المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أياً تكن النتائج التي ستنتهي إليها في المستوى الجنائي الفضيحة الجديدة التي تكشفت خيوطها في إسرائيل خلال الأيام الأخيرة وأصبحت تُعرف باسم "فضيحة التعيينات مقابل الجنس" في الجهاز القضائي الإسرائيلي، إلا أنه من الواضح أنها تشكل واحدة من أخطر فضائح الفساد التي شهدتها دولة إسرائيل منذ قيامها وحتى اليوم، إن لم تكن أخطرها على الإطلاق.
ذلك أن هذه الفضيحة، بما تنطوي عليه من تفاصيل عديدة ومتشعبة، لا تقتصر على الفساد والإفساد في جهاز القضاء والمحاكم الإسرائيلي فقط، بل تتعداه لتعصف بمجالات ومؤسسات أخرى مختلفة، من تشريعات القوانين في الكنيست الإسرائيلي وحتى العديد من فروع النشاط الاقتصادي ـ التجاري في إسرائيل. 

مجموعة كبيرة من المصالح، السياسية والاقتصادية، ائتلفت معاً وجيّرت، لخدمتها، مؤسستين من أهم وأبرز مؤسسات الحكم في البلاد، وزارة العدل ونقابة المحامين، من خلال شخصيّ المسؤولين عنهما ـ وزيرة العدل، أييلت شاكيد، ورئيس نقابة المحامين، إيفي نافيه. وهو ما كانت شاكيد قد أوضحته في حديث لبرنامج تلفزيوني ("برنامج "عوفداه"/ حقيقة ـ في القناة التلفزيونية الثانية) قبل أكثر من عام، حين قالت: ""علاقتي مع نافيه بدأت على قاعدة مصالح مشتركة ثم تطورت، لاحقا، إلى علاقات صداقة".

ورغم أن هذه العلاقة، بما قامت وتقوم عليه من مصالح، قد أصبحت "سراً ذائعاً" في إسرائيل منذ سنوات، ورغم كل ما تركته وستتركه من آثار تدميرية على العديد من منظومات الحكم والتشريع والاقتصاد في إسرائيل، إلا أن قلائل جدا جدا هم الذين حاولوا التوقف عندها، الكشف عنها، التحذير منها والتصدي لها، سواء في وسائل الإعلام، في الأكاديميا، في الجهاز القضائي ومؤسسات الحكم المختلفة، في الحلبة الحزبية ـ السياسية أو في أوساط الرأي العام. ومردّ هذا الصمت المتواطئ، أساساً، هو القوة الزائدة، بل المبالغ فيها، التي نجح كلا الشريكين المركزيين، شاكيد ونافيه، في امتلاكها واستخدامها.

غير أن هذه الفضيحة الجديدة، الأكبر والأخطر من دون شك، التي يتورط فيها نافيه، الذي أصبح أحد أقوى الشخصيات وأكثرها تأثيراً في الحياة العامة الإسرائيلية منذ تسلمه منصب رئيس نقابة المحامين قبل أكثر من خمس سنوات، قد اضطرت أوساطاً كثيرة وواسعة، في الجهاز القضائي نفسه، في مؤسسات الحكم المختلفة، في الحلبة السياسية ـ الحزبية، في وسائل الإعلام وفي الأكاديميا، إلى كسر جدار الصمت وحاجز الخوف ثم الانسحاب، ولو قليلاً وعلى استحياء في بعض الحالات، من مواقع الدعم والتأييد المطلقين اللذين كان نافيه يتمتع بهما حتى الآن، سواء في داخل نقابة المحامين ومؤسساتها أو خارجها.

أما شاكيد، فمن المرجح أن هذه الفضيحة، ورغم كل ما تكشف منها وخلالها من فساد وارتباطات مثيرة للشبهات، لن تعود عليها بأي ضرر يمكن أن يمس مكانتها السياسية ـ الحزبية ولن تؤثر سلباً على فرص تحقيقها إنجازات كبيرة وهامة في الانتخابات القريبة للكنيست الإسرائيلي (في 9 نيسان المقبل) وفي التشكيلة الائتلافية ـ الحكومية المقبلة في إسرائيل، وذلك نظراً للشعبية الواسعة جدا التي تحظى بها في أوساط اليمين الإسرائيلي، وخصوصا على خلفية ما حققته من إنجازات كبيرة وهامة جدا ـ من وجهة نظرها ونظر اليمين عامة ـ فاقت كل ما كان يمكن لليمين الإسرائيلي توقعه وتمنيه، وفي مقدمتها إنجاز "الثورة المضادة" على ما يسمى في إسرائيل "الثورة الدستورية"، سواء من خلال تعيين عشرات القضاة ذوي التوجهات اليمينية ـ المحافظة في مختلف المحاكم الإسرائيلية، وعلى رأسها المحكمة العليا، أو من خلال العديد من التشريعات القانونية التي تضع قيودا شديدة على جهاز القضاء والمحاكم، من جهة، وتفرض تراجعاً كبيراً في كل ما يتصل بحقوق الإنسان والمواطن في إسرائيل.


مثلث رأس المال ـ السلطة ـ القضاء


منذ توليها منصب وزيرة العدل في الحكومة الإسرائيلية الـ 34، برئاسة بنيامين نتنياهو، في أوائل أيار 2015، أعلنت شاكيد (ممثلة حزب "البيت اليهودي" اليميني ـ الاستيطاني) أنها تأتي إلى هذا المنصب لتنفيذ أجندة محددة وواضحة عنوانها: "إحداث ثورة" (مضادة) في جهاز القضاء ـ إنهاء "الثورة الدستورية"، التي حدثت في إسرائيل ابتداء من العام 1992، إثر سن قانونيّ أساس "حرية العمل" و"كرامة الإنسان وحريته"، وإلغاء آثارها من خلال سن القوانين اللازمة والمناسِبة، في موازاة تعيين قضاة محافظين، متدينين وذوي ميول متفهمة للاستيطان اليهودي في المناطق الفلسطينية ومتعاطفة معه.

وفي مسعاها إلى "تغيير وجه وصورة الجهاز القضائي" في إسرائيل، ضمن هذه الأجندة، سرعان ما أدركت شاكيد أنها بحاجة إلى "حليف مركزي" يكون عوناً لها ويسهّل عليها تنفيذ هذه المهمة. وقد وجدت هذا الحليف في شخص إيفي نافيه، الذي تولى رئاسة نقابة المحامين في العام نفسه (2015) وأصبح "الرجل القوي" فيها، بل الحاكم الأوحد لها في غياب أية معارضة حقيقية له في صفوف هذه النقابة ومؤسساتها.

نافيه، في المقابل، كان يحمل أجندة خاصة به، عنوانها الرئيس: تقليص عدد المنضمين الجدد إلى نقابة المحامين تحت شعار "حماية المهنة، مكانتها وسمعتها"، فضلاً عن حماية مصالح أعضائها المحامين، المهنية والاقتصادية، والذين يزيد عددهم في إسرائيل عن 60 ألف محام. ولتنفيذ هدفه هذا، كان نافيه، في المقابل، بحاجة إلى وزيرة العدل شاكيد، المسؤولة المباشرة عن الجهاز القضائي برمّته.

في هذه النقطة التقت مصالح الطرفين، فتعززت العلاقة بينهما، تعمق التحالف بينهما وتطور إلى درجة جعلتهما ـ معاً ـ قادرين على تنفيذ كل ما أراداه في مجال الجهاز القضائي، تركيبته، مرجعياته، أدائه ومنظومة علاقاته بالسلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (الكنيست). وفي ظل الوضع السائد في إسرائيل خلال السنوات الأخيرة، من حيث التركيبة الائتلافية ـ الحكومية، وموازين القوى في الخارطة السياسية ـ الحزبية والضعف الذي انتشر في العديد من مؤسسات الحكم المختلفة، إلى جانب القوة غير المسبوقة التي تحصلت عليها نقابة المحامين، إضافة إلى صمت وتواطؤ وسائل الإعلام وأوساط واسعة في الأكاديميا، كان من الطبيعي أن يتطور الحلف بين شاكيد ونافيه، في التطبيق العملي، إلى أوسع بكثير من مسألة تعيين القضاة والتشريعات القانونية، من جهة، ومصالح جمهور المحامين المهنية، من جهة أخرى، حتى أصبح "تحالفاً غير مقدس، لم يؤد إلى تدمير الجهاز القضائي فحسب، بل تعدى ذلك إلى أضرار جسيمة على الاقتصاد الإسرائيلي، وخاصة في مجالات إنتاجية العمل، غلاء المعيشة، عدم المساواة وتعميق الفجوات في مجال الأجور"، كما أشارت المحللة الاقتصادية ميراف أرلوزوروف في صحيفة "ذي ماركر" (20/1/2019).

توضح أرلوزوروف أن "الأدلة الواضحة على هذه الأضرار موجودة في التدريجات الدولية لدولة إسرائيل خلال السنوات الأخيرة، والتي يشكل جدول PRM الذي تضعه منظمة التعاون الاقتصادي (OECD)". هذا الجدول "الذي يعتبر الأكثر أهمية، مصداقية، وجدية لفحص الحرية الاقتصادية في دولة ما"، كما تلفت أرلوزورف، والذي يُنشر مرة كل خمس سنوات كان آخرها في كانون الأول 2018، وضع إسرائيل في المرتبة الرابعة قبل الأخيرة بين دول هذه المنظمة من حيث "حرية وديناميكية الاقتصاد". وتضيف: "الأسوأ من هذا كله، هو تدريج إسرائيل في مجالات الخدمات المهنية، أي: مدى الانفتاح على المنافسة الحرة في هذه المجالات، وفي مقدمتها أساساً: الخدمات المهنية في مجالات القضاء (المحاماة)، مراقبة الحسابات، الهندسة، التصميم المعماري ووساطات العقارات". ثم تؤكد أرلوزورف أن الحكومة الإسرائيلية، باعتمادها سياسة الخصخصة في هذه المجالات، سواء من حيث منح تراخيص العمل فيها (وحصرها في نقابة المحامين ونقابة مراقبي الحسابات، مثلا)، "منحت القيادات المهنية المتحكّمة بها حرية القرار والتصرف في كل ما يتعلق بفتح/ إغلاق الأبواب أمام المنتسبين الجدد إليها وبظروف عملهم، بمكانتهم وقوة تأثيرهم على مجريات الأمور ليس في المجال المهني المحدد فقط، وإنما في مجالات أوسع منه بكثير تطال مختلف جوانب الحياة العامة في البلاد". وتخلص أرلوزورف إلى التأكيد على أن "هذا التطور الخطير جدا هو من صنع نافيه ووزيرة العدل التي وفرت له الحماية والدعم"!

في موازاة الإجراءات التي اتخذتها نقابة المحامين لتقليص عدد المحامين الجدد في إسرائيل بصورة حادة جدا (ومن ضمنها، بشكل أساس: تمديد فترة التدريب/ "الستاج" التي ينبغي على خريج الحقوق اجتيازها من سنة واحدة إلى سنتين، ثم رفع درجة صعوبة امتحان التأهيل لنقابة المحامين ـ الامتحان المقرِّر بشأن حصول خريج الحقوق على رخصة مزاولة مهنة المحاماة في إسرائيل ـ بحيث تدنت نسبة الناجحين في هذا الامتحان خلال السنوات الأخيرة بشكل حاد) ـ في موازاة ذلك، عمدت نقابة المحامين، برئاسة نافيه، إلى انتهاج سياسة استرضائية ـ ابتزازية في مجال "التحكيم" في فض النزاعات المالية، والذي يدرّ أرباحا ("أتعاباً") طائلة على العاملين فيه، من محامين وقضاة متقاعدين، فأوكلت ملفات "التحكيم" العديدة جداً هذه إلى أشخاص مقربين من رئيس النقابة شخصياً وممن يخدمون موقعه وسلطته. وإضافة إلى ذلك، ذهبت نقابة المحامين إلى التعاقد مع شركات تأمين (لتأمينات المحامين أعضاء النقابة) تربطها بنافيه ومكتب المحاماة الذي يمتلكه علاقات تجارية ـ مهنية، بكونها ضمن زبائنه. وخلال فترة رئاسة نافيه، عملت نقابة المحامين على تجنيد "لوبي" خاص بها في الكنيست الإسرائيلي للتأثير على مجمل العملية التشريعية وسن القوانين المختلفة عامة، وتلك التي لها علاقة بمجال المحاماة وعمل المحامين في إسرائيل، خاصة.
لم يكن بمقدور إيفي نافيه إنجاز كل هذه الأمور، بالطبع، لولا شبكة الأمان والحماية (وغض الطرف) التي وفرتها له وزيرة العدل، أييلت شاكيد، شخصياً، وبما جندته هذه الشبكة من صمت وتواطؤ ضروريين في الفضاء السياسي ـ الحزبي العام.

في المقابل، لم تكن شاكيد قادرة على تنفيذ أجندتها الخاصة في مجال تعيين القضاة الجدد، كما أوضحناها سابقا، من غير تأييد ودعم نقابة المحامين (نافيه، شخصيا)، في إطار "لجنة تعيين القضاة"، التي تترأسها هي بصفتها وزيرة للعدل، وتتمثل نقابة المحامين فيها بعضوين اثنين، من مجموع أعضائها التسعة (في هذه اللجنة، أيضا: وزير المالية موشيه كحلون، وعضوا كنيست من الائتلاف الحكومي وثلاثة من قضاة المحكمة العليا، منهم رئيس/ة هذه المحكمة عادة).

حتى قبل بضعة أشهر، لم يكن نافيه شخصياً عضواً في "لجنة تعيين القضاة". لكنّه كان الشخص المقرر، فعلياً، في موقف مندوبيّ نقابة المحامين في هذه اللجنة، بفضل سطوته وقبضته المحكمة في رئاسة النقابة وإدارتها. وهكذا، استطاع أن يكون "بيضة القبان" المقررة، كل الوقت خلال السنوات الثلاث الأخيرة، في تعيين القضاة الجدد في جهاز المحاكم الإسرائيلية، وخاصة المحكمة العليا، بما يتساوق مع رغبة الوزيرة وينخرط في أجندتها.

وقد فعل نافيه هذا خلافاً للقانون والأعراف المرعية في عمل هذه اللجنة، وهو ما كان معروفاً كل الوقت من دون أن يثير أي اعتراض أو معارضة، إلى أن تكشفت فضيحة الشبهات الحالية بشأن استغلاله منصبه وسلطته في تعيين قاضية لمحكمة الصلح ومحاولة ترقية قاض من محكمة الصلح إلى المحكمة المركزية، مقابل "رشى جنسية" في الحالتين، من القاضية نفسها في الحالة الأولى ومن زوجة القاضي في الحالة الثانية ـ الفضيحة التي هزت أركان الجهاز القضائي الإسرائيلي ووضعته، كله، موضع الشك والتشكيك.

 

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, بنيامين نتنياهو

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات