المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يؤكد تقرير جديد صدر عن "جمعية حقوق المواطن" في إسرائيل، في أوائل الشهر الجاري، استمرار المنحى "المثير جدا للقلق" ـ حسب تعبير معدّي التقرير في مقدمته ـ والمتمثل في "تآكل القيم الديمقراطية في إسرائيل والدفع بقوة نحو مبادرات تشريعية معادية للديمقراطية"، غير أن "الحقيقة المثيرة للقلق بشكل خاص"، كما يصفها التقرير، هي "أن إحدى الحلبات المركزية التي تُستخدم لدوس الديمقراطية وقيَمها وللمس بقواعد اللعبة الديمقراطية هي البرلمان (الكنيست) نفسه ـ قلب النظام الديمقراطي الذي يُفترض فيه أن يشكل رمزا للديمقراطية الإسرائيلية، للدفاع عنها وحمايتها"!

صدر التقرير، الذي يشكل وثيقة تفصيلية لنتائج ما قامت به "جمعية حقوق المواطن" من رصد ومتابعة في مجال التشريعات والمبادرات الأخرى التي تقلص الحيز الديمقراطي في إسرائيل وتحاصره، تحت عنوان "تقلّص الحيز الديمقراطي في إسرائيل ـ الكنيست الـ 20: صورة وضع"، وامتد على 30 صفحة تضمنت استعراضا لجميع التشريعات والمبادرات التشريعية المعادية للديمقراطية خلال دورة الكنيست الحالي، الـ 20، منذ بدايتها وحتى موعد إعداد التقرير.

وشددت مقدمة التقرير على خطورة التصريحات والنشاطات التي تصدر عن مسؤولين كبار في الساحة السياسية في إسرائيل، وخصوصا منها تلك التي تصدر عن الكنيست، لما لها من "إسقاطات بعيدة المدى والأثر على الجمهور الإسرائيلي عامة وعلى مواقفه تجاه الديمقراطية، حقوق الإنسان، مجموعات الأقلية (السياسية، الاجتماعية، الإثنية وغيرها)، سلطة القانون وغيرها".

ويؤكد التقرير أنه في سيرورة تقلص الحيز الديمقراطي، تواجه القواعد الأكثر أساسية في اللعبة الديمقراطية تحديات جسيمة، بل قد يجري دفعها أحيانا نحو الحدّ الأقصى الإشكالي جدا.

ويشير إلى أن أحجار الأساس في النظام الديمقراطي هي: الفصل بين السلطات واحترام السلطات الأخرى ووظائفها، بما في ذلك المجتمع المدني؛ حماية حقوق الإنسان والدفاع عنها، ومن بينها بالطبع الحق في المساواة والحق في حرية التعبير والاحتجاج؛ مقاومة استبداد الأغلبية (السياسية أو القومية)؛ اللجوء إلى استخدام أدوات وإجراءات متطرفة (بما فيها المس بحقوق أساسية) تشكل نتاجا حتميا لمفهوم "الديمقراطية الدفاعية"؛ مفهوم الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويجزم بأن هذه كلها تتعرض لتفسيرات مغرضة، أحادية البعد ومغالِطة، ولمحاولات تقويض منهجية.

لكن الأمر يصبح أكثر خطورة في عصر "السياسة الجديدة" الراهنة، إذ تتآكل قواعد اللعبة، الشكلية وغير الشكلية، على نحو يبدو فيه أنه لم يعد ثمة مجال بعد، ولا احترام ولا استعداد، للإصغاء وللبحث مع من لا يتبنى موقف الأغلبية ويتماثل معها.

ما هي الممارسات المعادية للديمقراطية؟

يتجسد المس بالديمقراطية في تشكيلة واسعة من الممارسات المرتبطة، جميعها، ببعضها البعض: 1- محاولة المس بمكانة، صلاحيات وعمل المؤسسات التي تشكل الهيكلية الديمقراطية، تشكل منظومة التوازنات والكوابح الحيوية جدا في النظام الديمقراطي وتضمن سيادة القانون، الإدارة السليمة، حماية حقوق الإنسان والأقليات، كما تضمن انعدام الفساد واستبداد الأغلبية؛ 2- محاولة إسكات الأصوات التي تعبر عن آراء ومواقف نقدية حيال السلطة الحاكمة، بما في ذلك مواقف وآراء نقدية تصدر عن أقليات اجتماعية أو سياسية؛ 3 ـ محاولة نزع الشرعية عن الخصوم السياسيين، منظمات حقوق الإنسان والأقليات؛ 4 ـ محاولة تضييق الخناق على كل من لا تتساوق مواقفه وآراؤه، أو نشاطاته، مع ما "تفرضه" الأغلبية السياسية؛ 5 ـ تصوير الأقليات في المجتمع الإسرائيلي وكأنها في صف العداء للدولة، إلى جانب شرعنة المس بحقوقها المدنية والسياسية.

تتعدد وتتنوع تمظهرات هذه التصريحات، الممارسات، التشريعات والمبادرات، وتشمل: اقتراحات قوانين تمس بحقوق أساس تشكل القاعدة الأساسية للنظام الديمقراطي، وفي مقدمتها الحق في حرية التعبير والاحتجاج السياسي والحق في المساواة أمام القانون؛ تهجمات كلامية ضد من يشكلون الأقلية البرلمانية في الكنيست وفي المجتمع في الوقت الراهن؛ محاولات للمس بالمؤسسات الضرورية والحيوية لوجود النظام الديمقراطي، وفي مقدمتها بشكل خاص: المحكمة العليا، رئيس الدولة، المستشار القانوني للحكومة والنيابة العامة للدولة، الشرطة، مراقب الدولة، وسائل الإعلام؛ محاولات للمس بالنشاط الشرعي والحيوي الذي تقوم به منظمات حقوق الإنسان والتغيير المجتمعي ومحاولات نزع الشرعية عن هذه المنظمات وعن نشاطاتها؛ محاولات للمس بالحريات الأكاديمية وبالمؤسسات الأكاديمية وبالحياة الثقافية ـ الفنية الحرة وغيرها. وتؤدي هذه كلها، في النتيجة، إلى المس بالمبادئ الأساس في النظام الديمقراطي في إسرائيل: المس المتواصل والمتراكم بحرية التعبير والاحتجاج، بكرامة الإنسان وبالحق في المساواة؛ المس بحرية الانتظام والمس بإمكانيات وجود التعددية وبشرعية وجود المواقف، الأفكار والآراء المختلفة. وفي الوقت نفسه، يتعزز طغيان الأكثرية واستبدادها تجاه الأقليات، الاجتماعية، السياسية والقومية، كما يتعمق ويتفاقم المس بحقوق هذه الأقليات جميعها.

ما هي الإشكالية؟ ما هو الضرر؟

تؤدي هذه الممارسات، التصريحات والمبادرات، في مجملها وفي نتيجتها النهائية، إلى مس عميق وخطير بالمبادئ الأساس التي يقوم عليها النظام الديمقراطي في دولة إسرائيل: مس بالمؤسسات الحامية للنظام الديمقراطي وبالفصل الواضح بين السلطات الثلاث؛ مس بالفهم الجماهيري العام لمعنى الديمقراطية وللعناصر الحيوية اللازمة لوجودها؛ مس متواصل ومتراكم بحرية التعبير والاحتجاج، بكرامة الإنسان وبالحق في المساواة؛ مس بحرية الانتظام؛ مس بإمكانية وجود التعددية وبشرعية وجود مواقف، آراء وأفكار مختلفة. كما يتعمق استبداد الأغلبية تجاه الأقليات الاجتماعية، السياسية والقومية، ويتفاقم المس بحقوق هذه الأقليات.

من الواضح أن هذه التطورات تحصل على خلفية واقع اجتماعي وسياسي محدد، يتميز بالتوتر الحاد والدائم، وإن لم يكن عنصرا جديدا إلا أنه يكون أكثر شدة وأثرا أحيانا. ويشمل الواقع المذكور، بالطبع، الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، الاحتلال والنزاعات المسلحة الكثيرة؛ الفجوات الاجتماعية ـ الاقتصادية العميقة والحادة؛ التمييز والعنصرية تجاه مجموعات سكانية مختلفة؛ ظواهر الهجرة واللجوء؛ خلافات حادة في الآراء في مجال العلاقة بين الدين والدولة؛ وغيرها. ومع ذلك، يبدو أن الحجة التي يتكرر استخدامها على ألسن عدد من المسؤولين السياسيين الكبار بأن "لا قدرة للحكومة على الحكم"، مما يعني الحاجة "الماسة" إلى إجراء تغييرات جوهرية وعميقة في قواعد اللعبة الديمقراطية تؤدي إلى لجم وكبح كل من وما يعيق قدرة الحكومة على الحكم ـ هذه الحجة ليست سوى ذريعة لتعزيز مكانة وقوة وسلطة الأغلبية السياسية الحاكمة الآن، وخصوصا على خلفية كون الكنيست فعليا ـ بموجب الطريقة البرلمانية المعتمدة في إسرائيل ـ ذراعا طويلة للحكومة.

هذه هي الحال، أيضا، فيما يتعلق بالمنحى الواضح في وضع مضامين ودلالات جديدة مختلفة لمفاهيم حقوق الإنسان ومصطلحات أساس في تعريف الديمقراطية، مثل تكريس الفكرة القائلة بأن الديمقراطية هي (فقط) حكم الأغلبية، أو فكرة أن الحكومة تُنتخب مرة كل أربع سنوات ومن غير الشرعي انتقادها، وانتقاد شخوصها / أعضائها أو أدائها، كما أنه من غير الشرعي محاولة تغييرها في الفترة ما بين انتخابات وأخرى. ومثل هذه العملية، التي تجري على نحو يخدم الأغلبية السياسية الحاكمة فقط ويعطي الأولوية للقيم القوموية والدينية بتفضيلها على القيم الليبرالية والكونية، تعني ـ بصورة أساسية ـ المس الخطير بحقوق مجموعات الأقلية المختلفة، السياسية، الاقتصادية ـ الاجتماعية والقومية.

على نحو مماثل، تجري إساءة استخدام شعار "الديمقراطية الدفاعية" كلما كانت هناك نية للمس بحقوق إحدى مجموعات الأقلية (سواء القومية، الاجتماعية أو السياسية) ـ وخصوصا في السياق الأمني لكن ليس فيه فقط. إنه استغلال الشعار الصحيح بصورة ونوايا سيئة ولا يمكن أن يجعل ما يترتب عليه من سلوك شرعيا ومحقا. وهذه السيرورة التي نشهدها اليوم تنطوي على خطر جدي وجسيم على النظام الديمقراطي بمجمله في إسرائيل، يهدد بتهديمه من أساسه. ينبغي أن يقوم الدفاع عن الدولة وعن أمن مواطنيها على أسس، مبادئ ومعايير سليمة، بصورة تناسبية ولائقة، بحيث لا يتم تقييد الحقوق الأساسية، أو سلبها تماما، سوى في حالات استثنائية جدا، كما ينص على ذلك القانون الإسرائيلي الحالي.

من المهم الإشارة إلى أن مجرد طرح مشاريع / اقتراحات القوانين، أو مجرد محاولة دفع هذه المبادرات ومحاولة تحقيقها، حتى وإن لم يتم إنجازها نهائيا، سواء بإقرارها قانونا رسميا أو بتنفيذها فعليا في الميدان ـ مجرد طرح هذه المشاريع والمبادرات يُحدث، فعليا، "تأثيرا مبطناً" واسعا في المجتمع الإسرائيلي بأسره ويسبب أضرارا فادحة للجهات التي يمسها الأمر ـ الأقلية العربية، منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني، المحكمة العليا والنيابة العامة للدولة، الإعلام، الأكاديميا والمؤسسات الثقافية والفنية- ومن خلالها كلها يتم المسّ بالديمقراطية الإسرائيلية عموما، ذلك بأن تلك الاقتراحات والمبادرات، سواء أكانت في مراحل البحث المختلفة أو في مراحل التشريع، قد تم وضعها على جدول الأعمال وأصبحت جزءا منه، وتؤثر على الأجواء العامة، على التفكير وعلى فهم المجتمع الإسرائيلي.

كما تجدر الإشارة، أيضا، إلى أنه من المحتمل أن يكون بعض هذه الاقتراحات والمبادرات، في حد ذاته، جديرا بالمناقشة أو بالتأييد. غير أن الصعوبة الأساسية هي في الكل، بمعنى الظاهرة العامة والشاملة التي تتسع وتتعزز، بكل جوانبها المذكورة آنفا، والتي تتمثل نتيجتها المركزية الأبرز في تقليص الحيز الديمقراطي في إسرائيل.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات