المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

"إقامة دولة فلسطينية هي مصلحة أمنية إسرائيلية"، بمنظور عسكري ـ سياسي بديل عن "نهج الوضع القائم المتقادم والخطير الذي يقوده اليمين الإسرائيلي، من خلال حكومة نتنياهو، والذي سيعود بآثار مدمرة على أمن إسرائيل في المدى البعيد" ـ هذه هي الخلاصة المركزية التي يتوصل إليها عومر تسنعاني في كتابه الجديد، الصادر مؤخرا، بعنوان "من إدارة الصراع إلى إدارة التسوية" ـ مفهوم الأمن الإسرائيلي والدولة الفلسطينية"، وهو إصدار مشترك لـ "مركز مولاد لتجديد الديمقراطية في إسرائيل" و"مركز تامي شطاينيتس لدراسات السلام" في جامعة تل أبيب.

يقع الكتاب في 101 صفحة موزعة على ثلاثة فصول، تسبقها مقدمة ويليها "ملحق" وثبت المراجع، هي: الفصل الأول ـ نموذج إدارة الصراع وإسقاطاته؛ الفصل الثاني ـ "حلول مرحلية" تكرّس الوضع القائم؛ الفصل الثالث ـ تسوية غير مثالية على قاعدة إنشاء دولة فلسطينية.

يذكر أن تسنعاني كان قد أصدر كتابا آخر في العام 2016 بعنوان "عملية أنابوليس ـ واحة أم سراب؟" عالج فيه مفاوضات السلام التي جرت بين الفلسطينيين وإسرائيل ضمن "عملية أنابوليس" في العامين 2007 ـ 2008. وقد توصل تسنعاني، في ذلك الكتاب، إلى خلاصة مهمة تنطبق على هذه العملية شأن ما سبقها من "عمليات سلام"، فحواها أن هناك ضرورة لحدوث تغيير جذري، من الأساس، في التوجه الإسرائيلي العام حيال السلام، وهو ما يتطلب قرارات حسم سياسية ـ أمنية، وليست عسكرية فقط. ولفت إلى أن "اتفاقية سلام نهائية دائمة وإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة والاستمرار، توفر الأمن لجارتها إسرائيل أيضا، تستوجبان تغيير القرص المرن ("ديسكيت" الذي تخزّن عليه معلومات الحاسوب) في الجانب الإسرائيلي، وهو ما لم يحدث في إطار الاتفاقيات المرحلية (أوسلو وغيرها) ولا في إطار عملية أنابوليس".

في كتابه الجديد، يوضح تسنعاني خلاصته المذكورة عن أن "إقامة دولة فلسطينية هي مصلحة أمنية إسرائيلية"، بالقول إن سياسة "إدارة الصراع" تقوم على فكر أمني قصير المدى لا ينسجم مع الواقع المتغير ميدانيا ويعود بأضرار فادحة على المصالح الإسرائيلية في المدى البعيد. ويقول إن محاولة الإبقاء على الوضع القائم، بل المحافظة عليه وتكريسه، "ليس أنها لا تخدم إسرائيل فحسب، بل تضر بها أيضا". ذلك أن نهج "إدارة الصراع" يزيد من حدة وخطورة المخاطر والتهديدات الاستراتيجية المحدقة بإسرائيل، يهدد طابعها اليهودي والديمقراطي ويقرّبها من خيار الدولة ثنائية القومية ويعزز قوة ومكانة الأوساط الراديكالية في المنطقة. وعلى هذا، فإن حماية أمن إسرائيل "تستوجب إحداث تغيير دراماتيكي في الموقف إزاء الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني يتمثل في: الانتقال من إدارة الصراع إلى إدارة التسوية".

في إطار هذا الفهم، يرى تسنعاني أن "وحدها إقامة دولة فلسطينية مزدهرة يمكنها حماية المصالح الأمنية الإسرائيلية للمدى البعيد". وبكلمات أخرى، الدولة الفلسطينية القوية والمزدهرة ليست بمثابة "شرّ لا بد منه في الطريق نحو تحقيق تسوية سياسية، وإنما هي مصلحة سياسية ـ أمنية عليا لدولة إسرائيل". فمن أجل ضمان الهدوء، الأمن والاستقرار على جبهة الصراع مع الفلسطينيين، ينبغي الأخذ في الحسبان مصالح واعتبارات كلا الطرفين للمدى الطويل، ثم السعي إلى إجراء مفاوضات متعقلة وبراغماتية، على غرار تلك التي أثمرت اتفاقيات السلام الاستراتيجية مع كل من مصر والأردن. ولهذا، "ليس ثمة بديل آخر عن إقامة دولة فلسطينية تصبح قادرة على أن تكون حليفا مستقبليا لإسرائيل".

يسير تسنعاني في طريق وعرة تقوده نحو بلوغ خلاصته المركزية المذكورة، يبدأها بعرض مستفيض للمفاهيم والمعتقدات الأمنية السائدة في إسرائيل، وخاصة بين صناع القرارات الرسمية، السياسية والأمنية، يفككها ويكشف ما فيها من خلل، عيوب ونواقص، تحاول القيادات الرسمية (السياسية والأمنية) التغطية عليها وتمويه آثارها بالاتكاء على رواية تضليلية، ثم يخوض في تفاصيل التحول الفكري الذي سيكون من الحيوي حدوثه، بما يستتبعه من إجراءات وخطوات عملية يتعين اتخاذها واعتمادها "بأقصى ما أمكن من السرعة"، حسبما يؤكد، من أجل ضمان سلامة وأمن إسرائيل في المستقبل.

النبوءات الرؤيوية وموازين الربح والخسارة

بعد سنوات طويلة من اعتماد الحكومة الإسرائيلية نهج "إدارة الصراع"، بما فيه من تكريس للوضع القائم وإيغال في تعقيده، يرى تسنعاني ـ المستشار الأمني الذي شارك في سلسلة من جولات المفاوضات مع الجانب الفلسطيني سابقا ـ أنه قد آن الأوان لأن تعتمد إسرائيل مفهوماً أمنيا بديلا عنوانه "إدارة التسوية" وفي صلبه: توجه جديد حيال مسألة الدولة الفلسطينية المستقلة.

ويؤكد أن الخيارات الجزئية التي طُرحت و/ أو اعتُمدت في الماضي على مدار سنوات طويلة وكأنها بديل عن سياسة "إدارة الصراع"، مثل الانفصال من جانب واحد أو السلام الاقتصادي مع الفلسطينيين أو غيرهما، لم تكن في المحصلة سوى "حلول وهمية" لا غير، كانت نتيجتها الأساسية أنها أتاحت مواصلة "إدارة الصراع" ورسمت صورة مزيفة خطيرة قوامها أنه "لا بديل عن الوضع القائم". وتقود معالجة تلك الخيارات و"حلولها" (الجزئية)، بالدراسة والتحليل، إلى استنتاج مركزي لا مفر منه، حسبما يؤكد تسنعاني، هو: وحدها إقامة دولة فلسطينية قوية ومزدهرة من شأنها حماية المصالح الأمنية الإسرائيلية على المدى البعيد.

يتمحور تحليل تسنعاني في النقاط المركزية التالية:
1. آن الأوان للتخلص من نبوءات الغضب الرؤيوية بشأن الدولة الفلسطينية المستقبلية وطابعها، ثم تبني رؤية سياسية ـ أمنية متعقلة وطويلة المدى يكون في مقدورها ضمان أن تصب مثل هذه الدولة (الفلسطينية) في خدمة المصلحة الإسرائيلية. فمن أجل تلبية الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية المستقبلية وحمايتها، ينبغي العمل منذ الآن على إيجاد محفزات تشجع الفلسطينيين على صون اتفاقية السلام المستقبلية والمحافظة عليها، إلى جانب إجراءات عقابية يمكن اعتمادها لردعهم عن خرق هذه الاتفاقية. لكن مفهوم الأمن السائد في إسرائيل حاليا يتغاضى عن هذا كله: بدلا من إنشاء وتطوير آليات مثلى يمكن اعتمادها في اللحظة التي تنشأ فيها ظروف مواتية لتحريك عجلة السلام والدفع نحو اتفاقية سلام، تلجأ القيادات السياسية والأمنية الإسرائيلية إلى التقوقع والتحصن في شرنقة التفكير المرحلي المحدود وتركز جل جهودها في الاستعداد لجولات قادمة من القتال، بدلا من التفكير في محاولات وبدائل تقود إلى وقفها وإلى انتفاء الحاجة إليها.

2. التسوية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين، التي تأخذ في الحسبان مصالح ودافعية كلا الطرفين ـ كما حصل في اتفاقيات السلام مع مصر والأردن ـ أفضل بعشرات المرات من تخبط إسرائيل في الوضع القائم. وعمليا، ليس لمستقبل إسرائيل أفضل من سيناريو الدولتين الجارتين، السياديتين والشرعيتين، اللتين تعيشان على قاعدة التعاون، وخاصة على الصعيد الأمني، كما يحصل اليوم فعليا في مناطق السلطة الفلسطينية.

3. يستخدم اليمين الإسرائيلي الحجج الأمنية كوسيلة أساسية لدفع إيديولوجيته بشأن أرض إسرائيل الكاملة ويعمل لإجهاض أية خطوة من شأنها تسوية النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين، إجهاضا مسبقا في الغالب. وقد رسخ قادة اليمين، في السجال الإسرائيلي العام، خطابا يقوّض المصالح الأمنية الإسرائيلية، ولذا فمن الضروري والمستعجل جدا تفكيك هذا الخطاب.

4. مفهوم الأمن السائد في إسرائيل أصبح مفهوما متقادما ويحتاج إلى عملية إنعاش عاجلة. فهو يقوم على فرضية أن الصراع مع الفلسطينيين غير قابل للحل، وأن الواقع الجيو سياسي ثابت وغير متحول، وأن الحروب في المنطقة ستستمر إلى الأبد. في مثل هذا الوضع، يصبح الهدف المركزي والوحيد هو تعزيز الردع المؤقت حيال الفلسطينيين، وسواهم أيضا، بواسطة استخدام القوة العسكرية، مما يحول الردع، عمليا، من وسيلة إلى غاية في حد ذاتها. لكن ما اتضح ويتضح، خلال السنوات، هو أن سياسة الردع هذه هي سيف ذو حدين: فهي تزيد من دافعية الفلسطينيين لتأزيم الوضع وتشجع المقاومة العنيفة بين ولدى كل الأوساط التي تشعر بأن ليس ثمة ما يمكن أن تخسره. بكلمات أخرى، الحسم العسكري ليس كافيا، بل يحتاج الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني إلى حسم سياسي.

5. المطالب الإسرائيلية بشأن طابع الدولة الفلسطينية المستقبلية تجهضها مسبقا. فقد طرحت إسرائيل، حتى اليوم، مطالب جائرة جدا، مثل جعل الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح بصورة مطلقة، ضمان تواجد الجيش الإسرائيلي الدائم في غور الأردن، ضمان وحفظ الحق الإسرائيلي في التوغل في عمق المنطقة "عند الحاجة" ومعارضة أي تواجد لقوات دولية في المنطقة من شأنها مساعدة الدولة الفلسطينية على توفير الأمن لنفسها ولجاراتها. دولة فلسطينية مخصية تكاد تكون قدرتها على الحكم والسيطرة وإدارة شؤونها معدومة تماما، مما سيجعلها كيانا فاشلا لا يستطيع تحقيق أهدافه والإيفاء بالتزاماتها الأمنية.

6. ينبغي على إسرائيل السعي إلى إقامة دولة فلسطينية قوية، قادرة على احترام الحدود المتفق عليها والمحافظة على الهدوء في داخل حدودها وفي المنطقة. لقد قلصت السلطة الفلسطينية ـ التي تمتلك "صندوق أدوات" محدودا جدا ـ العمليات الإرهابية في السنوات الأخيرة بصورة كبيرة جدا. ومن شأن دولة فلسطينية سيادية ومقتدرة، تمتلك "ثروات" يقدرها الفلسطينيون ويولونها أهمية، أن تكون دولة مسؤولة ومعنية بالتسوية السياسية. وبعد ترسيم الحدود المتفق عليها، بإمكان دولة إسرائيل اعتبار الحكومة الفلسطينية مسؤولة عن أي خطر أو تهديد أمني من الجانب الفلسطيني، بينما يكون لدى الفلسطينيين، من جانبهم، مصلحة في تجنب ردات فعل عسكرية إسرائيلية.

7. في اليوم الذي تقام فيه دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، يميل ميزان القوى لصالح الجيش الإسرائيلي بالطبع، ستتوفر الشرعية الدولية لأي إجراء إسرائيلي يرمي إلى حماية نفسها ومصالحها وسيتحول الصراع من صراع غير متوازن بين جيش محتل وسكان خاضعين للاحتلال إلى مواجهة بين دولتين، بين فلسطين وإسرائيل القوية بما لا يقاس والمتمتعة بتأييد عالمي واسع.

8. خلافا لما هو الحال في عهد الوضع القائم، سيكون لدى الفلسطينيين في عهد الدولة الفلسطينية والتسوية السياسية الكثير مما يمكن أن يخسروه، بينما سيكون لدى إسرائيل الكثير مما يمكن أن تربحه: استقرار أمني، تحالفات هامة في وجه التهديدات الإقليمية (من إيران وسورية، مثلا)، فضلا عن الدعم الدولي الواسع.

خارطة المصالح في عهد التسوية الدائمة

في "الملحق" الذي يختم به كتابه هذا (قبل ثبت المراجع وكلمة الشكر) تحت عنوان "إسرائيل والفلسطينيون ـ المصالح في عهد التسوية الدائمة"، يرسم تسنعاني ما يراه خارطة مصالح الطرفين في حال التوصل إلى تسوية سياسية دائمة بينهما، على النحو التالي:
المصالح العليا الإسرائيلية:
• ضمان مستقبل إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية، على قاعدة تقسيم متفق عليه إلى دولتين ذواتي حدود دولية معترف بها؛
• تسوية النزاع، إزالة جميع المطالب والادعاءات من كلا الطرفين، وحل واقعي لمشكلة اللاجئين من دون المس بأحقية الصهيونية وبطابع دولة إسرائيل؛
• هدوء أمني مستمر ـ إزالة خطر الحرب، حفظ التفوق العسكري والردع الإسرائيليين في المنطقة؛
• حصول إسرائيل على الشرعية والاعتراف الدوليين واستمرار الدعم الأميركي لها؛
• اعتراف دول عربية وإسلامية بإسرائيل، على قاعدة التسويات ودفع عجلة التطبيع معها؛
• تحقيق الازدهار الاقتصادي وفتح أسواق جديدة للتجارة والتصدير.
المصالح العليا الفلسطينية:
• إنهاء الاحتلال العسكري والتحرر من السيطرة الإسرائيلية؛
• دولة فلسطينية مستقلة، سيادية ومنزوعة السلاح، ذات تواصل جغرافي؛
• القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، تمنح الفلسطينيين مكانة متميزة في الشرق الأوسط؛
• حل متفق عليه لمشكلة اللاجئين، يسبغ شرعية على التسوية وعلى القيادة الفلسطينية؛
• قانون واحد ـ سلاح واحد. نزع جميع القدرات الإرهابية ووضع حد لمساعي التمرد، السياسي والعسكري، من جانب حركة "حماس" والتنظيمات الإرهابية الأخرى.
• الاستقلال الاقتصادي والانتعاش الاقتصادي.

 ثلاثة سيناريوهات محتملة لانهيار التسوية والتصعيد

*"وفيها، جميعا، يبقى خيار الدولتين هو الأفضل لإسرائيل"*

يرسم تسنعاني، في نهاية كتابه الجديد، ثلاثة سيناريوهات قد تتعرض فيها التسوية السياسية إلى الانهيار، مما سيقود إلى التصعيد المجدد في حلبة الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، مشيرا إلى أن "هذه السيناريوهات تبدو قليلة الاحتمال، لكنها ليست غير ممكنة تماما". ويشدد على أن "الفكرة المركزية هي، بالطبع، محاولة معالجة هذه السيناريوهات والتصدي لها مسبقا، سوية مع الفلسطينيين والدول العربية، بغية تجنب حدوثها فعليا، من دون سيناريوهات القياس المؤثرة سلبيا على روح التسوية السياسية، كما حدث في مفاوضات الحل النهائي، مثلا". ويضيف أن البحث والعلاج المشتركين لهذه السيناريوهات يمكن أن يتحققا بين الأطراف فقط بعد التوصل إلى تفاهمات مبدئية حول القضايا الجوهرية وحول الرؤية النهائية المشتركة، كما أن بإمكان الأطراف تحويلها من سيناريوهات قليلة الاحتمال إلى سيناريوهات عديمة الاحتمال تقريبا.

وفي كل الأحوال، يؤكد تسنعاني أنه في جميع هذه السيناريوهات الثلاثة، "يبقى خيار الدولتين هو الأفضل بالنسبة لإسرائيل".
أما هذه السيناريوهات فهي:

• السيناريو الأول: استنزاف متواصل من خلال خروقات متكررة للاتفاقيات، عمليات إرهابية، إطلاق قذائف وصواريخ

هذا هو سيناريو الانهيار المركزي والأكثر خطورة بالنسبة لإسرائيل، كما يرى المؤلف. وهو يعكس وضعا تكون فيه الدولة الفلسطينية دولة فاشلة وينسجم مع تصور الدولة الضعيفة الذي تقترحه إسرائيل اليوم. وقد يشمل هذا السيناريو، أيضا، سيطرة عدوانية على أجزاء من الدولة الفلسطينية، أو عليها بالكامل، من جانب عناصر إسلاموية (بتشجيع من إيران، حماس أو داعش). وقد يكون هذا السيناريو نتاج حالة من الفوضى تنشأ عن تفكك الدولة الفلسطينية على خلفية فشلها في أداء مهماتها ومسؤولياتها الدولتية، أو قد يكون ردا على ضربات يسددها يهود متشددون لن يقبلوا بالوضع الجديد فينفذون عمليات إرهابية فظيعة بغية إجهاض الاتفاقية السياسية.

يضع مثل هذا السيناريو إسرائيل أمام معضلات جدية، قد يكون في ما يحصل على الحدود مع قطاع غزة اليوم مؤشرا عليها، إلى حد ما. المعضلة المركزية تتمحور حول مسألة "الخطوط الحمر" التي تعتمدها إسرائيل: في حال انهيار الردع الإسرائيلي (سواء جرى ذلك تدريجيا أو دفعة واحدة)، متى يتعين على إسرائيل الانتقال من "سياق التسوية"، المستند على الردع والتهديد ومطالبة الفلسطينيين بمنع إطلاق النار و/ أو الإرهاب، إلى "سياق المواجهة" (العسكري المباشر)؟
ينبغي أن يكون هذا السيناريو، كما ذكر، موضع بحث وعلاج مشترك، بما في ذلك مع الأردن ومصر، بغية وضع قواعد للعمل والتصرف تُبعد الخطر المحتمل، وخاصة في إطار الحوار حول نزع أسلحة الدولة الفلسطينية وتجريدها من قدرات الإرهاب، الصواريخ والقذائف، منذ المرحلة الانتقالية.

وإذا ما تحقق هذا السيناريو، رغم ذلك كله، سيتعين على إسرائيل اتخاذ الخطوات التي تكون قد استعدت لها مسبقا. فاستخدام القوة العسكرية في واقع الدولة الفلسطينية سيتيح لإسرائيل، على عكس الوضع الحالي، جباية ثمن باهظ جدا من الفلسطينيين. وعلاوة على هذا، فقد تعلمت إسرائيل من تجاربها (في غزة وفي لبنان) تطوير واستخدام قدرات دفاعية وهجومية متقدمة للتصدي لكيان عدائي يسمح بالإرهاب، بإطلاق النيران و/ أو بأي نشاط هجومي آخر من داخل مناطقه. في المقابل، يسهل واقع وجود الدولة الفلسطينية الشروط الأساسية التي تنطلق منها إسرائيل وتعمل في نطاقها: الردع أكثر فاعلية مقابل كيان دولتي يخضع للقيود التي يفرضها القانون الدولي وقد وقع على اتفاقية سياسية ملزمة؛ شرعية دولية (عملية دفاعية تنطلق من حدود إسرائيل الدولية) و"روافع ضغط" عربية على القيادة الفلسطينية ـ هذه جميعها، من دون الاضطرار إلى إدخال الجيش الإسرائيلي إلى عمق مناطق الدولة الفلسطينية وتحمل أعباء السكان الفلسطينيين الثقيلة جدا.

• السيناريو الثاني: نشوء حالة حربية تنخرط فيها الدولة الفلسطينية

خلافا للفترة التي كانت الحرب العربية الشاملة تشكل فيها التهديد المركزي على دولة إسرائيل، وعلى ضوء ميزان الرعب على الجبهة الشمالية، قد تقع الحرب مع حزب الله في لبنان، وربما في عمق الأراضي السورية أيضا، في عهد الدولة الفلسطينية أيضا، بتشجيع من إيران.

انضمام الفلسطينيين المؤيدين للإسلام الراديكالي في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى مثل هذه الحرب هو أمر قليل الاحتمال. ولكن، إذا ما حصل هذا، فسيكون فيه ما يصعّب الأمر على إسرائيل ويضطرها إلى استخدام القوة. وفي المقابل، فإن تثبيت عنوان فلسطيني دولتي، معزز وملتزم بالتعهدات، سيسهل المهمة على الجيش الإسرائيلي حيال اضطراره إلى توزيع قدراته وجهوده، في مثل هذا السيناريو. وهكذا، سيتاح للجيش الإسرائيلي توظيف الجزء الأكبر من طاقاته ومجهوداته في الجبهة الشمالية بكونها جبهة القتال الرئيسية.

إذا ما تحقق هذا السيناريو، فهو لا يختلف جوهريا عن الوضع القائم اليوم. في مثل هذه الحالة، سيكون وجود الدولة الفلسطينية عاملا مساعدا لإسرائيل يسهل عليها مهمتها، مقارنة بسيناريو مماثل قد تتطور الأمور باتجاهه، باحتمال كبير، إذا ما تدهور الوضع إلى حرب متعددة الجبهات (في الجنوب، في الشمال وفي الضفة الغربية) في إطار "الوضع القائم" الراهن. وبالإجمال، يمكن القول إن الدولة الفلسطينية التي يمكن أن تشكل "تهديدا موازيا" إضافيا، عديم أي وزن عسكري جدي، لا يفترض أن تحدّ ـ بحد ذاتها ـ من قدرة إسرائيل على القتال في الجبهة الشمالية أو في أية جبهة أخرى. وبعكس ما كان في السابق، ستعرف إسرائيل كيف تلائم نفسها في حالة الطوارئ، سواء على صعيد محاور الحركة والتنقل، أو الجبهة الداخلية العسكرية أو مراكز التجنيد. هذه كلها لن تضع أية صعوبات أمام إسرائيل، على ضوء طابع التهديد المحدد والرد الذي سيقوم به الجيش الإسرائيلي ومع وجود دولة فلسطينية تتحمل المسؤولية عما يجري في مناطقها وينطلق منها، سواء في قطاع غزة أو في الضفة الغربية.

• السيناريو الثالث: تدهور الأوضاع إلى حدّ سقوط النظام الحاكم في المملكة الأردنية

سيناريو الانهيار في الأردن هو احتمال خطير جدا، بمعزل عن التهديد الفلسطيني، على خلفية مصادر تهديدات إقليمية مختلفة، من ضمنها "داعش"، "الإخوان المسلمون"، إيران والوضع الاقتصادي المتردي في الأردن. هذا التدهور لا يتصل بإسرائيل مباشرة ومن غير المفترض أن يشكل خطرا على الاتفاقية معها. ومع ذلك، فهو قد ينبع بالذات من تعاظم فلسطيني جدي (مصحوبا بتعاظم إسلاموي) قد يفضي إلى توحيد القوى في كلتا ضفتي نهر الأردن وإلى إذكاء مشاعر قومية ووطنية فلسطينية هاجعة في المملكة الهاشمية الأردنية.

مواجهة سيناريو الانهيار غير المباشر هذا ينبغي أن تتمحور في الوساطة وتقديم الدعم غير المباشر، وبدرجة أقل بكثير في استخدام القوة العسكرية.

يتصدى الأردن، حتى الآن، لهذا الخطر الجدي (الذي تصاعد كثيرا في أعقاب استيعاب أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين والعراقيين) بصورة جيدة ومثيرة للتقدير. وقد اكتسب، هو الآخر، تجربة غنية على مدى سنوات عديدة في مجال حفظ الاستقرار الداخلي. ولكن، مع ذلك، ينبغي الاستعداد مسبقاً لمثل هذا الاحتمال الخطير، وذلك في إطار اتفاق مع الفلسطينيين والأردنيين، سوية.

ويختم تسنعاني هذا العرض التحليلي بالقول: "في الخلاصة، جميع المسؤولين الذين تحدثت معهم بشأن هذا الموضوع أبدوا وعيا واضحا للخطر العيني الكامن في السير نحو تسوية سياسية على أساس إقامة دولة فلسطينية. وقد أكد جميعهم، مع ذلك، أن الوضع الحالي هو الأسوأ من بين جميع الأوضاع المحتملة، ولذا فإن إسرائيل ملزمة بالمبادرة إلى تغيير الظروف السيئة التي تراجعت إليها على المستويات الديمغرافية، الأمنية، السياسية والهوياتية".

ويضيف: "حتى أولئك الذين يؤيدون اتخاذ خطوات من جانب واحد يوافقون على أن البديل المفضل بالنسبة لإسرائيل هو التوصل إلى اتفاقية دائمة مع الفلسطينيين. مع ذلك، وعلى خلفية الشكوك بشأن قدرة الطرفين على التوصل إلى اتفاقية كهذه، فثمة تأييد واسع، حتى وإن كان اضطراريا ولانعدام أي بديل آخر، لخطوات إسرائيلية أحادية الجانب، حتى إن لم تؤد إلى تسوية النزاع بصورة نهائية، سيكون من شأنها تقليص الاحتكاك اليومي وتحسين وضع إسرائيل ومكانتها في الساحة الدولية".

 

 

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات