المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

قال أستاذ العلوم السياسية البروفسور شلومو أفينيري إن الأحزاب السياسية في إسرائيل تعاني من أزمة مزدوجة، هي الفراغ الفكري والسيطرة الشخصية.

وبرأي أفينيري، الذي شغل في الماضي أيضاً منصب المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، فإن الاضطرابات الأخيرة المتلاحقة التي شهدتها المنظومتان السياسية والحزبية لها علاقة قطعاً بأشخاص، هم نفتالي بينيت، أييليت شاكيد، آفي غباي، وبيني غانتس، وطبعاً بنيامين نتنياهو. لكن الضجة الإعلامية تركز بطبيعتها على النواحي الشخصية، ونتيجة لذلك لم يهتم أحد تقريباً بالخبر عن قرار حزب "البيت اليهودي" تغيير أسلوب اختيار مرشحيه للكنيست.

وتابع: قد تبدو هذه المسألة إجرائية، لكنها شديدة الأهمية. ففي حزب "البيت اليهودي" نجحوا في استخلاص الدروس من العمل السيّء الذي فعله بينيت وشاكيد في الحزب وقرروا إلغاء الانتخابات التمهيدية والانتقال إلى أسلوب مركب، يختار فيه مركز الحزب المرشحين جنباً إلى جنب مع عقد مؤتمر عام. والتفاصيل ليست مهمة بحد ذاتها وربما يطرأ عليها تغييرات، لكن من الواضح أنهم فهموا في "البيت اليهودي" أن أسلوب الانتخابات الأولية الذي يمكن تسميته "ديمقراطية مزيفة"، يزعزع أساس وجود الحزب وبنيته التحتية الاجتماعية التي يجب أن تستند إلى عضوية ونشاط في الحزب. وكما تحتاج الديمقراطية نفسها إلى كوابح وتوازنات، أيضاً المنظومة الداخلية – الحزبية بحاجة إليها. والانتقال من أسلوب اللجنة المنظمة إلى أسلوب الانتخابات التمهيدية في معظم الأحزاب التاريخية في إسرائيل، ناجم عن الرغبة الصادقة في نقل الحسم من لجان مغلقة مكوّنة من سياسيين يجتمعون في الغرف المليئة بدخان السجائر إلى المجال العام، وبذلك تصبح عملية اختيار المرشحين للكنيست أكثر ديمقراطية. هذه كانت النية، غير أن النتيجة كانت مختلفة تماماً.

وأشار إلى أن ما حدث هو زعزعة بنية الأحزاب، وبدلاً من أحزاب تستند إلى عضوية مستمرة وناشطة، ونشاطات في الفروع، وعقد مؤتمرات ونقاشات سياسية وإيديولوجية، نشأت "مؤسسة التسجيل"، التي سمحت لكل من يريد بالانضمام رسمياً إلى الحزب قبل فترة قصيرة من الانتخابات والمشاركة في قرار تحديد المرشحين.

وليس من قبيل الصدفة أن حزب العمل، الذي كان من أوائل الأحزاب التي تبنت أسلوب الانتخابات التمهيدية، لم يعقد منذ سنوات مؤتمراً يناقش قضايا سياسية واقتصادية، وكل الاهتمام منصبّ على الانتخابات التمهيدية. والتركيز على المنافسة في الانتخابات التمهيدية أفرغ المؤتمر من أي مضمون فكري، وحول الحزب بصورة حصرية إلى أداة لانتخاب المرشحين للكنيست. ومنذ اللحظة التي ينتخبون فيها يضطر أعضاء الكنيست إلى التركيز فقط على وضعهم، وعلى بلورة بروفايل عام عالي المستوى، لضمان انضمامهم إلى الانتخابات التمهيدية المقبلة. كل واحد منهم هو لاعب منفرد: الانسجام الحزبي والانضباط غير موجودين تقريباً، وكل واحد يتنافس مع الجميع في حزبه.

ورافقت ذلك ظاهرة إضافية، كان حزب "البيت اليهودي" وحزب العمل من أبرز ضحاياها. فقد سمح أسلوب الانتخابات الأولية لأشخاص لم يكونوا قط أعضاء أو ناشطين في الحزب بتسجيل أنفسهم قبيل الانتخابات. وبمساعدة حملات علاقات عامة شرسة، جرى انتخابهم ليس فقط في قائمة المرشحين بل أيضاً في قيادة الحزب نفسه.

وهكذا نجح بينيت وشاكيد اللذان لم يكونا قط من الناشطين في المعسكر الديني - القومي للمفدال، في أن يُنتخبا لرئاسة الحزب بمساعدة شعارات مثل "تغيير" و"الجيل الشاب" التي دائماً تأسر القلوب. وكجزء من هذه الاستراتيجية التي في أساسها لا توجد مصالح الحزب كهيئة سياسية بل تطلعاتهم الشخصية، غادرا الحزب في مناورة تنتمي إلى عالم الصفقات: يسيطرون على شركة اقتصادية، يأخذون منها الموارد وغيرها، وعندما تتوقف عن خدمة المسيطر، يرمونها إلى الجحيم ويمضون قدماً.

وجرى أمر مشابه في حزب العمل، عندما قرر آفي غباي، الذي لم تكن له جذور سياسية أو فكرية في الحزب، تسجيل نفسه فجأة في حزب العمل، ونجح في أن يُنتخب - بعد حملة علاقات عامة متعددة الوسائل - رئيساً للحزب. وسلوكه في رئاسة الحزب كان يشبه طوال الوقت سلوك مدير وصاحب شركة تجارية. والاستبعاد القبيح لتسيبي ليفني، رئيسة حزب "الحركة"، من تحالف "المعسكر الصهيوني" هو نموذج متطرف لسلوك استقوائي، جاء من عالم الصفقات. إن الزعامة السياسية أيضاً، ولو كانت لا تخلو من الطموحات السياسية، تتطلب سلوكاً مختلفاً.

ومن هذه الناحية فإن بينيت وغباي يشبهان بعضهما بعضاً، ومع كل الفوارق يشبهان أيضاً الرئيس الأميركي دونالد ترامب: السيطرة من الخارج على حزب موجود والتصرف كرجل أعمال (في حالة بينيت يتضمن هذا أيضاً "شراء" حزب غير ناشط).

ويعتقد أفينيري أن تطبيق نموذج إدارة الأعمال على حزب مبني على عضوية ونشاط سياسي هو الخطر الأكبر على البنية الديمقراطية التي تتطلب حواراً، ومفاوضات، وخلق ائتلافات وشراكة داخلية – حزبية من المصالح والأفكار. كل ذلك غريب عن عالم الصفقات الاستقوائي الذي لا قيَم لديه غير حجم النجاح الاقتصادي الذي منه أتى بينيت، وغباي، وترامب. وهذا هو سبب الجري وراء استطلاعات يومية تقريباً تحلّ محل نقاش المواقف والقرارات في موضوعات سياسية واقتصادية.

ورأى هذا الأكاديمي أن أعضاء حزب "البيت اليهودي" تعلموا الدرس ويحاولون الآن ترميم حزبهم. وحتى بالنسبة إلى الذين لا يشاركونهم مواقفهم يجب أن يوافقوا على أنه من المهم للنسيج السياسي الإسرائيلي أن يكون هناك مكان لحزب صهيوني ديني لا يديره أشباه ترامب أو ديماغوجيون شعبيون، ويستطيع أن يتنافس مع القطاع الحريدي المعادي للدولة ومع التطرف الحريدي.
كما أنه من الضروري للديمقراطية الإسرائيلية طبعاً استمرار وجود حزب مثل حزب العمل، الذي يعتبر نفسه كحزب اشتراكي - ديمقراطي وليس فقط أداة انتخابية بيد هذه الشخصية أو تلك.

وختم أفينيري: إن الأزمة التي تمر بها الأحزاب السياسية في إسرائيل مزدوجة وتهدد الديمقراطية أكثر من أي قانون يشرع في الكنيست؛ من جهة هناك تفريغ للمضمون الديمقراطي والإيديولوجي للأحزاب بسبب أسلوب انتخابات تمهيدية فارغة وخالية من المضمون، ومن جهة ثانية هناك صعود أحزاب ذات زعامة شخصية تسلطية من نوع حزب "يوجد مستقبل" برئاسة عضو الكنيست يائير لبيد، و"إسرائيل بيتنا" برئاسة عضو الكنيست أفيغدور ليبرمان، وحالياً حزب "اليمين الجديد" برئاسة بينيت وشاكيد. وفي الضجة الإعلامية الحالية من الصعب أن يأمل المرء بحدوث التغيير المطلوب، لكن من يريد فعلاً تعزيز الديمقراطية والتخلص من الدوامة الحالية، يجب عليه أن يتعلم من نموذج "البيت اليهودي" وصوغ بنية الحزب من جديد. يجب عدم العودة إلى أسلوب اللجنة المنظمة، بل بلورة بنية مركبة تعددية ومتعددة الطبقات تضم كوابح وتوازنات داخلية. كما يمكن أن نتعلم من تجربة أحزاب في دول ذات نظام تعددي في أوروبا وليس فقط من النموذج الأميركي للانتخابات التمهيدية (التي أعطت الولايات المتحدة والعالم ترامب). ومثل هذا الإصلاح سيسمح لأعضاء الأحزاب والمنظمات والفروع التابعة لها بالمشاركة في بلورة طريقها وسياستها، ويمنع سيطرة عدائية لشخصيات من الخارج تعتبر الأحزاب محطة فقط للوصول إلى الزعامة.

وسبق أن تطرقنا في عدد "المشهد الإسرائيلي" الصادر في 18/12/2018 إلى استطلاع "مؤشر الديمقراطية الإسرائيلية" للعام 2018، الذي نشره "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" في القدس، وأظهر أن 28% من المشتركين فيه فقط يعتقدون أن هناك توازناً بين المكونيّن اليهودي والديمقراطي لنظام الحُكم في إسرائيل، في حين يعتقد 5ر45% منهم أن المكوّن اليهودي أقوى من الديمقراطي، ويعتقد 21% منهم أن المكوّن الديمقراطي أقوى من اليهودي.

وتعقيباً على هذه النتائج قال شوكي فريدمان، مدير "مركز قومية، دين ودولة" في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، إنه إذا كنا نتحدث حتى الآن عن توتر بين العرب واليهود، وبين المتدينين والعلمانيين، وبين يمين سياسي ويسار سياسي، فإن نتائج مؤشر الديمقراطية الذي أجراه "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" للعام 2018 تكشف عن ولادة شرخ مهم جديد: الشرخ الديمقراطي. وأكد أنه في إسرائيل 2018 يوجد شرخ مركزي يزداد حدة هو مسألة تعريف ما هي الدولة الديمقراطية.

وأضاف: لم يحدث هذا فجأة. فالنظرة العميقة إلى النزاعات الأخيرة في الكنيست وفي الساحة العامة شكلت مؤشرات واضحة على ذلك: الصراع حول "قانون القومية" وإزالة المُكوّن الديمقراطي الذي يميز الدولة منه؛ الصراع حول مكانة المحكمة العليا والرقابة القانونية التي تمارسها على قوانين الكنيست؛ الصراع على مكانة من يخدم الجمهور في مواجهة السياسيين؛ الصراع بشأن مكانة حقوق الإنسان التي تتجاوز المكونات الأكثر حيوية في الديمقراطية؛ وكل هذه هي صراعات حول الديمقراطية نفسها.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات