المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة داني دانون. (أرشيفية)

ما هي السمات الأساسية المميزة للعلاقة المتبادلة بين دولة إسرائيل وهيئة الأمم المتحدة، بل هل ثمة سمات مميزة لهذه العلاقة أصلاً؟ ما هي المنعرجات، النقاط الصعود والهبوط، التي شهدتها هذه العلاقة وما هي أسبابها وخلفياتها وكيف كانت مآلاتها؟ ما هي آفاق هذه العلاقة مستقبلاً وما هي المؤثرات الأساسية في أداء كلا الطرفين على مسارها؟

هذه بعض الأسئلة التي يحاول يارون سلمان، المحاضر في موضوع إدارة وتسوية النزاعات في "جامعة بن غوريون" في بئر السبع، البحث فيها ضمن مقالة بحثية جديدة له نشرت في "عدكان استراتيجي ـ منصة بحثية" (العدد 3، المجلد 23، تموز 2020)، الصادرة عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في إسرائيل، تحت عنوان "علاقات إسرائيل والأمم المتحدة في امتحان الزمن".

ينطلق الباحث من حقيقة أن علاقات إسرائيل والأمم المتحدة تميزت، على مدى السنوات الطويلة الماضية، بوجهات مختلطة. ففي الجهة الأولى، واجهت إسرائيل الكثير من القرارات المنددة بسياساتها وممارساتها في العديد من الهيئات واللجان التابعة للأمم المتحدة، ما جسد "الخط المعادي حيالها"، كما يصفه الكاتب. وفي الجهة الثانية، شهد التعامل الإيجابي مع إسرائيل اتساعاً ملحوظاً تجسد، ضمن ما تجسد فيه، في قبولها عضواً في مجموعة "أوروبا ودول أخرى" (WEOG – Western European and Others Group) في العام 2000، ثم انتخاب مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة، داني دانون، نائباً لرئيس الجمعية العمومية في العام 2017، إلى جانب التغيير التدريجي في أنماط التصويت على قرارات دولية تخص إسرائيل أو تمسها.

بالبناء على هذا، تذهب هذه المقالة البحثية إلى استعراض الوجهات الرئيسة في مسار العلاقات بين إسرائيل والأمم المتحدة، مع التركيز بشكل خاص على ما يسميه الكاتب "التحول الذي حصل في السياسات الإسرائيلية خلال العقدين الأخيرين"، تحليل دوافعه وخلفياته وأشكال تمظهره. وبضمن ذلك، تخوض المقالة في السؤال حول كيفية التجسد الفعلي للسياسة الإسرائيلية الاستباقية على مسرح الأمم المتحدة خلال العقدين الأخيرين تحديداً لتخلص إلى الاستنتاج، الذي يشكل ادعاءً مركزياً في هذه المقالة، بأن ثمة انتقالاً قد تحقق من سياسة "الأمم المتحدة لا شيء" التقليدية (شعار نحته دافيد بن غوريون في العام 1955 وترسخ في الثقافة السياسية الإسرائيلية معناه ومراده الاستخفاف بالأمم المتحدة والسخرية منها حد الإلغاء التام) إلى توسيع وتعميق محاولات العمل الجدي في صفوف الأمم المتحدة ومن خلالها بغية ممارسة التأثير على قراراتها، على عكس ما تميزت به السياسة الإسرائيلية قبل ذلك من خلال الاتكاء على الادعاء القائل بأن "ثمة موقفاً معادياً لإسرائيل بصورة أوتوماتيكية في الأمم المتحدة".

وقد جرت، وتجري، محاولات العمل الجدي لممارسة التأثير على نهج الأمم المتحدة وقراراتها عبر ثلاث قنوات مركزية: الأولى ـ المساهمة في تحقيق الأهداف التنموية العالمية؛ الثانية ـ إشغال مناصب مركزية، بل مفتاحية، في مؤسسات الأمم المتحدة؛ والثالثة ـ محاولة التأثير على عمليات التصويت في الجمعية العمومية ومجرياتها.
وينوه الكاتب بأن التجديد الأساس في هذه المقالة، ثم مساهمتها الجدية بالتالي، يكمنان في إخضاع علاقات إسرائيل والأمم المتحدة إلى التحليل بمنظور التسلسل الزمني المنهجي على مدى بضعة عقود، في مسعى لإثبات وترسيخ الادعاء القائل بأن إسرائيل تنتهج سياسة استباقية تجاه الأمم المتحدة.

تأسيس متزامن وصعود يعقبه هبوط

بنظرة شمولية، يمكن القول إن العلاقات بين إسرائيل والأمم المتحدة شهدت فترات من الصعود على مر السنين، حقاً، لكنها اتسمت بالهبوط والتراجع غالباً، مع العلم أن كلتيهما تأسستا في مرحلة زمنية واحدة ـ فقد تأسست الأمم المتحدة مع نهاية الحرب العالمية الثانية، في العام 1945، من أجل حفظ الأمن والسلم الدوليين ولمنع نشوب حروب جديدة مستقبلية، على غرار الحربين الكونيتين. بعد ذلك بثلاث سنوات، في العام 1948، تأسست دولة إسرائيل فغدت الدولة الـ 59 التي تنضم إلى الأمم المتحدة وتفوز بعضويتها.

في سنيّهما الأولى، في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، اتسمت العلاقات بين إسرائيل والأمم المتحدة بالإيجابية، إذ تبنت دولة إسرائيل ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ المساواة، ضمان الحقوق للجميع وضمان العدالة الاجتماعية، وهي مبادئ تضمنتها "وثيقة استقلال" دولة إسرائيل نفسها، أيضاً. وفي مطلع الخمسينيات، سعت إسرائيل إلى تثبيت وتعزيز مكانتها وتوثيق علاقاتها في الساحة الدولية، بما في ذلك في الأمم المتحدة ذاتها، في ضوء مواقف وزير الخارجية الإسرائيلية آنذاك، موشيه شاريت، الذي أولى الساحة الدولية أهمية قصوى. وفي المحصلة، أصبحت إسرائيل آنذاك دولة فاعلة في الأمم المتحدة، بعد الفوز بعضويتها، ثم حظيت بمكانة مرموقة نسبياً على خلفية المساعدات التي قدمتها إلى عدد من الدول النامية في أفريقيا بعيد تحررها من نير الاستعمار الأجنبي وفوزها بالاستقلال الوطني.

لكن في بداية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (سابقاً) بدأت عملية تراجع تدريجي في موقف الأمم المتحدة وتعاملها حيال إسرائيل، على خلفية تطورات دولية مختلفة، أبرزها أزمة برلين (1948 -1949)، ثم تقسيم شبه الجزيرة الكورية والحرب بين الكوريتين؛ لكن، بالأساس على خلفية الشلل الذي أصاب مجلس الأمن الدولي وعمله بفعل استخدام الاتحاد السوفييتي المتكرر لحق النقض (الفيتو). فقد كان لهذه التطورات التي رفعت حدة التوتر بين الدولتين الأعظم آنذاك وبين ممثليهما الرسميين في هيئات الأمم المتحدة انعكاس سلبي واضح على دولة إسرائيل، جراء انغلاق باب التعاون بينهما على نحو يمكن أن يعود بالفائدة على المصالح الإسرائيلية في الأمم المتحدة.

استمر التدهور، بعد ذلك، في العلاقات بين إسرائيل والأمم المتحدة على مدى سنوات عديدة، بل تفاقم هذا التدهور مع الارتفاع المتواصل في حدة الصراع العربي ـ الإسرائيلي ومع ازدياد التدخل من جانب الأمم المتحدة في هذا الصراع، حتى أن معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في العام 1979 لم تقابل باستحسان في أروقة الأمم المتحدة وهيئاتها، وخصوصاً في الجمعية العمومية حيث كانت الأغلبية واضحة لكتلة الدول العربية ودول عدم الانحياز ـ اللتين عارضتا تلك المعاهدة باعتبارها صفقة انفرادية وليست جزءاً من تسوية عربية ـ إسرائيلية شاملة. وابتداء من مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، تضافرت جملة من العوامل الهامة لتجعل من إسرائيل محط نقد متكرر ولاذع من جانب الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة، من بين أبرزها: بلورة السياسة الإسرائيلية تجاه الأمم المتحدة، في بداية الخمسينيات؛ الحرب الباردة وتغيير تركيبة الأمم المتحدة وتبني الرواية الفلسطينية بشأن الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني.

بلورة السياسة الإسرائيلية تجاه الأمم المتحدة

في مطلع الخمسينيات، استمر جدل واسع كان قد بدأ قبل ذلك ببضع سنوات بين مدرستين سياسيتين متقاطبتين بشأن السياسة الخارجية الإسرائيلية وطرائق العمل حيال الأمم المتحدة، الدول العظمى والعالم العربي. وقد تجسدت الفوارق بين المدرستين، بصورة أساسية، في طرق العمل التي ينبغي أن تعتمدها إسرائيل في تعاملها مع مواقف المجتمع الدولي بشأن قضايا أساسية في الصراع الإسرائيلي ـ العربي. كانت المدرسة الأولى تلك التي قادها موشيه شاريت، وزير الخارجية آنذاك وأحد واضعي أسس العلاقات الخارجية الإسرائيلية. وقد نادت تلك المدرسة بالإقرار بأهمية الحلبة الدولية وبأهمية منظمة الأمم المتحدة، محذرة من مغبة انتهاج إسرائيل سياسة من شأنها توسيع وتعميق النقد الدولي عليها في مؤسسات الأمم المتحدة. ومن هنا، دعا شاريت إلى الحوار والتفاوض من أجل حل الإشكالات والخلافات التي تنشأ بين إسرائيل ودول العالم المختلفة والأمم المتحدة، إلى جانب تجنب أي خطوة من شأنها المس بالعلاقات بين إسرائيل والأمم المتحدة.

في المقابل، كانت مدرسة بن غوريون التي دعت إلى اعتماد نهج مغاير يقوم على إيلاء العمل الدبلوماسي والهيئات الدولية أهمية قليلة جداً، وهو ما عبر عنه بصورة واضحة جداً في برقية وجهها إلى شاريت إبان الحديث عن "تدويل القدس"، إذ كتب فيها: "دولة إسرائيل لن تقبل، ولا بحال من الأحوال، بأي سلطة أجنبية في القدس اليهودي واقتطاعها من الدولة. وإذا ما وقفنا أمام خيارين: الخروج من القدس أو الخروج من الأمم المتحدة، فمن الواضح أننا سنختار الخروج من الأمم المتحدة".

ابتداء من العام 1954 فصاعداً، وكلما تضعضع الوضع الأمني على الحدود الإسرائيلية، احتد الصدام بين المدرستين، إلى أن توصل بن غوريون في العام 1956 إلى قناعة بأن شاريت قد أصبح يشكل عائقاً أمام تحصين المصالح الحيوية الإسرائيلية فقرر عزله، ما فتح المجال على وسعه أمام التوجه المتشدد في السياسة الإسرائيلية تجاه الأمم المتحدة، إلى جانب التقليل من أهميتها حتى الحد الأدنى، وربما أقل أيضا.

الحرب الباردة وتغيير تركيبة الأمم المتحدة

تختلف تركيبة الأمم المتحدة في المرحلة الحالية عما كانت عليه لدى تأسيسها في العام 1945، إذ برز آنذاك حضور دول مجتمعات ديمقراطية. في أواخر الخمسينيات، كان عدد أعضاء الأمم المتحدة قد زاد عن 100، غير أن الزيادة العددية كانت مصحوبة أيضاً بتغييرات طالت مميزات الدول في الجمعية العمومية ـ من أغلبية الدول الديمقراطية إلى عدد كبير من الدول الحديثة غير الديمقراطية التي لا تزال خاضعة للاستعمار الكولونيالي، وهو ما قلب موازين القوى في الجمعية العمومية، إذ أصبحت قرارات تنديد بخرق حقوق الإنسان في دول معينة تتخذ، مثلاً، بأغلبية أصوات دول غير ديمقراطية أصلاً.

في هذا السياق، يقول الكاتب إن مكانة دولة إسرائيل أيضاً تغيرت إلى الأسوأ، على خلفية بروز كتلة الدول العربية والإسلامية، ضمن كتلة دول عدم الانحياز، وهو ما خلق وضعاً "غير مريح بالنسبة لإسرائيل".

تبني الرواية الفلسطينية

كلما تعمق تدخل الأمم المتحدة بالصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني ومكوناته، تعزز الميل إلى تبني الرواية الفلسطينية في جميع مؤسساتها، حسبما يقول الكاتب. ويضرب، هنا، الأمثلة التالية: اعتراف الجمعية العمومية في العام 1970 بـ"حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف"، بما فيها حقه في تقرير مصيره، ثم قرار الجمعية العمومية (تشرين الأول 1974) توجيه الدعوة إلى ياسر عرفات لزيارة الأمم المتحدة وإلقاء كلمة أمام هيئتها العمومية والمشاركة في أبحاثها، ثم قرار الجمعية العمومية (تشرين الثاني 1974) منح منظمة التحرير الفلسطينية مكانة مراقب في جميع مؤسسات الأمم المتحدة، ثم "القشة التي قصمت ظهر البعير": قرار الجمعية العمومية (تشرين الثاني 1975) باعتبار الصهيونية حركة عنصرية ـ وهو القرار الذي مثل علامة فارقة مركزية في مسار تدهور العلاقات بين إسرائيل والأمم المتحدة.
يضيف الكاتب فيقول إن الجمعية العمومية للأمم المتحدة "تتخذ في كل سنة جملة من القرارات الأحادية الجانب ضد دولة إسرائيل، وبصورة مثابرة"! ويشير إلى أنها "في العام 2018 وحده اتخذت 21 قراراً يندد بإسرائيل مقابل قرار واحد فقط يندد بكل واحدة من الدول التالية: إيران، سورية، كوريا الشمالية، القرم، ميانمار والولايات المتحدة" وفي العام 2019 اتخذت "18 قرار تنديد ضد إسرائيل مقابل قرار واحد ضد كل من سورية، إيران، كوريا الشمالية، الولايات المتحدة، ميانمار والقرم"، وهو ما "خلق الانطباع بأن إسرائيل هي الدولة الأكثر تعرضاً للتمييز السلبي في المؤسسات الدولية وفي الأمم المتحدة وأذرعها المختلفة".

دوافع خلف التغيير في السياسة الإسرائيلية

أحد الادعاءات المركزية في هذه المقالة، كما ذكرنا، هو القائل بأن ثمة تغييراً ملحوظاً في النشاط الإسرائيلي في الأمم المتحدة ومؤسساتها خلال العقدين الأخيرين، يمتاز أساساً بتبني توجه استباقي يتجسد في ازدياد محاولات التأثير على الأمم المتحدة من الداخل.

فما الذي دفع نحو هذا التغيير، ابتداء من بداية الألفية الثالثة؟
أوائل التغيرات التي ساعدت على إحداث التغيير الجوهري في علاقات إسرائيل والأمم المتحدة حصلت في التسعينيات وشملت، مثلاً، انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه وبقاء الولايات المتحدة دولة عظمى وحيدة في العالم، انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط ثم مفاوضات واتفاقيات السلام الإسرائيلية ـ العربية (مصر والأردن) والإسرائيلية ـ الفلسطينية (اتفاقيات أوسلو)، إضافة إلى اتساع العولمة.

صحيح أن هذه العوامل ساعدت في دفع العلاقات بين إسرائيل والأمم المتحدة إلى الأمام ولو قليلاً، غير أن نقطة التحول الفعلية والحقيقية في السياسة الإسرائيلية تجاه الأمم المتحدة أتيحت ابتداء من العام 2000 فصاعداً، فقط. وقد تحقق هذا التحول بفضل ثلاثة عوامل أساسية هي كما يعددها الباحث: ازدياد ملحوظ، بل كبير، في أهمية الأمم المتحدة، على الصعيد العالمي ومن وجهة النظر الإسرائيلية، وقبول إسرائيل في مجموعة الدول الأوروبية والأخرى في نطاق الأمم المتحدة، والنشاط الفلسطيني الفاعل في الأمم المتحدة ولجانها ومؤسساتها المختلفة.

 

 

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, مؤتمر مدريد

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات