المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
نتنياهو.. عنوان الفشل في أزمة كورونا. (إ.ب.أ)

على خلفية تفاقم أزمة وباء كورونا في إسرائيل والحديث عن بلوغ المستشفيات فيها درجة الاختناق وعدم القدرة على استيعاب ومعالجة مرضى آخرين إضافيين، أصدر وزير الدفاع الإسرائيلي، بنيامين (بيني) غانتس، تعليماته إلى الجيش الإسرائيلي بالاستعداد لتجهيز وافتتاح مستشفى ميداني بما يتناسب مع احتياجات المستشفيات والجهاز الصحي في البلاد ويخدمها ويساهم في التخفيف من حدة هذه الأزمة وتبعاتها. وسيضم هذا المستشفى الميداني، حسبما أفادت التقارير، 200 سرير وطواقم طبية (أطباء، ممرضات ومسعفون) من تلك التابعة للجيش الإسرائيلي. كما أصدر غانتس تعليماته إلى الجيش ببدء العمل على وضع "استراتيجية خروج من الإغلاق التام" في إسرائيل والاستعداد لتعزيز قوات الشرطة في حال استمرار الإغلاق أو تشديده.

في المقابل، صادق غانتس ورئيس هيئة الأركان العامة في الجيش الإسرائيلي، الجنرال أفيف كوخافي، على انطلاق "قيادة الجبهة الداخلية" في العمل على إنشاء وحدة خاصة للفحوصات الوبائية (سيطلق عليها اسم "آلا") يُحوَّل إليها 600 من الجنود النظاميين، إضافة إلى عشرات الجنود من الاحتياط ومئات الباحثين الذين من المزمع تشغيلهم في إطار السلطات المحلية خلال الأسابيع القريبة. وستكون مهمة هذه الوحدة توسيع منظومة الفحوصات الوبائية.

تثير هاتان الخطوتان جملة من الأسئلة الجوهرية الهامة جداً حول حدود إقحام الجيش في مهمات مدنية وحول العلاقة المتبادلة ما بين الجيش والمجتمع المدني في ظل أزمة كورونا، وهو موضوع تتفرع منه أسئلة عديدة تلامس مختلف جوانب الحياة في أي مجتمع بشري بوجه عام، وفي المجتمع الإسرائيلي على وجه الخصوص. وهو الموضوع الذي عكف طاقم خاص مشترك شمل أربعة باحثين من "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" و"معهد دراسات الأمن القومي"، على دراسته مؤخراً، في أعقاب "الموجة الأولى" من انتشار وباء كورونا في إسرائيل، وخلص في نهايتها إلى وضع "ورقة موقف" خاصة بهذا الشأن.

بين تقديم المساعدة وإدارة الأزمة

الموقف الأساس الذي تعرضه هذه الورقة هو أن على الجيش الإسرائيلي ـ من خلال "قيادة الجبهة الداخلية" ـ أن يساعد الدولة ومواطنيها في حربهم ضد وباء كورونا، بكل ما أوتي من قدرات وإمكانيات متنوعة، بحيث يكون قوة داعمة ومكملة لمختلف الجهات والعناصر المدنية الأخرى. ولكن، بالرغم من هذا الاستنتاج المركزي، تحذر "ورقة الموقف" من مغبة الانجرار إلى وضع يتولى فيه الجيش إدارة الأزمة بصورة كلية، أو مجالات وجوانب محددة منها فقط، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية، تتعدى مجالات صلاحياته، وذلك لتجنب الصدام مع مبادئ النظام الديمقراطي المعتمد في إسرائيل، أو تجاوزها والدوس عليها حتى؛ ذلك أن نقل المسؤولية عن إدارة الكوارث الجماهيرية إلى الجيش ينبغي أن يخضع للفحص ولكثير من الاعتبارات والمعايير والمحاذير وأن يتم بمنتهى الحرص والعناية وقد يكون ممكناً في حالات استثنائية جداً فقط، كأن تكون كارثة وطنية شاملة مثلاً، تنهار فيها منظومات الدولة المدنية وتصبح عاجزة تماماً عن تأدية مهماتها، ولكن حتى في مثل هذه أيضاً ينبغي أن يكون الانتقال تحت مسؤولية المستوى السياسي وتحت مراقبة برلمانية وقضائية مشددة.

تشير "ورقة الموقف"، تمهيداً، إلى أن أزمة كورونا تهدد بزعزعة مفاهيم ومصطلحات أساسية في مجالات عديدة ومختلفة وأن انعدام اليقين والاضطراب يسيطران على الخطاب العام والسجال الجماهيري، في إسرائيل كما في الغالبية الساحقة من دول العالم التي اضطرت إلى خوض حرب لا هوادة فيها ضد وباء كورونا. وهنا يورد الباحثون احتمال أن يكون سبب انعدام الوضوح والبلبلة في التمييز ما بين تقديم المساعدة للمواطنين وبين الاضطلاع بإدارة الأزمة الطارئة عائداً إلى الخلاف بين الوزارات الحكومية المختلفة، كما بين القيادات السياسية الرسمية، المكلفة بإدارة الأزمة، وهو ما يلقي بإسقاطاته السلبية على أشكال وطرق ونتائج الحرب ضد وباء كورونا أيضاً.

ثم تسجل هذه الورقة، التي تمتد على 147 صفحة، أن الهدف الأساس منها هو "اقتراح آفاق وتقييدات في ما يخص دمج الجيش الإسرائيلي في الجهود المبذولة لمواجهة حالات الكوارث الجماهيرية في إسرائيل (أو ما تسمى في اللغة القانونية: حالات الطوارئ المدنية)، وذلك بالبناء على الدروس المستفادة من معالجة أزمة كورونا حتى الآن". وتنوه الورقة إلى أنه "بالفعل عالجت إسرائيل انتشار الوباء في الجولة الأولى بنجاح نسبي ملحوظ، وفي موازاة ذلك، نجحت إسرائيل ظاهرياً في التخلص من أزمة حزبية ـ سياسية ودستورية متواصلة ومعقدة، وذلك بتشكيل حكومة "وحدة وطنية" في شهر أيار الأخير، لكن ثمة شكوك حول مدى استقرار هذه الحكومة وحول فرص بقائها متماسكة".

غير أن المسألة الأهم في سياق الموضوع الذي تبحث فيه الورقة هي أن الربط بين الأزمة الحزبية ـ السياسية، من جهة، وبين سبل مواجهة ومعالجة أزمة كورونا التي كشفت عن مواطن ضعف عديدة وهامة في منظومات الدولة المدنية من جهة أخرى، من شأنه (الربط) أن يشكل أيضاً تحدياً بالغ الأهمية والخطورة للديمقراطية في إسرائيل. ويتمثل أحد الجوانب الأكثر إثارة للقلق من هذا التحدي في دمج الجيش الإسرائيلي في الجهود والإجراءات المبذولة لمقاومة أزمة كورونا ومعالجتها.

ينطلق البحث في هذا الموضوع من الفرضيات الأساس التي يصوغها الباحثون بما يلي: 1. مهمة الجيش الإسرائيلي الأساسية، والتي أقيم من أجلها، هي حماية دولة إسرائيل، ضمان وجودها وبقائها وانتصارها في الحروب؛ وهي المهمة التي حددتها وثيقة الجيش التأسيسية بالكلمات التالية: "هدف الجيش الإسرائيلي هو الدفاع عن وجود دولة إسرائيل، عن استقلالها وعن أمن مواطنيها وسكانها"؛ 2. يخضع الجيش، بصورة تامة ومطلقة، للمستوى السياسي المنتخَب وهو ما ينبغي الحفاظ عليه بحرص شديد، وهو ما يحدده قانون أساس: الجيش للعام 1976 بالقول: "جيش الدفاع الإسرائيلي هو جيش الدولة" و"الجيش خاضع لمسؤولية الحكومة"؛ 3. استخدام/ تفعيل الجيش في الحيز المدني ينبغي أن يجري بموجب تخويل قانوني صريح. ثمة تخويل كهذا ينص عليه "قانون الدفاع المدني" ولكن لقوات الدفاع المدني ("الجبهة الداخلية"، اليوم) فقط، إذ يخولها القانون صلاحية إنقاذ أرواح البشر، حتى في حالات لا علاقة لها بالمخاطر الأمنية. كذلك، ثمة في "أمر الشرطة" تخويل قانوني لقوات الجيش الإسرائيلي عموماً بتقديم المساعدة في الأزمات التي تشكل كوارث جماهيرية. وفي حالات استثنائية، يخوّل القانون رئيس الحكومة صلاحية نقل الصلاحيات عن إدارة أزمة معينة إلى أيدي الجيش. إلا أن الإعلان عن حدث ما باعتباره "حالة طوارئ مدنية" لفترة تزيد عن سبعة أيام يتطلب قراراً حكومياً خاصاً تصادق عليه، أيضًا، لجنة الشؤون الخارجية والأمنية التابعة للكنيست. لكن أزمة كورونا لم تُعلَن كحالة طوارئ مدنية، حتى الآن؛ 4. خلق وباء كورونا، حتى الآن، أزمة حادة جداً في إسرائيل في مجالات مختلفة، أبرزها في الصحة والاقتصاد والمجتمع، قد تمتد لفترة زمنية طويلة وقد تتفاقم كثيراً. ومع ذلك، لم يبلغ الوضع حتى الآن درجة "الكارثة الجماهيرية" التي لها مميزات أخرى. كما أن استخدام مصطلح "الحرب" في هذا السياق لا يفيد ولا يساعد على فهم الحدث وطرق إدارته؛ 5. أظهر الجمهور الإسرائيلي بشكل عام، بغالبية فئاته وشرائحه وأطيافه، درجة عالية من الانضباط والاستجابة للتعليمات المتغيرة التي صدرت عن الحكومة خلال "الموجة الأولى". غير أن هذه الميزة قد تبدلت، بصورة جلية، خلال "الموجة الثانية".

خلال "الموجة الأولى"، برز تدخل الجيش في معالجة وباء كورونا في مجالات محددة شملت تجنده السريع والواسع في توفير الاحتياجات الأساسية المختلفة للمواطنين، والتي عجزت السلطات المدنية عن توفيرها، أو وجدت صعوبات بالغة في ذلك، جراء عدم الاستعداد المسبق أو جراء الطلب الكثير جداً والمتزايد باستمرار، وخصوصاً من جانب الفئات الضعيفة. وعليه، تركز تدخل الجيش في تقديم العون المباشر والواسع إلى المواطنين المحتاجين والمسنين في المناطق التي شهدت معدلات مرتفعة من الإصابة بالفيروس. وقد تولى هذه المهمة، بالأساس، جهاز "الجبهة الداخلية"، صاحب الخبرة في تقديم المساعدات للسكان في حالات الطوارئ، إضافة إلى التواجد الواسع والدائم في السلطات المحلية، من خلال استخدام شبكة "وحدة الاتصال مع السلطات المحلية". كذلك، انخرط ضباط كبار سابقون في إدارة شؤون البلدات التي سجلت معدلات مرتفعة من الإصابة بالفيروس، مستغلين لذلك خبرتهم الواسعة في "إدارة الأزمات". وإلى جانب ذلك، جُنّد جنود الجيش لمساعدة قوات الشرطة في فرض الإغلاق، في تسيير الدوريات، في عزل بعض المناطق وحمايتها وفي إغلاق محاور مختلفة، في الشوارع الخارجية وفي داخل البلدات، حسب الحاجة. إضافة إلى هذا كله، ثمة مجال هام آخر برز في تدخل الجيش، حرص الجيش ووسائل الإعلام على إبرازه أيضاً، هو وضع قدرات الجيش في مجال التكنولوجيا والاتصالات ومعالجة المعطيات والارتجال، وخصوصاً قدرات وحدات شعبة الاستخبارات، جنباً إلى جنب مع جهازي "الشاباك" و"الموساد"، في خدمة هذه المعركة ضد الوباء وانتشاره.

الصلاحيات، المسؤوليات وصدى الحروب العسكرية

تشير "ورقة الموقف" إلى أن الجيش كان حريصاً، طول تلك الفترة، على أن يكون حضوره ومشاركته في مهمات الفرض وإنفاذ التعليمات أقل بروزاً / ظهوراً، فضلاً عن تجنب الاحتكاك المباشر غير المرغوب مع المواطنين. وتسجل، على سبيل التأكيد، أن الجيش قد نجح، حتى الآن، في التزام حدود تدخله في الحيز المدني، وخصوصاً في الحرب الراهنة ضد وباء كورونا. ويستشهد الباحثون على ذلك بما قاله قائد "الجبهة الداخلية"، الجنرال تمير يدعي، بأن "مسؤوليتنا أكبر من صلاحياتنا؛ نحن نلبي أي طلب للمساعدة"، معتبرينها "زبدة مفهوم المسؤولية الموسعة التي يدأب الجيش على نشرها وتكريسها بين الجمهور"، ثم بما قاله رئيس أركان الجيش، كوخافي، تأكيداً لهذا التوجه عن أن "كورونا تشكل تهديداً ينطوي على مخاطر جسيمة... إنها مهمة وطنية... وهي تتيح للجيش حمل المسؤولية وتجسيد قدراته... على الجيش أن يكون في الواجهة... تحت مسؤولية الحكومة ووفقاً لتعليماتها".

لكن، في موازاة هذه الجوانب الإيجابية، يجدر وضع بضع لافتات تحذير، سواء في سياق الحديث عن "الموجة الثانية" من تفشي وباء كورونا أو في سياقات أخرى. الأولى ـ أن استخدام وحدات عسكرية من الجيش، غير "الجبهة الداخلية"، لتنفيذ مهمات تتعلق بالمواطنين المدنيين وحياتهم اليومية الجارية، وخصوصاً تلك التي تحمل طابع الفرض والإنفاذ، حتى لو كانت إلى جانب الشرطة وفي إطار مساعدتها، ينطوي على احتمالات إشكالية جدية وينبغي الانتباه إليها جيداً والحرص على تجنبها؛ الثانية ـ على الجيش والجهاز السياسي اعتماد الحذر الشديد لدى الانتقال من التدخل المحصور في مساعدة المواطنين إلى التدخل الذي يشمل إدارة المهمة؛ والثالثة ـ يتعين على الجيش أن يكون حريصاً تماماً على اعتماد الحذر الشديد في كل ما يقوم به داخل التجمعات السكانية عموماً، وتلك التي تتميز بحساسية خاصة في المجتمعين الحريدي (اليهودي المتشدّد) والعربي خصوصاً.

يتطرق الباحثون، في ورقة الموقف هذه، إلى النداءات المتكررة التي صدرت عن بعض الأوساط في إسرائيل خلال الأشهر الأخيرة ودعت إلى "إعادة العجلة إلى الوراء وتكليف الجيش بمهمة إدارة أزمة كورونا" فيعتبرونها صدىً لنداءات "دعوا الجيش يحقق الانتصار" التي كانت تصدر عادة إبان الحروب العسكرية التي خاضتها إسرائيل والتي تزعم بأن "أيدي الجيش مكبّلة" وبأن "المستوى السياسي لا يسمح للجيش باستخدام كل قدراته وإمكانياته لحسم الحرب"! ويعتبر الباحثون هذا النداء بمثابة "اشتراط بافلوفي" لدى أوساط مختلفة في المجتمع الإسرائيلي، قد يتعزز ويكتسب زخماً أقوى في ظل ظروف حادة من التدهور نحو كارثة جماهيرية على نطاق دولتيّ، وخصوصاً إذا ما حصل تدهور حاد في تفشي وباء كورونا، أو في حالات أخرى مشابهة قد يكون من بينها هزة أرضية عنيفة تضرب البلاد مثلاً. لكن الأخطر في الموضوع هو حقيقة أن هذا النداء ـ كما تشدد "ورقة الموقف" ـ "ليس مقطوعاً عن الواقع الإسرائيلي"! ذلك أن الجيش الإسرائيلي لم يكتسب، على مر السنوات الماضية، قوة عسكرية هائلة فحسب، بل اكتسب أيضاً أدوات وخبرات منظومية تتيح له العمل في مواضيع ومجالات معينة في الحيز المدني أيضاً. وهذا، إضافة إلى الثقة العالية التي يتمتع بها بين أوساط وشرائح واسعة في الجمهور الإسرائيلي، مقابل مؤهلات أقل بكثير وثقة أدنى بكثير تتمتع بها المنظومة المهنية المدنية في الغالبية الساحقة من الوزارات والأذرع الحكومية. في مثل هذه الشروط، بمثل هذا الميزان، يصبح تفضيل الجيش والأجهزة العسكرية على المجالات المدنية المختلفة نتيجة حتمية لا يمكن تلافيها. غير أن هذه النتيجة تشكل إجراء استثنائياً ومتطرفاً يحمل في طياته أخطاراً جسيمة جداً على النظام الديمقراطي في إسرائيل، في مقدمتها بالطبع وضع الصلاحيات السلطوية، أو بعضها على الأقل، بين يدي العسكر، وهو سيناريو لا يدعمه القانون الإسرائيلي من جهة و"غريب عن المفاهيم الأساس لدى الجيش وقادته، والمستندة أساساً على إرث ديمقراطي يتلخص في الخضوع للمستوى السياسي المدني"، كما تنوه ورقة الموقف وتضيف: "ومن المنطقي الاعتقاد، أيضاً، بأن القيادة العسكرية العليا سترى في تحمل المسؤولية الشاملة عن إدارة كارثة مدنية ظاهرة غير جديرة وغير لائقة بالجيش ذاته، بما في ذلك بسبب إدراك حقيقة أنه في معطيات الحالات الاستثنائية بالذات ليس في مقدور الجيش مواجهة ومعالجة الانهيار المدني، الصحي، الاقتصادي والاجتماعي في الوقت نفسه الذي يتعين عليه القيام بواجباته ومهماته على الصعيد الأمني، لا سيما إذا ما حاول أحد الأطراف المعادية تحدي الدولة عسكرياً في ظل، أو في ذروة، أزمة مدنية حادة"!
لكن هذا السيناريو، ورغم كل ما ذُكر، ليس احتمالاً مستحيل التحقق في شروط عينية وظروف محددة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات