المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

خلال الأشهر الأخيرة، ومن وراء ظهر وسائل الإعلام المستَلَبة عند قدميّ بنيامين نتنياهو، تتراكم وتتكدس سُحُب العنصرية الظلامية، تخرج من مخابئها وترسل ألسنة من النيران العنيفة في أنحاء مختلفة من البلاد، على جانبي الخط الأخضر. ولا تحظى هذه الأحداث سوى بتغطية موجزة فقط، إن كانت تحظى بها أصلاً، لكنها تبقى على الدوام كأنها مجرد نقاط متفرقة على مسطح ضبابي، منزوعة عن أي سياق تماماً.

هنا محاولة قصيرة لتشكيل هذا السياق.

كشفت دراسة أجرتها منظمة "يش دين" (يوجد قانون) على مدى سنوات عدة أنه من بين جميع ملفات التحقيق التي تم فتحها في شرطة "لواء يهودا والسامرة" (الضفة الغربية) بشأن مخالفات ارتكبها المستوطنون بحق فلسطينيين، انتهى 80% منها فقط بتقديم لوائح اتهام انتهت 3% منها فقط بالإدانة.

والتجديد الذي نلاحظه في الأشهر الأخيرة هو انزلاق جرائم الكراهية هذه إلى داخل حدود "الخط الأخضر". ليس معنى هذا أن هذه الاعتداءات لم تكن تحدث هنا في السابق. وحتى الآن، يبدو أن السلطات المسؤولة تأخذ الاعتداءات الإجرامية بحق عرب سكان إسرائيل بجدية أكبر مما تبديه حيال الجرائم ضد العرب في الضفة الغربية. لكن الأمر، في تقديري، لا يتعدى تصريحات تصدر عن مسؤولين في الحكم المحلي، لا وزن حقيقيا لهم لدى جهات التحقيق وفرض القانون. فشرطة إسرائيل لا تبذل أي جهد حقيقي، كما هو معروف، من أجل معالجة ومحاربة الجريمة المتفشية بين العرب أنفسهم في إسرائيل ومن الصعب التصديق بأنها ستخرج عن طورها في محاربة اليهود الذين ينفذون اعتداءات إجرامية ضد العرب.

وهكذا، ومن دون أن ننتبه، تماماً كما "المناطق المدارة" مؤقتا، جدار الفصل المؤقت، الشريط الأمني المؤقت (في لبنان أولاً، ثم في غزة اليوم)، أمر الطوارئ "المؤقت" في قانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل ـ تحولت جرائم الكراهية المؤقتة إلى علامة الثبات في إسرائيل؛ ليس خللاً في الطريقة والنهج، وإنما جزء تكويني منها. هي الأصل، لا الجسم الغريب.

الهدف الحقيقي من وراء جرائم الكراهية هذه كلها ليس تكبيد العرب أضراراً اقتصادية فقط. الهدف الحقيقي هو بث الرعب غير المحدد ـ شعور من عدم الأمن والأمان في القرية أو في الشارع. وهذا الشعور يتسلل ويتعمق فعلاً. حسين أبو خضير، من شعفاط، هو والد الفتى محمد أبو خضير. قال، بعد أن اعتدى المستوطنون على 160 سيارة في الحي: "منذ العام 2014، منذ أحرقوا ابني محمد، وحتى الآن، نحن نعيش حالة من الخوف الدائم". يتملك الفلسطينيون في الضفة الغربية، منذ زمن طويل، شعور بأن حياتهم وممتلكاتهم سائبة في مهب بلطجية المستوطنين وزعران البؤر الاستيطانية. أما الآن، فقد تسلل هذا الشعور إلى سكان القدس الشرقية والقرى العربية في الجليل أيضاً. إنها مسألة وقت فقط حتى نشهد حصول جرائم كراهية في المدن المختلطة، إذ أن حلم هؤلاء البلطجيين المعتدين هو إشعال الغضب العربي المكبوت، الذي تفجر في أكتوبر 2000 ولا يزال يتقلب على نار هادئة منذ ذلك الحين ولا يحتاج إلى الكثير كي يشتعل ثانية، من جديد. وفي اللحظة التي يحدث فيها هذا، سيصبح شعار التفوق اليهودي ـ "العرب بَرَّه" (اطردوا العرب) ـ شعاراً رائجاً وسائداً، يُرفع على رؤوس الأشهاد ويستقر عميقا في القلوب. هكذا تتشكل "ثقافة اللينش" (حكم الغوغاء).

الطرد الأكبر والخيال الصهيوني

على أن الطرد الأكبر، الترانسفير النهائي، موجود على الدوام في أفق الخيال والتوق الصهيوني ولم يُمح نهائياً، بل ثمة في كل جيل من يهتم بالمشروع ويضعه هدفا للتنفيذ. خط متتابع، حتى لو كان متعرجاً، يصل بين الأعمال الحقيرة الفردية، غير المنظمة ظاهرياً، التي تنفذها عصابات "تدفيع الثمن"، وبين مشاريع الطرد الرسمية لدى دولة إسرائيل. ليس في هذا ما يبعث على المفاجأة، ولا ينبغي أن يثير المفاجأة، إذ أن "تدفيع الثمن" نفسه قد خُلق وتبلور في عقول "مستخدَمي جمهور"، ممثلين رسميين لدولة إسرائيل ـ في المجالس الإقليمية، وفي مقدمتها "شومرون" و"بنيامين". هو ذاته التيار الذي يدوس القانون إذا لم يكن لصالحه: هكذا يستطيع مستوطنون من منطقة "شيلو" تخريب أعمال بناء مصادق عليها وقانونية تجرى في أرض فلسطينية خصوصية، في قرية ترمسعيا، لا لشيء سوى لأنهم لا يستسيغونها، ثم أن يتلقوا رسالة دعم من الجيش الذي يقوم بوقف أعمال البناء بغية إرضائهم (كيف يقوم الجيش بوقف أعمال البناء في منطقة "ب" رغم أنه لا يمتلك صلاحيات إدارية هناك؟ ... الأمر بسيط جدا: يقوم بتعريف أعمال البناء هذه بأنها "خطر أمني"!).

حوادث هامشية في الظاهر، مثل إصرار بلدية القدس على تغيير أسماء الشوارع في قلب سلوان العربية وإطلاق أسماء حاخامين يهود عليها، تردد أصداء ذلك التوق إلى الطرد الكبير، الذي يحظى بدعم رسمي في مدن مثل العفولة ونتسيرت عيليت. لقد أثبت الجمهور اليهودي، بالأفعال، أنه لا يتحمل وجود العرب في مناطق للترفيه مثل المتنزهات البلدية، برك السباحة، روضات الأطفال والمستشفيات. لم يعد من المفهوم ضمناً أن للعرب حقاً في الحضور في الحيز الجماهيري العام وحقاً في استخدامه، لا أقل من اليهود. خطوة واحدة فقط لا تزال تفصل بين هذا الحق الذي يتعرض للدوس وبين دوس الحق في حيز عربي خاص. إجمالاً، يعيش العرب هنا كأنهم في وضع مؤقت.

في آب الماضي تسلل نبأ عن أن مجلس الأمن القومي "يعدّ خططاً" لخروج سكان من قطاع غزة في اتجاه واحد فقط. كما حصلت توجهات إلى دول في الشرق الأوسط لفحص ما إذا كانت ستوافق على استقبال واستيعاب سكان من قطاع غزة، "لكن لم يتم العثور على دولة كهذه حتى الآن". هذه الفكرة الجهنمية تعود وتُطرح باستمرار منذ اللحظة الأولى التي وقعت فيها مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة في قبضة إسرائيل. وقد نشر غير مرة عن المراحل المختلفة التي مرت بها هذه الفكرة. "الترانسفير الإرادي" ليس موجوداً سوى في الهذيان الصهيوني.

إذا لم يكن إرادياً، فربما يكون إكراهياً إذن؟ أعيد قراءة المقالة التي كتبتها قبل تسع سنوات، "على درجات التطهير الإثني"، فأتذكر أن الطرد الممأسَس بحق العرب كان حاضراً هنا على الدوام وأن ما تغير خلال العقد الأخير هو مدى الشرعية التي تحظى بها الجريمة الشعبية التي تحمل بشرى الطرد، "إرهاب الأفراد" الذي يمارسه سكان البؤر الاستيطانية والكهانيون الذين يخدمون، على نحو جيد جداً، سياسة المؤسسة الرسمية الممتدة منذ سنوات طويلة. وأكثر من هذا: أحياناً، يفلت من أيدي المشاغبين اليهود اعتداء على جنود الجيش الإسرائيلي. عندها، يكشر السياسيون وينبهون، كي نقتنع جميعاً بأنهم ليسوا معهم في الخندق ذاته. يمكن القول إن هذه الدرجة الحالية من التطهير الإثني تجرى خلف ستار الدخان الذي ينشأ عن بلطجيات المعتدين من البؤر الاستيطانية، والذي يغطي المجرمين الجديين والحقيقيين الذين يرتدون البدلات ويجلسون في الاستوديوهات بينما هم الذين يقودون سياسة الترانسفير الزاحف.

لا وجود لمعارضة داخلية حازمة ضد حملات تهجير العرب

قبل أسبوع ونصف الأسبوع، نشر على موقع "سيحاه ميكوميت" (محادثة محلية) تحقيق صاعق أجراه أورن زيف، لكنه مر مرور الكرام بصمت إعلامي مذهل؛ صمت يمكن أن نتعلم منه الكثير عن الملل البليد (أو التذويت التام) الذي تثيره بين اليهود خطة الترانسفير ضد العرب. يقول التحقيق، باختصار، إن سلطة تسوية قضايا السكن البدوي في النقب قدمت خططا لإخلاء عشرات آلاف البدو من بيوتهم إلى "معسكرات مهجَّرين"، لصالح إنشاء مشروع خاص في مجال البنى التحتية القومية: توسيع المنطقة الصناعية رمات بيكع، بناء خطوط توتر عالٍ وإنشاء مفترق تقاطعي لشارع رقم 6. هل سمع أحدكم أن يهودياً واحداً قد تم إخلاؤه من بيته من أجل إقامة مناطق صناعية في منطقة الساحل أو في الجليل أو لغرض تعبيد شارع جديد؟ هل سكان القرى غير المعترف بها ـ وهي الظاهرة التي خلقتها دولة إسرائيل وكرستها بنفسها ـ هم الذين سيسكنون في مخيمات اللاجئين في أنحاء النقب؟ هل ثمة من هو معني بدفعهم إلى اليأس حتى ينكسروا ويهجروا بيوتهم وأراضيهم؟

هذه الخطة الوحشية تموضع مخيمات المهجَّرين عند مداخل البلدات البدوية في الجنوب، التي تئن أصلاً تحت وطأة الضائقة السكنية والتشغيلية الحادة جداً. من الواضح أنه ليس ثمة من بين العرب المعنيين بالأمر ـ لا سكان القرى ولا رؤساء المجالس المحلية ـ أي شريك في إجراءات التخطيط هذه. فهم ليسوا أكثر من أرقام في جداول محوسبة. إسرائيل 2020 لا تزال تنظر بعين الغيرة والحسد إلى الصين، تتلهى بهندسة اجتماعية يميزها مرض جنون العظمة، ترى في البشر رزماً جاهزة للتحميل والنقل، عائقاً أمام التطور والتقدم، ومصدر إزعاج يتعين إزالته من الطريق. يريد قباطنة الدولة اليوم، في العقد الثامن من عمرها، إعادة نسخ وتكرار الخطيئة الأولى التي تمثلت في "منطقة السياج" في العقد الأول من عمر الدولة. لم يجر تعلم أي درس أو استخلاص أية عبر ولا يزال التوق إلى حيز نظيف من العرب يتفوق على أي اعتبار آخر، أخلاقي أو عملي.

كم من اليهود سيدعمون هذا ويؤيدونه؟ كشف استطلاع واحد للرأي، على الأقل، لكنه كبير جدا، شمل 5600 يهودي، عن أن نصف اليهود يؤيدون طرد العرب من إسرائيل. وبين المتدينين، حظي هذا المشروع بتأييد 71% منهم. وبما أن إسرائيل تصبح أكثر تديناً يوماً بعد يوم، فإن الوجهة واضحة تماماً. إذا ما بدأت حكومة إسرائيل غداً بتنفيذ حملة تهجير ضد العرب، فلن تواجه أية معارضة داخلية حازمة. السبب الوحيد الذي يمنع حصول هذا حتى الآن هو أن المجتمع الدولي لا يسمح ـ حتى الآن ـ بتنفيذ مثل هذا المشروع.

فكروا الآن، إذن، يما يعنيه هذا من وجهة نظر العربي الذي يعيش هنا. ما معنى أن يدرك أن قوى عالمية مجهولة فقط، في هذا العالم الكبير، هي القادرة فقط على حمايته من سيف الطرد والتهجير في يوم من الأيام. لا جيرانه، لا الشرطة، لا منتخَبي الجمهور الذين يمثلونه ولا أصدقاءه اليهود. حياة معدومة الأمان وعديمة الحماية.

من شأن هذا كله أن يضع أمام اليسار في هذه الفترة مهمة واضحة جدا ومحددة تماما: الوقوف صفا واحدا مع شركائنا العرب، في إسرائيل وفي فلسطين، من أجل صد أية محاولة لدق إسفين بيننا، من أجل التخلص من أي تنظيم أو جسم سياسي يغفر هذه الجرائم، الفردية والمؤسساتية، ضد العرب ويتسامح مع صمت السلطات، باسم وحدة يهودية داخلية مخدرة، من أجل إدخال أكبر عدد ممكن من العرب إلى عضوية الكنيست، من أجل الوقوف في أي مكان يحاول فيه يهود طرد عرب أو تخويفهم، والتصدي لهم.

فثمة حروب أهلية قد اندلعت على أقل من هذا بكثير.

__________________________________

(*) البروفسور لاندو هو أستاذ اللسانيات في جامعة "بن غوريون" في مدينة بئر السبع في النقب. ترجمة خاصة.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات