المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تواجه منظومة الامتيازات الآخذة بالتطور مع تشريع "قانون القومية" الإسرائيلي الجديد صعوبات في إثر تعاملها مع وثيقة الاستقلال وتغيير معناها التاريخي والسياسي. فوثيقة الاستقلال، برغم أنها عرفت دولة إسرائيل بأنها دولة يهودية، كانت قد أبقت متسعاً لوجود مساواة مدنية مستقبلية، ومنحت أملاً للمواطنين غير اليهود بالاندماج والحصول على مساواة مدنية كاملة. وبالرغم من أن سياسة الدولة منذ قيامها وحتى اليوم قد أثبتت بأن هذا الوعد لن يتحقق، كان هناك من أصروا على أن التمييز الممأسس في الدولة سيختفي مع الوقت. و"قانون القومية" الجديد ألغى هذه الامكانية نهائياً.

 

لتجسيد هذه النقطة، بإمكاننا التمعن في الاحتجاجات التي قادها الدروز في أعقاب تشريع القانون.

يمكن القول إن الدروز في إسرائيل آمنوا، من صميم قلوبهم، بأن خدمتهم في الأذرع الأمنية لدولة اليهود ستمنحهم مرتبة لا تتلخص بمكان محترم في شرفة المتفرجين فقط. وقد تعامل هؤلاء بجدية كبيرة مع الادعاء الرائج في أروقة الدولة بأن الولاء لها والخدمة في أذرعها الأمنية تمنح مكانة خاصة لا علاقة لها بالخلفية القومية، الدينية أو الثقافية. هذا التوجه لم ينبع فقط من وجهة نظرهم الدينية الأرسطوية، التي تنص على أنه يجب الحكم على الظواهر وفق القدرة الكامنة فيها على التطور، إنما نبع أيضاً من مصالح مادية ودينية. بحسب هذا المنطق، إذا كان نظام حقوق الدولة اليهودية يتعامل بصورة كريمة مع غير اليهود الذين يخدمون في قوات الأمن ويمنحهم مكانة خاصة فباستطاعة الدروز، وهم أقلية صغيرة جداً، أن يشعروا بأن الدولة تعود، بصورة كامنة، لهم أيضاً.

هذا الكمون، الذي يعتمد على الوعد الذي تضمنته وثيقة الاستقلال حول المساواة المدنية المشروطة بالولاء والاشتراك في بناء البلاد، تم صقله من قبل قيادات الدولة المتعاقبة، الأمر الذي جعل الجزء الأكبر من الدروز يتجاهلون الإسقاطات المباشرة لإقامة دولة إسرائيل وسياستها تجاه الشعب الفلسطيني الذي يعيش في ظل الدولة اليهودية، ويبدون استعداداً للتضحية بحياتهم وحياة أعزائهم في سبيل حماية أمنها. الدروز تذوتوا المواطنة الإسرائيلية وآمنوا بصدق بأن الدولة، رغم تمييزها بحقهم طوال سنوات، لا تمكنهم فقط من العيش بكرامة وبأمن وجودي بمستوى أعلى من ذلك الذي ينعم به بقية الدروز في الشرق الأوسط، بل ستطبق كذلك مبدأ المساواة المدني لصالحهم في المستقبل. وبواسطة جهاز التربية وبمساعدة دروز أخيار، وعدت الدولة، مراراً وتكراراً، بأن الدروز سينالون المساواة التامة والاعتراف التام في مقابل مساهمتهم لأمنها وولائهم لها. والقيادة الدينية الدرزية اختلقت، من جهتها، براءات دينية كثيرة لمساعدة الدولة على غرس هذا التصور في أذهان أبنائها وبناتها. لسوء حظ هؤلاء فقد فرض "قانون القومية" صحوة مبكرة أكثر من المتوقع. فالقانون يقطع الطريق أمام إمكانية إثبات بأن تصرف الدروز كان صحيحاً أو مفيداً بنظرة تاريخية، وهذا هو السبب من وراء تصميم الشق التقدمي في القيادة الدرزية على إلغائه.

إن الاستراتيجية التي يعتمدها القادة الانتهازيون في الطائفة الدرزية الذين يركزون النضال على صفقة المقايضة بين الولاء الأعمى للدولة والمساواة المدنية ليست فقط مغلوطة من أساسها بل إنها تتعاون مع منظومة الامتيازات ومع التمييز وتمنحها بذلك شرعية. يقود هذا الخط أعضاء كنيست دروز ينتمون على الأحزاب التي بادرت إلى القانون وصوتت لصالحه. الإلحاح على مقابلة رئيس الحكومة والمطالبة بتغيير القانون فقط بعد تشريعه، رغم أن هذه القيادة كانت على علم بعملية التشريع ومضمون القانون، تشير إلى إخفاق جوهري في تصرفها وتثير شكوكاً قوية فيما يتعلق بنوايا من يتولون النضال ضد القانون بصيغته القائمة. وانضمام القيادة الدينية وجزء من رؤساء السلطات المحلية لهذه الاستراتيجية يعكس خطاً انتهازياً بل أكثر من ذلك يعكس خطاً مثيراً للشفقة. حصر المطالب في المستوى الجزئي، الأمر الذي يتجسد بالاستخدام المتكرر للخدمة العسكرية والولاء الأعمى، يعكس اخفاقاً قيمياً وسياسياً على حد سواء. فهذه لغة تناسب جماعة من المقاتلين المرتزقة وليس مواطني دولة يسعون لتحصيل حقوقهم الكاملة والمتساوية المشتقة من مواطنتهم.

الاغراءات التي يطرحها رئيس الحكومة ومندوبوه على أنواعهم تعبر عن التفكير العنصري المتجذر في أذهانهم، وتكشف عن توجههم الذي يرى بأن الشراكة مع الدروز تعتمد على وجود أسياد وعبيد. والانتهازيون في القيادة الدرزية تفاجأوا وصدموا حتى من ردة فعل الطائفة، ولهذا فقد هرولوا إلى رئيس الحكومة ليبحثوا عن حلول تضمن مكانتهم. هذا التصرف يقف من وراء محاولة رئيس الحكومة السخيفة لتطوير منظومة الامتيازات بدل التعامل مع المشكلة الأساسية لمنظومة الحقوق الإسرائيلية. إجراء مفاوضات حول تطوير منظومة الامتيازات يعكس المنطق المريض لمن يقودون القانون: تعاملهم مع الدروز، وبالأساس الاقتراحات التي طرحوها للتعامل مع احتجاج الدروز، يكشف عن رؤية كولونيالية من أكثر النوعيات تحفظاً، فهم لا يصممون فقط على أن يكونوا عنصريين دستوريين إنما يعملون كذلك على تكريس هرميات قيمية بين الناس بناء على مدى ولائهم لنظام التفرقة العنصرية الجوهرية. هم لا يعبأون حقاً إن قام الدروز بالتوقيع على وثيقة تحولهم إلى مرتزقة مرخصين.

التركيز على الخدمة العسكرية يتناقض بشكل تام مع معنى المواطنة في دولة ديمقراطية، حيث أن مصدر الحقوق في الديمقراطية هو المواطنة ولا يمكن اشتراط هذه بالواجبات لا سيما عندما لا تحدد الواجبات من قبل كافة المواطنين بل بعضهم فقط. لا يمكن أن يخضع المواطنون لسيادة لا تعبر عن إرادتهم الحرة كما لا يمكنهم أن يخضعوا لواجبات لم يكونوا شركاء في تحديدها. وينطبق هذا كذلك على الدروز الذين لا يشاركون في تحديد قيم الدولة وسلم أولوياتها رغم خدمتهم في الأجهزة الأمنية. عدا عن ذلك، فإن المواطنة الديمقراطية لا تقتصر على معناها الرسمي بل هي جوهرية بأساسها. لهذا فإن كون الإنسان مواطناً يسبق كونه جندياً أو ضابطاً في قوات أمن الدولة. وليس من قبيل الصدفة أن الجيش في النظام الديمقراطي يخضع للمستوى السياسي الذي من المفترض أن يعبر عن ارادة الشعب. والشعب هو كافة المواطنين في الدولة وليس بعضهم فقط. لهذا فإن تحويل الخدمة العسكرية لمصدر الحقوق والتركيز على ذلك من قبل من يقودون "قانون القومية" لا يعكس فقط رؤية مغلوطة للديمقراطية وللمواطنة الجوهرية في إطارها إنما يشير كذلك إلى تصميمهم على تكريس منظومة امتيازات يتحول فيها جزء من المواطنين- الدروز في هذه الحالة- إلى متعاونين وحتى مرتزقة في دولة اليهود.

بناء عليه يجب ألا تعتمد مطالب المواطنين الدروز على هويتهم بل على مواطنتهم، وألا تتوقف عند حماية الامتيازات الجزئية لأنها تحول مكانتهم بهذا من مواطنين إلى رعايا. الدروز بالذات، على ضوء قيامهم بدورهم في إطار "الصفقة" مع الدولة، عليهم أن يقودوا النضال من أجل منظومة حقوق شاملة لكافة مواطني الدولة، وهو النضال الذي سيحول دون تكرار عمليات تشريع تمييزية، مثل "قانون القومية"، في المستقبل. هناك فرصة تاريخية أمام الدروز ليؤثروا على منظومة العلاقات بين كافة مواطني الدولة. وحصر نضالهم في التركيز على مكانتهم الخاصة معناه قبول منظومة الامتيازات والموافقة الكاملة على تطويرها. هذه المنظومة تعكس سياسات هوية تماماً كتلك التي تقف من وراء منطق "قانون القومية". لهذا، فإن موقفاً من هذا النوع يخلق تناقضاً منطقياً يفرغ نضال الدروز من مضمونه الجوهري. الاهتمام بمصالحهم فقط يعني أنهم يديرون ظهورهم للنضال من أجل منظومة حقوقية قيمية ومتساوية، الأمر الذي قد يمنح مؤيدي "قانون القومية" شرعية مبدئية لتفضيل الامتيازات الجزئية على حساب المبادئ الأساسية المدنية الشاملة.

إن منظومة الامتيازات التي تقوم الحكومة الإسرائيلية بتكريسها في المجالات المختلفة، بما يشمل سياسة التخطيط، التشغيل والرفاه، بإمكانها بالذات أن تضعضع مكانة الدروز وأن تحول مطالبهم إلى مماحكة. والانتهازية التي تنعكس في موقف ممثلي الحكومة الدروز والمسرحين من الجهاز الأمني من بينهم تسمح للحكومة بتطوير عدة أدواتها التمييزية وعرض إغراءات مادية تبدو كالهدية التي يقدمها السيد لرعاياه الخنوعين بدل أن تكون جزءاً من رزمة حقوق أساسية يحصل عليها كل مواطن ومواطنة. عدا عن ذلك فإن منظومة الامتيازات تتضمن مصادقة مبدئية على سياسة "فرق تسد" التي تعتمدها الحكومة. وهذه المصادقة، بنظر من يقودون "قانون القومية"، ليس فقط من الممكن بل إنها تهدف إلى تعميق الفجوات والتخوفات بين الدروز أنفسهم وبينهم وبين بقية السكان العرب في الدولة. واشتراط الحقوق بواجب الولاء والخدمة العسكرية يقلب مبدأ المواطنة الجوهرية رأساً على عقب.

هذه النقاط وغيرها الكثير تلزم كل منتقدي القانون التنبه إلى صياغة النضال ضد القانون بمصطلحات مدنية شاملة كي لا يتحول إلى نضال من أجل "صفقة" تسمح بتطوير منظومة الامتيازات في المستقبل. لا بد أن يستند النضال المبدئي ضد "قانون القومية" إلى مبادئ مدنية شاملة.

إن معارضة القانون مهمة ليس لأنه يتطرق إلى حق تقرير المصير للشعب اليهودي، كما يحاول نتنياهو الادعاء، انما لأن في هذه الدولة التي تعبر عن هذا الحق الشرعي في القانون بدأ يتشكل دستور يحول التمييز ضد المواطنين العرب، بما يشمل هؤلاء الذين يخدمون في أذرعها الأمنية، إلى مبدأ أساس في الطريقة. وهذا التمييز يتحول لمبدأ دستوري أساس تجاه كل من لا ينتمي للشعب اليهودي كما يعرفه واضعو القانون. "قانون القومية" هو قانون يكرس سيادة اليهود ودونية غير اليهود بغض النظر عن تصرفهم. هو يحكم على كل مواطني الدولة غير اليهود بمكانة رعايا بالإمكان تحملهم، فقط لا غير. والاتكال على الولاء والخدمة العسكرية لن يغير طابع هذه الطريقة المرفوضة بل سيثبت نجاعتها، وهي بدورها ستعمق التمييز والاستهانة وثقافة الأسياد التي يحاول من يقودون القانون تكريسها.
________________________
(*) أمل جمال بروفسور في العلوم السياسية في جامعة تل أبيب. هذا المقال عبارة عن مقاطع اقتطفناها من دراسة طويلة بعنوان "قانون القومية ومنظومة الامتيازات في إسرائيل" نشرها مؤخراً، وذلك بسبب ملاءمتها مع محور الملف الخاص بهذه الصفحة.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات