المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
نتنياهو يلتقط صورة مع طائرة أف-35 لدى وصولها لمطار عسكري العام 2016.

لم تمض أيام قليلة على توقيع إسرائيل والإمارات العربية على اتفاق تطبيع العلاقات بينهما، حتى انحرف النقاش داخل إسرائيل، ومن مختلف الجهات الأمنية والسياسية والإعلامية، من الحديث عن الاستثمارات الضخمة والآفاق التي سيفتحها أمام إسرائيل والفوائد التي ستجنيها من وراء هذا الاتفاق (الذي شدد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لحظة إعلانه على أنه الأول الذي يجسد مبدأ عدم التبادلية وتقديم تنازلات لكونه قائما على أساس "سلام مقابل سلام")، إلى التهديد الكامن فيه، خاصة فيما يتعلق بما كشفه الصحافي الإسرائيلي ناحوم بارنياع في صحيفة "يديعوت أحرونوت" عن أن الاتفاق سيمكن الإمارات من الحصول على طائرات إف 35 التي تعتبر الطائرات القتالية الأكثر تقدما في العالم، والتي لا تمتلكها أي دولة في المنطقة، وذلك كجزء من الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي المرعي أميركيا.

ما كشفه بارنياع أكدته صحيفة "نيويورك تايمز"، وعاد وأكده الرئيس الأميركي دونالد ترامب، رغم نفي نتنياهو له، وهو ما دفع وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس إلى اعتباره خطرا يمكن أن يعرض التفوق العسكري النوعي الإسرائيلي للخطر، وهو "ما لا يمكن التسامح به".

قائد سلاح الجو الإسرائيلي، عميكام نوركين، لم يستطع أن يتجاهل الأمر، حيث قال في مقابلة خاصة أجرتها معه القناة 12 إن "للولايات المتحدة مصلحة في حفظ التفوق النوعي العسكري الإسرائيلي" مذكرا بما قاله رئيس هيئة الأركان أفيف كوخافي في هذا الصدد، بأن إسرائيل تريد "جدا جدا أن تبقي على تفوقها النوعي"، وأن هذا الأمر (التفوق النوعي) مصان بقانون في الولايات المتحدة الأميركية وهو "ما يمكن إسرائيل من التأثير على قرار" بيع الطائرات إلى الإمارات.

ويمكن القول إن إجماع وزير الدفاع ورئيس الأركان وقائد سلاح الجو على رفض المس بالتفوق النوعي العسكري الإسرائيلي حتى في ظل اتفاقية سلام مع الإمارات، يعكس أهمية هذا المبدأ ورسوخه في العقيدة الأمنية الإسرائيلية منذ عقود واعتباره بمثابة حجر الزاوية في بقاء إسرائيل.

ولادة "عقيدة التفوق"

منذ إنشائها، عانت إسرائيل من معضلة قالت إنها غير قابلة للحل بأي حال من الأحوال، وهي أنها ستعاني دوما ومهما حدث من كونها دولة أقل عددا ومساحة وموارد وسكانا، من الدول العربية التي تحيط بها، وتناصبها العداء ولا تعترف بحقها في الوجود، وترى أنها دولة غير شرعية، قامت على أنقاض الفلسطينيين الذين هجرتهم من بلادهم بقوة السلاح.

أدرك ديفيد بن غوريون هذه الحقيقة مبكرا، وعبر عنها، وفق دراسة أجراها العقيد احتياط مئير فينكل والباحث نيف فريدمان، بنظرية مضادة تقوم على أساس التفوق البشري النوعي، المستند الى العقيدة القتالية والتأهب والتدريب لأن "العنصر البشري (الإسرائيلي) يتفوق بما لا يقاس في قدراته الأخلاقية والثقافية على جيراننا، كونه رأس مالنا الوحيد والأساس حتى الآن"!

يوضح فينكل أن بن غوريون لم يكن يقصد، عند حديثه عن التفوق البشري، قدرة الجندي على التحكم بآلة الحرب وتشغيلها، بل القدرات النفسية والذهنية لدى هذا الجندي، وشعوره بالتهديد الوجودي العميق "وأن لا خيار أمامه" وأن أمن المجتمع الإسرائيلي يقع على عاتقه.

وزير الدفاع الأشهر في تاريخ إسرائيل، موشيه ديان، أعاد صياغة ما قاله بن غوريون، بأن اعتبر أن الجندي الإسرائيلي يستمد تفوقه من قادته وعلوه الأخلاقي، مفسرا أن هذا التفوق يعني "قدرة الجندي الإسرائيلي على الارتجال، والمبادرة، والمرونة، والتفكير خارج الصندوق".

أما كتاب "الأمن القومي الإسرائيلي" الذي ألفه الجنرال يسرائيل طال، فقد شدد هو الآخر على التفوق النوعي معتبرا أن لا قدرة أو رغبة لدى إسرائيل في منافسة العرب على الكم، وأن الرد على هذه الحقيقة غير القابلة للتبدل، يكمن في التفوق النوعي لدى الجنود والضباط الإسرائيليين، والذي يمكن اشتقاقه من الجهوزية الدائمة والحافز على القتال.

التشديد في الأدبيات العسكرية الإسرائيلية على التفوق البشري، ومميزات الجندي الإسرائيلي مقارنة بالجندي العربي، في الحقبة التي سبقت إنشاء إسرائيل حتى فترة بداية التسعينيات، تستمد أساسها من طبيعة الصراع ومحدداته وحالة شبه التساوي النسبي في العتاد العسكري والتطور التكنولوجي بين إسرائيل والدول العربية في تلك الفترة، التي كان فيها التهديد نابعا من أنظمة لا تقيم علاقات مع إسرائيل ولا تعترف بها، تمتلك جيوشا نظامية تتفوق على إسرائيل عدديا، وتتلقى التسليح من الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية، وخاصة في مصر وسورية والعراق.

الالتزام الأميركي بتفوق إسرائيل عسكريا

واجهت إسرائيل الجيوش العربية في ثلاث حروب متتالية، استطاعت أن تنتصر فيها، أو أن لا تسجل هزيمة تظهر ضعفها وتهدد وجودها (النكبة وحرب 67 وكونها جزءا من العدوان الثلاثي في 1956)، قبل أن تتكفل الولايات المتحدة بتسليحها وضمان تفوقها العسكري النوعي على كل جيرانها العرب.
حتى منتصف الستينيات تبنت الولايات المتحدة سياسة (محايدة) في بيع السلاح لمنطقة الشرق الأوسط، أطلقت عليها سياسة البيع "العادل" للسلاح والتي أرادت من خلالها "أن لا تتفوق أي دولة في المنطقة على الدول الأخرى" في ظل الحرب الباردة التي كانت تخوضها على مستوى العالم مع الاتحاد السوفييتي، وقد عبرت عن هذه السياسة برفضها طلب رئيس الحكومة الإسرائيلية ليفي إشكول تزويد إسرائيل بمنظومات متطورة، متعهدة بدل ذلك "بتحريك أسطول بلادها السادس للدفاع عن إسرائيل" إذا ما تطلب الأمر ذلك.

التحول في السياسة الأميركية، قاده الرئيس جونسون في العام 68 (بعد وربما بسبب الانتصار الإسرائيلي في حرب 67) بموافقته على بيع إسرائيل 58 طائرة فانتوم و100 طائرة سكاي هوك. ومنذ ذلك التاريخ لم تزود الولايات المتحدة إسرائيل بالسلاح فقط، بل سنت قانونا خاصا تم إقراره في العام 1976 يلزم الرئيس الأميركي بعدم عقد أي صفقة سلاح تهدد التفوق العسكري النوعي الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط، وقد تم في العام 2012 إضافة بند إلى هذا القانون يلزم البيت الأبيض بالحصول على مصادقة الكونغرس على بيع أي صفقة سلاح لدول الشرق الأوسط، وهو ما يعني أن السياسة العامة والتوجه السياسي بحفظ تفوق إسرائيل تحولا إلى قانون ملزم ويحظى بمباركة الحزبين.

هذا التعهد الذي تطور إلى قانون، تم تعزيزه والتأكيد عليه في كل اتفاقية عسكرية أو مذكرة تفاهم بين إسرائيل والولايات المتحدة، كما حدث في (اتفاقية العشر سنوات) التي حددت حجم المساعدات العسكرية لإسرائيل في السنوات 2007-2017، حيث أدرج بند ينص على "أن الولايات المتحدة ملزمة بأن تكون أي صفقة سلاح موجهة لدول الشرق الأوسط، خاضعة لمبدأ عدم المس بالتفوق النوعي الإسرائيلي"، وهو ما عاد وأكد عليه باراك أوباما العام 2015 في رسالة أرسلها إلى الكونغرس الأميركي ذكر فيها أن "لا يوجد رئيس أميركي قبله" قدم لإسرائيل ما قدمه هو، وأن التفوق النوعي الإسرائيلي هو "أساس التعاون بين البلدين".

الدعم الأميركي العسكري لإسرائيل لا يقتصر على بيعها السلاح المتطور، وحجبه عن الدول الأخرى، حتى تلك التي وقعت معها اتفاقيات سلام، بل والمساهمة في تمويل بناء أنظمة أمنية دفاعية متقدمة مثل القبة الحديدية وصواريخ حيتس، وتصنيف إسرائيل منذ العام 1987 على أنها "شريك استراتيجي رئيس" ومن ثم في 2014 اعتبارها "الحليف الرئيس من خارج دول حلف الناتو" بالإضافة الى الدعم المالي السنوي بـ 3.8 مليار دولار سنويا، وهي أكبر مساعدة تقدمها الولايات المتحدة في تاريخها، وجاء هذا الدعم بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، وخروج مصر ومن ثم الأردن من دائرة الصراع بعد التوقيع على اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وانهيار الجيش العراقي الذي خضع للاحتلال الأميركي المباشر، ودخول سورية في حرب أهلية قضت على أي فرصة أمام جيشها لشن هجوم على إسرائيل.

إن هذا الالتزام الذي لم يجرؤ أي رئيس أميركي (قبل دونالد ترامب) على مجرد الحديث عنه، ناهيك عن اختراقه، يعكس أن كل التغيرات التي شهدتها المنطقة إنما بدلت شكل التهديدات التي تتعرض لها إسرائيل، من تهديدات تمثلها الجيوش التابعة لأنظمة، إلى تهديد المنظمات والأحزاب والحركات المقاومة المنضوية تحت لواء ما يعرف بمحور المقاومة.

تكنولوجيا أكثر وجنود أقل

وصف الباحث في الشؤون العسكرية إسحق بن يسرائيل، في سلسلة مقالاته التي جاءت تحت عنوان (النظرية النسبية في بناء القوة)، فترة التسعينيات بأنها فترة الانتقال من عصر التفوق البشري النوعي إلى عصر التفوق التكنولوجي الذي لا يحتاج إلى عدد كبير من الجنود، بل إلى قوة نوعية تمتلك بنية تحتية أساسها سلاح الجو، حيث سيتم الاعتماد عليه أكثر وأكثر مع مرور الزمن، خاصة مع التغيرات التي تطرأ على المجتمع في إسرائيل، وحساسيته للخسائر البشرية، وتبدل طبيعة المواجهة من مواجهة بين جيوش إلى مواجهة مع منظمات وحركات مندمجة في السكان.

التهديد الذي يمثله المحور الإيراني، والذي يعتمد على الهجمات الصاروخية، بسبب البعد الجغرافي واعتماده على حلفاء محليين من أحزاب المقاومة، بالإضافة إلى تجربة الانتفاضة، كلها عوامل رفعت من قيمة التفوق التكنولوجي على حساب التفوق البشري الذي نادى به بن غوريون وديان، وهو ما عبرت عنه الوثيقة الخاصة بالأمن القومي الإسرائيلي التي تمت صياغتها في العام 2006 وبات يطلق عليها اسم "وثيقة مريدور"، والتي اعتبرت أن "جوهر التفوق الإسرائيلي يكمن في التفوق التكنولوجي" خاصة في المجال الجوي والبحري.

طائرات إف 35 التي تعتبر التجسيد الأبرز لهذا التفوق ولحجم التعاون الأميركي الإسرائيلي، حيث سمح لإسرائيل بأن تضع منظومات خاصة بها في الطائرة الأكثر تطورا في العالم، وأن تشارك في تطويرها وأن تمتلك إذناً بشراء 75 طائرة منها بقيمة 15.2 مليار دولار، تجعل النقاش الذي يدور حولها يختزل في ثناياه مجمل عقيدتها العسكرية ورؤيتها للمنطقة، التي وإن استطاعت أن تعقد اتفاقية تطبيع علاقات مع بعض دولها، إلا أن هذا لا ينفي ضرورة الاحتفاظ والحرص على بقاء التفوق العسكري النوعي كما هو، خاصة وأن هذه الأنظمة تعتبر في نظر إسرائيل أنظمة غير مستقرة ولا يمكن الرهان عليها على المدى البعيد، لا سيما بعد تجربة إيران الشاه التي تحولت بين عشية وضحاها عقب ثورة الخميني في 1979 من الحليف رقم واحد الى العدو الأكثر شراسة وتهديدا لأمن إسرائيل.

تساءلت صحيفة "دفار" في سياق إجمالها للاتفاق الإماراتي- الإسرائيلي: هل تقايض إسرائيل تفوقها العسكري النوعي مقابل القبول بها وشرعنتها إقليميا؟ ليجيب الباحث الكبير في معهد هرتسليا أودي أفنطال بشكل حاسم بأن "فقدان إسرائيل للحصرية في امتلاك طائرات إف 35 سيقود إلى تآكل تفوقها النوعي وحرية الحركة التي تتمتع بها في المنطقة، ما سيقلص الفجوة بينها وبين دول المنطقة وهو ما يعد خطرا استراتيجيا سيقود الى انطلاق سباق تسلح في منطقة غير مستقرة".

لا شك في أن الولايات المتحدة التي يرغب رئيسها وحليفه الأكثر حميمية نتنياهو أن يسجلا إنجازا على شكل اتفاقيات سلام بين إسرائيل ودول عربية (لأسباب ذاتية قبل كل شيء)، سيجدان الطريقة المناسبة لحفظ التفوق النوعي الإسرائيلي من خلال رزمة جديدة من المساعدات والاتفاقيات العسكرية التي باشر وزير الدفاع بيني غانتس ببحثها مع البنتاغون، دون فقدان أو إهانة الحليف الذي لا يقل أهمية في الخليج الذي سيكتفي بالحصول على الطائرة حتى لو بعد سبع سنوات، كما صرح بذلك سفير الولايات المتحدة في إسرائيل ديفيد فريدمان، وبعد أن تعاد صياغة الطائرة وضمان عدم المس بالتفوق العسكري النوعي الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط.

المؤشر الآخر الأكثر دقة في التعبير عن عدم قبول إسرائيل بالمقايضة المفترضة بين القبول في المنطقة مقابل التفوق النوعي، يمكن الاهتداء إليه من تصريحات نتنياهو نفسه والنظرية الجديدة التي لم يكف للحظة عن الترويج لها، والتي تفترض أن السلام يصنعه الأقوياء، وأن السلام مع الإمارات أصبح ممكنا بفضل القوة التي تتمتع بها إسرائيل، لتمنح هذه التصريحات التفوق النوعي لإسرائيل وظيفة أخرى غير الردع وحماية وجود الدولة، وظيفة ملموسة أصبح بالإمكان تلمسها وهي: "جلب السلام غير المقرون بتنازلات".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات