد قتلوا عبد القادر الحسيني.

لا يوثّق الكتاب فقط للساعات الأربع وعشرين الأخيرة من حياة عبد القادر الحسيني، فالحجّة الأساسيّة هي أنّه لفهم هذه الساعات الأربع وعشرين لا بدّ من فهم تاريخ سابق لهذه الساعات الأخيرة؛ تاريخ متداخل لا بُدّ من تتبع خيوطه الأشدّ تعقيداً لفهم الموقف النهائيّ الذي فيه وجد عبد القادر الحسيني نفسه وحيداً بِلا أيّ نوعٍ من أنواع الدّعم ورجاله "في أوج انتصاراتهم". بكلماتٍ أخرى، إنّ الإجابة عن سؤال "لماذا القسطل؟"، تعني الإجابة عن أسئلة أخرى كثيرة من بينها؛ سؤال سقوط القدس والبلاد بأكملها.

 

المصطلحات المستخدمة:

مشمار هعيمق, الصهيونية, الهاغاناه

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات