المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تعريف:
يطرح الصحافي الإسرائيلي المقيم في الولايات المتحدة تساح يوكيد في هذا المقال الذي نشرته صحيفة "هآرتس" سؤالاً كالتالي: "كيف يمكن لعالم يهودي نشأ في بيت متدين، ورجل عائلة لديه أحلام في مهنة أكاديمية مرموقة، أن يصادق على نظام تعذيب وحشي ويوجهه ويشرف عليه؟"، ويستعرض كتابا عن هذه الشخصية اليهودية التي قامت بأفعال شديدة الشبه بالنازية في خدمة المخابرات الأميركية، وكل ذلك باسم التصدي لخطر وجودي على الأمن، وهي ربما من أكثر المقولات تردّداً في اسرائيل أيضاً.

(المحرّر)

لو لم يهرب والدا سيدني غوتليب من هنغاريا في مطلع القرن الماضي، فمن المحتمل أنه كان سينهي حياته، مثل ملايين اليهود الأوروبيين الآخرين، في أحد معسكرات الإبادة التي أنشأتها ألمانيا النازية. لو تم إرساله إلى أوشفيتس، لكان ربما قد وقع في يد جوزيف منغله.

خلال الحرب العالمية الثانية، كان غوتليب مقيماً في في مدينة نيويورك الهادئة والآمنة، حيث هاجر والداه. هذا لم يمنعه من تبني بعض ممارسات منغله التعذيبية وحتى ضمّ بعض نفس الأطباء والعلماء الذين عملوا في خدمة الحزب النازي، إلى فريق العمل الذي شكّله في وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه). يقول الصحافي والباحث الأميركي ستيفن كينزر، مؤلف كتاب السيرة الذاتية Poisoner in Chief الذي أصدرته دار النشر هنري هولت: "إن غوتليب هو بلا شكّ الشيء الأقرب إلى منغله في التاريخ الأميركي".

لم يقم غوتليب، على عكس منغله، بتجاربه الوحشية في خدمة النظام النازي، بل انطلاقا من الصلاحية التي منحته إياها أعلى المستويات في وكالة الاستخبارات الأميركية. لقد قام بتخدير، تشويش، كهربة وتعذيب الآلاف من لاجئي الحرب الأجانب والسجناء الأميركيين في سلسلة من التجارب الوحشية التي امتدت لأكثر من 20 عاماً وأزهقت أرواح أبرياء.

وقد أجري قسم من التجارب في مستشفيات وسجون في الولايات المتحدة، والقسم الآخر أجري في منشآت اعتقال سرية خلف البحار في الخارج، وخصوصا في ألمانيا واليابان والفلبين، حيث عمل بحرية دونما خوف من الانكشاف. "كان بإمكان غوتليب أن يطلب من رؤسائه إرسال 10 أشخاص إليه لإخضاعهم لتجارب وكان يتلقاهم"، يقول كينزر، وهو مراسل سابق لصحيفة نيويورك تايمز لشؤون أميركا الجنوبية وألمانيا وتركيا ويعمل اليوم باحثا كبيرا بمعهد واتسون للعلاقات الدولية بجامعة براون. ويتابع: "من كان هؤلاء الناس؟ أسرى حرب كوريون شماليون، أو عملاء مخابرات سوفييت، أو لاجئون أبرياء بدون عائلات، اعتقدت وكالة الاستخبارات أن أحدا لن يشعر بفقدانهم. عندما زرت ألمانيا للعمل على الكتاب، وصلت إلى المكان الذي وُجد فيه أول مركز اعتقال سري تابع للسي آي إيه، وذلك في منطقة معزولة خارج فرانكفورت. وقد شهد الأشخاص الذين يعيشون على مقربة من المكان على كيفية دفن السجناء الذين احتُجزوا في منشأة غوتليب لاحقاً في الغابات المحاذية، التي تضم اليوم مباني سكنية ومراكز تسوق".

"تدمير الدماغ وتدمير وعي الإنسان وملء الفراغ الناتج"!

خدم غوتليب لمدة 22 عاماً في وكالة المخابرات المركزية، معظمها كرئيس لقوة العمل الخاصة التي أقامتها الولايات المتحدة لغرض إنشاء "شرطة أفكار" هي الأكبر والأكثر تطوّراً في العالم. "كان لدى غوتليب هدفان رئيسيان"، يشرح كينزر. "الأول كان تدمير الدماغ وتدمير وعي الإنسان والثاني هو ملء الفراغ الناتج بواسطة خلق وعي جديد. لقد تمكن من تدمير الدماغ البشري، لكنه لم يحقق نجاحاً في المرحلة الثانية من البرنامج".

تجنّد غوتليب، وهو حامل شهادة دكتوراه في الكيمياء الحيوية من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، لوكالة الاستخبارات المركزية عام 1951. ويؤكد كينزر أنه "أول رجل جندته الحكومة الأميركية على الإطلاق لإيجاد طرق للسيطرة على الدماغ البشري". وبعد ذلك بعامين، تم البدء بتنفيذ العملية التي سميت في البداية "الخرشوف" Artichoke وتم تغيير اسمها لاحقاً إلى MK-Ultra.

ويكتب كينزر في كتابه "في العام 1953، أصبح "الخرشوف" أكثر المشاريع عنفاً وانتهاكاً تم تنفيذه على الإطلاق باسم الحكومة الأميركية". ويقتبس مذكرة من وكالة المخابرات المركزية حيث تم تعريف مهمة الفريق الجديدة على النحو التالي: "بحث تأثير المخدرات والعقاقير على السيطرة على الأنا البشرية وعلى النشاط الإرادي ودراسة ما إذا كان يمكن استخراج معلومات مكبوتة من خلال استخدام الأدوية والعقاقير التي لها تأثير قوي على الجهاز العصبي". ومثلما أن الوكالة كانت تأمل في استخراج المعلومات المكبوتة من عملاء أجانب، فقد كان موظفوها يأملون، من خلال نفس العقاقير، في إيجاد طريقة لمحو المعلومات الموجودة من الوعي. وغالباً ما أرادوا محو المعلومات من عقول موظفي الوكالة الذين اطلعوا بحكم عملهم على معلومات حساسة ونشاطات سرية من شأنها أن تكون محرجة للولايات المتحدة.

"سجناء سود البشرة كانوا يتلقون جرعات مخدرات من دون علمهم"

ماذا فعل مع هذه الكمية الكبيرة من المخدرات؟
"أُجريَت إحدى التجارب على سجناء سود البشرة من ولاية كنتاكي، والذين كانوا يتلقون من دون علمهم، جرعة ثلاثية من الدواء يومياً لمدة شهرين ونصف الشهر. هكذا اختبروا ما إذا كان بالإمكان تدمير الدماغ البشري بواسطة إل إس دي. والجواب هو نعم". كانت هناك تجربة أخرى ذات طبيعة علمية أكثر، ولكنها مدمرة بنفس القدر. يقول كينزر: "أراد غوتليب أن يرى كيف يؤثر إل إس دي على الأشخاص الذين يعانون من مشاكل طبية مختلفة". و"نظراً لأن وكالة السي آي إيه لا تملك مستشفيات خاصة بها ولأن غوتليب لا يريد أن تعرف المستشفيات أنه يتوجه اليها من قبل السي آي إيه، فقد أنشأ منظمات وهمية قامت بالاتصال بمختلف المستشفيات وعرض عليهم رسوماً مقابل المشاركة في تجربة فحصت تأثير الدواء على المرضى. وفي إثر ذلك، تم بين عشية وضحاها إنشاء سوق جديدة للمواطنين الذين تعاطوا المخدر ووزعوه على أشخاص آخرين".

وفقاً لكينزر، "قليل جداً من الناس، حتى في وكالة المخابرات المركزية نفسها، كانوا يعرفون عن مشروع MK-Ultra. كان أحدهم عالِماً أميركياً يدعى فرانك أولسون. ولكن في مرحلة ما، في عام 1953، بدأ أولسون يعيد التفكير في أخلاقية التجارب التي عرف عنها، بل وتوجه الى رؤسائه قائلا إنه ليس مستعداً لاستئناف العمل وإنه معنيّ بمغادرة وكالة المخابرات المركزية. بعد وقت قصير من ذلك سقط من نافذة غرفته في الطابق الثالث من فندق في مدينة نيويورك. في تلك الفترة وصفت وسائل الإعلام القضية بأنها انتحار، لكن اليوم توجد شهادات غير قليلة على أن أولسون لم يقفز الى وفاته، بل قُتل على يد غوتليب ووكلاء السي آي إيه، الذين رأوا فيه خطرا كبيرا جداً على استمرار البرنامج".

"هذا التفكير يمثل خطرا كبيرا ليس علينا فحسب"

كيف يمكن لعالم يهودي نشأ في بيت متدين، ورجل عائلة لديه أحلام في مهنة أكاديمية مرموقة، أن يصادق على نظام تعذيب وحشي يرتبط عادة بالأنظمة الدكتاتورية ويوجهه ويشرف عليه؟ إن غوتليب هو النسخة الكلاسيكية للدكتور جيكل ومستر هايد. فمن ناحية أجرى أكثر التجارب عنفا في الولايات المتحدة. وفي كل صباح قبل العمل، كان يستيقظ لحلب الماعز التي رباها.

ويتابع مؤلف الكتاب: "بالنسبة إليه، كان غوتليب بنظر نفسه وطنياً عظيماً وإنسانياً كبيراً في ذلك الوقت. ولكي يفهم المرء كيف يتفق هذا وذاك، يجب التطرّق إلى أفعاله في سياق الوقت الذي عاش فيه، في السنوات الأولى من الحرب الباردة، عندما أقنعت الولايات المتحدة نفسها بأنها كانت تحت تهديد وجودي كبير. وهذه عبرة يمكننا أن نُسقِط منها على الوضع الراهن أيضاً. نحن اليوم نقنع أنفسنا بأننا تحت تهديد كبير لدرجة أنه يجب علينا أن نضع جانبا نزاهتنا وأخلاقنا باسم حماية الأمن الداخلي، وهذا التفكير يمثل خطرا كبيرا ليس علينا فحسب، بل أيضا على البلدان الأخرى التي تقنع نفسها بأن الخطر الذي تقف في مواجهته هو خطر ضخم لدرجة أنه يبرر الأفعال الفظيعة المرتكبة لحماية نفسها!".

 

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات