المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

لا تعبير أعمق عن أزمة ضياع القيادة الحاخامية، المركزية، التي يعيشها جمهور اليهود الحريديم (المتشددين دينياً) اليوم، من الصدوع التي تكشفت في قيادات الأحزاب الحريدية السياسية، المرة تلو الأخرى خلال الفترة الأخيرة.

أزمة التجنيد، العمل في خطوط السكة الحديدية في أيام السبت، الانتخابات البلدية القريبة- كل موضوع من هذه كان من الممكن أن يكون حالة واحدة، عينية، من اختلاف الآراء. لكن، عند وصل النقاط الكثيرة المتتابعة، تتولد لدينا الصورة.

من الناحية التاريخية، تصرفت الأحزاب الحريدية كعضلة واحدة متماسكة في مختلف الصراعات ما بين الدين والدولة. وحتى لو كانت ثمة اختلافات في الآراء بين "صقور" أكثر تشدداً أو أقل، أو بين مصالح متداخلة، فقد استطاعوا التوصل إلى موقف موحد متفق عليه في الغالب. وبهدوء نسبي، من وراء الكواليس، اصطف أعضاء الكنيست الحريديم في صف واحد موحد وبمطالب موحدة في وجه العالم الخارجي، إدراكا منهم بأن قوتهم تكمن في ذلك.

لكن الأمور تبدو مختلفة منذ فترة طويلة. فنائب وزير الصحة، يعقوب ليتسمان، رئيس "أغودات يسرائيل" التابعة للحركة الحسيدية، يجد نفسه وحيداً، مرة تلو الأخرى، وهو يخوض صراعات مبدئية في قضايا مركزية. يتسلق أشجارا عالية، بسرعة مذهلة، دون أن يكون زملاؤه بجانبه، ثم يبحث في نهاية المطاف، وحيداً أيضا، عن سلالم للنزول. وموشيه غفني، رئيس "ديغل هتوراه" وشريك ليتسمان في القائمة الموحدة "يهدوت هتوراة"، وكذلك رئيس "شاس" أرييه درعي، يقفان جانبا ويتذمرون من حين إلى آخر، من أداء ليتسمان. وهو أداء يمليه ويوجهه الحاخام الأكبر والرئيس الروحي لطائفة "الحريديم الحسيديم" ويقوم ليتسمان بتنفيذه بإذعان تام.

ليتسمان، الذي كان محبوب الجمهور حتى فترة غير بعيدة، تصدر لوائح الوزراء الذين يحظون بأعلى نسبة من رضى الجمهور الإسرائيلي. حصل على التقدير الأكبر من أولئك الذين لم يكن من الممكن أن يخطر في بالهم يوماً التصويت لحزبه. وما كان لزملائه حول طاولة الحكومة سوى أن يشعروا بالغيرة والحسد، فقط. لكنّه عند تلك النقطة، تذكّر ـ كأنما استيقظ من حلو جميل ـ أن عليه الحذر من الزهوّ بكلمات الإطراء التي يغدقها عليه مشاهدو النشرات الإخبارية وقراء الصحف. فهؤلاء ليسوا من المصوّتين له، ولا من قادته الروحيين بالتأكيد. قاعدته موجودة هناك، عميقاً في الشارع الحريدي، الحسيدي، المتعصب جدا، في بعضه. هو (الشارع الحريدي ـ الحسيدي) الذي ينبغي عليه اكتساب تأييده وإثارة تقديره. وما المثير أكثر من التضحية بالنفس من أجل القيم التوراتية والتعصب في تنفيذ أحكامها.

وهكذا، وبعد أن استسلم لمعاركه ضد "الأكل السريع"، عاد بكل قوته إلى القضايا الجوهرية. كانت أزمة القطارات المثال الأفضل. تشرين الثاني 2017، ليتسمان يهدد بتقديم استقالته. غفني ودرعي ينضمان إليه، بصراخ عالٍ، احتجاجا على المس بقدسية السبت، يخشيان الظهور ـ حاشا لله ـ كأنهما مساوِمان، في نظر المصوتين لهما، لكنهما لا يتفقان مع ليتسمان في التهديد ويتركانه يستقيل، وحده، من منصبه المحبوب، احتجاجا. بعد ذلك بفترة قصيرة، عاد نائب الوزير عبر الطريق الالتفافية التي أتاحتها له المحكمة العليا. خداع، لا أكثر، لكن مع رسالة هامة للبيت أيضا. منذ ذلك الوقت، وجد نائب الوزير وقتا كافيا لنثر جملة من التصريحات والتهديدات. مرة عن تفكيك الحكومة، وأخرى ضد قانون التجنيد. وهو قانون "ولا في الأحلام"، بموافقة ومباركة الأجهزة الأمنية. قانون لم يجرؤ حتى مندوبو الحريديم في "لجنة شاكيد" على أن يحلموا به.

قبل بضعة أسابيع، أدلى ليتسمان بتصريح آخر، كان أشبه بدعوة للمواجهة الصدامية، وجها لوجه، مع الجمهور غير الحريدي في مدينة القدس، حين طالب بإغلاق مجمع الترفيه في سوق "محانيه يهودا" في ساعات الليل، شرطاً لدعم الحريديم لأي مرشح لرئاسة بلدية المدينة. لم يكن درعي وغفني مستعدّين حتى للنأي بنفسيهما عن هذا المطلب غير المعقول. إنه "المجلس" الحسيدي الذي أرسله، ثانية، لخوض معارك لا ناقة له فيها ولا جمل. لكنه مثل الطالب الذي يلغي ذاته أمام الحاخام، انطلق إلى المعركة بكامل قوته، برغم علمه المسبق بأنها خاسرة ولا أمل له فيها، إطلاقا.

هكذا، إلى حد بعيد، سيبدو اليوم الذي سيلي "الحاخامين الأكبر". لقد جرى تعويد الجمهور الحريدي، طوال عشرات السنين، على وجود القادة، العظماء. هؤلاء الذين بكلمة واحدة فقط يُخرجون مئات الآلاف إلى الشوارع. هم يقررون المسموح والممنوع. وحتى حين لا يقولون، فهم يقولون شيئا ما، على طريقتهم هم، بالشيفرة التي يفهمها الجمهور ولا يطلب شيئاً آخر غيره. وكلها أقوال من عند الرب. هذا منح السياسيين الحريديم الهدوءَ، على المستوى الجماهيري. عملوا بصورة حثيثة من وراء الكواليس، محاولين التأثير على الحاخامين وتجنيدهم لدعم خطوات سياسية معينة. في "شاس"، كان الحاخام عوفاديا يوسيف، وفي "يهدوت هتوراة" الحاخام إلياشيف، ثم الحاخام شطاينمن لاحقا ـ وجميعهم رحلوا. لكن في اللحظة التي كان الحاخامون يقولون كلمتهم، بالصوت أو بالكتابة، كان ينتهي النقاش. يمكن أن نستذكر عظات أمسيات السبت التي ألقاها الحاخام عوفاديا يوسيف. ففي أوج العاصفة الجماهيرية المناوِبة، كان يخرج، يلقي درسا في التوراة، ثم بجمل قليلة جدا يحسم الأمر: لهذه الجهة أو تلك. جيد أم سيء. نجس أم طاهر. كان، أحيانا، يعزي الجمهور على قرارات تسوية هي أهون الشرور، لكن ينبغي التعايش معها. ونشبت، غير مرة، خلافات في الآراء بين الحاخامين أنفسهم، لكنهم كانوا يحفظون احترام بعضهم بعضا، في الغالب.

بداية الانقسام الحريدي

بدأ الانقسام الحريدي، على نحو ضيق، بين جمهور "الليطائيين"، قبل سنوات من وفاة الحاخام شطاينمن. فقد قاد "الجناح المقدسي" حملة احتجاج صارمة ضد الحاخام، بصورة مباشرة. وصفوه بأنه مساوِم ونسبوا إليه موافقة صامتة على إقامة وحدة "ناحل" الحريدية (في الجيش الإسرائيلي) وعلى تفاهمات مع الجيش حول مسار مخفف لتجنيد شبان حريديم لا يقضون أوقاتهم في دراسة التوراة. ازدادت هذه الصراعات احتداما كلما تقدم الحاخام في السن. وقف "الجناح المقدسي" ضد الحاخام بصورة علنية، ثم دفع بمرشحين عنه في الانتخابات البلدية، التف حوله غير قليل من المؤيدين ورسم لنفسه صورة التيار غير المساوِم في القضايا والمواقع التي كانت القيادة المركزية تساوِم فيها، ظاهريا.

يجدر هنا التذكير بأن ذلك الجناح، بالذات، هو الذي وهب نير بركات الدورة الأخيرة في رئاسة بلدية القدس، حين دفع قدماً بمرشح عنه وشتت الأصوات الحريدية، عن قصد وسبق إصرار كما يقول البعض، خدمة لبركات بواسطة تصديع الكتلة التي كان بإمكانها ضمان رئاسة البلدية للمرشح الحريدي موشيه ليئون، بسهولة. وإذا ما أضفنا إلى هذا الصفقة التي عقدها بركات مع أتباع "حسيدية غور"، فسنرى مَن وما الذي تسبّب بفوز المرشح العلماني على المرشح المتدين، الذي اعتُبر ممثلا للوزير درعي.

لم يرَ الجمهور الإسرائيلي في نهاية عهد "العظماء"، ربما، نقطة تحول قد تفضي إلى تفكك الجمهور من الداخل. هذا صحيح جزئيا، فقط. فغياب القيادة ذي السلطة يتيح قدرا أكبر من الحرية للفرد البسيط، الذي يصبح قادرا على وضع حدود أكثر مرونة لنفسه، حتى وإن اختار البقاء في إطار "الشارع الحريدي" وجزءا منه. ومع ذلك، يجدر الانتباه إلى ظاهرة جانبية أخرى مترتبة على غياب القيادة، وهي غياب صوت متعقل يقول "إلى هنا"، أيضا.

إن الحاخام عوفاديا، الحاخام شاخ، الحاخام إلياشيف والحاخام شطاينمن، كانوا قادة كبار القامة رفيعي الشأن قادرين على عقد التسويات وتحملها. كانوا سلطة قادرة على تطويع الواقع، بأثر رجعي أيضا. كانت أكتافهم عريضة إلى حد كاف. كان يكفي أن ترى مئات الآلاف الذين شاركوا في وداعهم الأخير، واحدا تلو الآخر خلال السنوات الأخيرة، حتى تدرك حقيقة أن الجمهور الذي سار خلفهم كان قطيعا مخلصا لهم، وهم على قيد الحياة. لم يبق أحد من جيل العظماء وقد تبدو النتائج الفورية في الميدان بصور أكثر تطرفا. ثمة شخوص تحاول أن تحقق مركزها وبروزها من خلال الإيغال في التعصب والتطرف. وثمة اليوم طبقة كاملة، معتدلة جدا، من الجمهور الذي يشعر بأنه قد فقد آباءه الروحيين، لكنه برغم ذلك قد يعتبر تلك الأصوات المتطرفة "حراساً". أولئك الذين قد يبدو غفني وأوري ماكليف، الحريديان المتزمتان، حيالهم، براغماتيين يدوّران الزوايا لضمان بقائهما جزءا من اللعبة السياسية.

وإذا ما أضفنا إلى هذا، أيضا، الشعور السائد في الشارع الحريدي بأن ثمة حالة من التفكك، ليس في الهوامش فقط، فسنحصل على صورة تعكس حالة من الذعر. فهناك أعداد متزايدة من الشبان الحريديم الذين يختارون الانخراط في التعليم الجامعي، والتجند في صفوف الجيش، وهناك انخفاض معدلات الولادة ـ وكلها ظواهر قد يعتبرها العلماني تطورا مباركاً، لكن الشارع الحريدي ينظر إليها بكونها شارات تحذير.

ثمة اليوم محاولة تقوم بها قيادات حاخامية معتدلة للإمساك بزمام الأمور وتهدئة الخواطر في ما يتعلق بقانون التجنيد، لكن من الصعب التنبؤ بمآلات التطورات في أوساط هذا الجمهور الهائل، الذي يعدّ اليوم نحو مليون إنسان.

وما من شك في أن هذا الانقسام يتحول، تدريجيا وببطء، إلى شرخ عميق، وتمزق في العضلة، وسيجعل من الصعب عليه البقاء كتلة واحدة على المدى الطويل.

_______________________

(*) محلل شؤون اليهود الحريديم في القناة التلفزيونية الإسرائيلية الثانية. هذا المقال نشر في عدد حزيران 2018 من مجلة "ليبرال" الشهرية الإسرائيلية. ترجمة خاصة.

 

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, محانيه يهودا, الكتلة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات